نظرت إلى الطبق الذي صنعته أمي، كان فيه الدوالي الذي أعشقه، لكن مكوّنا سريا فُقد فيه، إنه الحب وذكريات الطفولة!
لقد دُعيت عند الكثير من أصحابي، كان يؤلمني افتخارهم بطعام أمهم بأنه ألذ ما يأكلوه، وبالمقابل كانوا يغارون من الثياب الجميلة التي تبعثها أمي,
لم أكن أريد الثياب, كنت أريد "أمي" التي كانت تطل أياما قليلة خلال الخمس سنين وترحل، يختلط فرحي بالمشاكل التي تحدث أثناء وجودها.
وأعرف أمي بصورة أراها قبل النوم وبمقابل هذه الصورة كنت أرى وجه عمتي وجدتي،الذي يُشبعني حنانهم وأتذوق طعامهم وكان ألذ المكونات السحرية، طعمها يتعلّق بالطفولة والذكريات .
التهمت لقمة فوجدتها مالحة وامتنعت، وأنا لم أعتد على طعم الملح، حتى لا يرتفع ضغط جدتي وتمرض، ابتسمت أمي ابتسامة صافية وقالت:مالك يا حبيبي لم تأكل؟
ابتسمت ابتسامة مقتضبة وقلت: لم أعتد على الملح، ولا أحبه.
ضحك أبي ساخرا: اعتاد ابنك على طعام جدته بدون ملح، كنت أتشاجر معها لتضع الملح فيه، فأي نكهة بدون ملح؟
قلت غاضبا: لكني نشأت على طعام جدتي الذي لا ملح فيه، فكان طعمه في فمي ألذ من أشهى الأطعمة
وقفت لأستأذن فقال أبي بحزم: لا أكمل طبقك .
فجلست حزينا..
كانت عمّتي تنظر إلى الطبق وتقول بحزن: ألن يأكل باسل معنا؟
الجدّة: رجعت ريما لعادتها القديمة! رجعت أسماء وربما لن تري باسل لمدة شهور.
وقفت عمتي وقالت حزينة: شبعت.
رجعت غرفتها المكونة من فراش خزانه وسجادة قديمة مهترئه، وبجانب الخزانة زاوية تكومت فيها الأغطية بطريقة مرتبة، تناولت أحداها، وضعته جانبا، أحضرت "فرشة" ووضعتها بالقرب منها، تتأمل من أن ينزل باسل إلى بيت جده وينام بالقرب منها كعادته
لكن خيالها طاف وابتعد إلى الحبيب الذي استشهد في نابلس، واختلطت الذكريات مع قطرات الدموع تنزف من حرقة القلب..
تذكرت...حينما تشابكت الأيدي في غرفة المعيشة، لم تكن تعرف كيف تضع المساحيق المجمّلة، لكن حمرة وجنتيها كانت أجمل وأصدق من أي تزيين تضيفه، شغفها لنابلس ولتعيش هناك كان كافيا لتنسى الخجل ولتمطره بالأسئلة عن نابلس عن هواء نابلس، عن أصالتها وأرضها، وحلوياتها.
وكان يجيب وخياله يطير إلى هناك، بأنفاس حب ونبضات قلب مشتاقة للقصر الذي في بستان.
يقول: عن أي مدينة تسألين يا سهيلة؟ عن مدينة صنعت التاريخ
هل أخبرك عن الشعراء الذين زاروا حبيبتي نابلس ووقعوا في غرامها
هل أخبرك عن هوائها النقي وقد حمل أجمل النسمات فجعل شجرها يعانق بعضه ويرسم أجمل الألحان..
أم عن أهلها الموجودون والذين مضوا وقد رسموا خطوط المجد بأناملهم وسواعدهم
فكانت تشعر بسعادة غامرة فهي ستزوج من تحب وتعيش في المكان الذي تحب.
وقبل الزفاف بأسابيع حدثت الانتفاضة ودخل شارون المسجد الأقصى واشتعلت فلسطين بأعراس الشهداء ووقف بطل جبل النار يحمل حزامه الناسف، ويحمل حبه لفلسطين ولعروسه الجميلة ..
وأحرقهم في جبل النار فكانت نار تحرق أجسادهم وقلوبهم..
نزلت ورأيت دموع عمّتي فمسحتها وقلت باسما: ألن تقومي يا عمتي وتطعميني أم أذهب إلى المطبخ وأحرق أصابعي.
قفزت عمتي واحتضنتني كأنها لم ترني منذ دهر وقالت: طبعا يا حبيبي.
الروابط المفضلة