كدت أفقد وعيي حين انخرطت في زحام القادمين للإصطفاف خلف الطوابير الطويلة أنتظر ختم الدخول إلى وجهتي المفضلة ، يتزاحم آخرون حول الحقائب التي تقذف بها أحزمة الأمتعة ، كان الوقت إجازة صيفية .. و المطار يعج بكل الأجناس التي تود السفر أو التي جاءت على متن طائرات مختلفة ، في كل مرة و بين الفينة و الأخرى تلقي الطائرات الآتية بحمولاتها و مكبر الصوت يعيد نفس الخبر و الإعلان عن وصول طائرات أخرى فيزداد الإزدحام و يتضاعف بتدافع الكثل البشرية الجديدة ....
في هذا الزحام و الزخم الشديدين لا شيء ينتشلني سوى رغبتي في الخلاص من إنهاء شأني الخاص بسرعة ، أحسست أن لي رغبة في الخروج من هذا المكان و كان حدسي صائباً ... المكبر من جديد يعطي بدء إشارة جديدة و مع التكرار سئمته و لكن هذه المرة كان لابد لي من كراهيته !!!! ... كانت الإشارة هذه المرة للإعلان عن وصول طائرة جديدة فتقرأ المضيفة بصوت هادىء و واثق و مغيظ بنفس الوقت : " تعلن شركة ـ العال ـ الإسرائيلية عن وصول رحلتها رقم ... القادمة من تل أبيب " ساعتها لم أرغب في إنهاء شأني الخاص فحسب و إنما رغبت في لطمة بقوة تلك القسوة لأستفيق و أصحو جيداً ، اقشعر بدني بالوقعة القاسية و المضيفة تكرر بلسان عربي فصيح الإعلان عن قدوم طائرة إسرائيلية و استقبال ركابها ....
قذفت بي اللطمة إلى خارج المطار و إلى خارج جسدي و فكري الآني إلى محطات أخرى كانت بها سفن سوفياتية و أخرى إنجليزية و أخرى و أخرى .... سبحانك ربي لا فرق بين الأمس و اليوم ...
خارج زحام المسافرين شرد ذهني و أنا أتخيل الشريط الذي مر أمام أعيني في ظرف وجيز جداً و حلق بي الفكر في أجواء العاصمة التي كانت عصية و منيعة على مر سنين ، بل قرون ، كيف تسمح أن يمتزج صوت آذان صوامع مساجدها بصوت " العال " و بصوت المكبر و المضيفة و تختلط أجواء قلاعها الشامخة و جبالها و هضابها و سهولها بأجواء حلقت بها " العال " ...
نظرت لكل ما حولي نظرة اشمئزاز و غضب و عتاب و لم يخطر ببالي قط أنه من واجبي أن أوفر قليلا من سعة الصدر خصوصاً و أنني في إجازتي الصيفية ... تقذف بي اللطمة القاسية هذه المرة إلى حروب عديدة سقط فيها رجال ليسوا ككافة الرجال ، سقط بها آلاف الشهداء رضاءً للدين و الوطن بعد أن دافعوا ببسالتهم على هذه العاصمة و عن بهائها و نظفوها بدمائهم الزكية من دنس بني صهيون ...
اليوم غدرت بهم كل القيادات و أكتاف الأوسمة و بياعي الضمائر و لكن لم أنس أبداً أنهم كانوا من جبال التضحيات و مدارس تخرجت منها الأمهات و الزوجات تحملن شواهد الصبر و الثبات ، و ظفروا بالشهادة التي أتوق إليها على عتبة عاصمتهم ....
خجلت من نفسي و قدمي تطأ نفس المكان الذي تطأه أقدام الأعداء ... إنه المطار الذي أعلنت فيه المضيفة عن استقبال طائرات العدو و عن دخول ركابها إلى قاعات الإستقبال ... ما لفت نظري هو أنهم لا يصطفون بالطوابير كما نحن ، يمرون بسرعة و هم يحملقون في وجوهنا ، أرقبهم و كلي غيظ و هم يحصلون على أختام الدخول بسرعة و ينطلقون مهرولين إلى أمتعتهم ... جمدت بمكاني ـ وسط الطابور ـ من وقعة المرارة و صقيع الخيبة ....
تذكرت زوجي الشهيد حين كان معي المرة السابقة بنفس المطار و هو يشير بيده الكريمة إلى إحدى اللوحات الخاصة بتوزيع الأمتعة التي تحمل إسم الطائرة و رقم الرحلة ... و أخبرني أن عمال الشركة الذين يحملون الحقائب عن الأحزمة و يمدونها للركاب أنهم أشقاء لنا جار عليهم القوت و الزمن و أصبحوا عمالاً لدى " العال " يحملون على ظهورهم نجمة بني صهيون ....
اليوم و بعد أن جالت بي ذاكرتي في أرجاء كل ما سلف عادت بها البوصلة إلى مكامن القهر و الغضب ... غزة الجريحة ... غزة الذبيحة و التي تليق بها كل الألقاب تشهد معي اليوم هبوط " العال" بكل المطارات و تدنس كل العواصم فأصبح المشهد عادياً عند البعض بل عند الأغلبية فلا بصري صار يسرح و لا جسدي يقشعر و لا إحساس بللطم ، فأي لطمات هذه و أي قشعريرة أبدان و المشهد لازال قائماً و زاد اسفحالا عارياً من كل شيء إلا من الفضيحة ....
فكرت ملياً في الشهيد الذي تشبث بالرصاص ستاراً له ليقي مستقبل أبنائنا فنزلت عبرة من مدامعي و كأنني أقول له في خجل هل سامحتنا و هل ستسامحنا و نحن نجهز على كل أحلامك و أحلام كل الشهداء ؟
و هل ستسامحنا غداً حين نقبل بنزول " العال" في مطاراتنا و بكل عواصمنا بعد أن حلقت بسمائنا و بعد أن حملت ما شاءت أن تحمل ؟
و " العال" لازالت تنزل بنفس القسوة و اللطمة ذاتها و ينزل معها عدم الإكتراث ذاته لمشاعرنا .
سعاد صالح البدري
الروابط المفضلة