كان بكر والديه ، نال شهادته المتوسطية الأولى بتفوق كبير ، إلا أنه و مع ضعف ذات اليد انقطع عن الدراسة بهذا السن المبكر ، و كان العزاء الذي يلتسمه لأهله رغم عوز والده الذي كان يبيع الخضر بتنقله بين الأسواق الأسبوعية المجاورة لمدينتنا الصغيرة ، هو عدم وجود إعدادية ببلدتنا آنذاك تمكنه من متابعة دراسته كأقرانه ...
إختاره رجال الحي مدرساً لهم و لأبنائهم ببعض كتاتيب نفس إقامته ، توالت ألأيام و السنون و كان يرتاد على الكتاب بعض المراقبين الحكوميين التابعين لوزارة التربية و التعليم ، أصبح سن أسعد يناهز السابعة عشر من عمره ، فكان من نصيبه أن يختاره من جديد أحد المراقبين الوزاريين الذي كان يثابر على مراقبة إنجازات أسعد من بين من سيجتازون مبارة الدخول إلى سلك المعلمين الذين تمت ترقيتهم و ازدادت مراتبهم بالمدارس الحكومية ...
إجتاز أسعد المبارة بامتياز و كانت نسبته أول النسب بين الطلاب ، غمرت الفرحة و السعادة ليس ذاك البيت الذي شب فيه أسعد و لكنها تعدت أرجاء أسواره إلى الجيران و الأحباب و طلاب الكتاتيب ، و ما زاد أسعد سعادة هو تعيينه بنفس مدينته الصغيرة ، زاول أسعد عمله بتقنية و ضمير عاليين مما زاده حب الجميع من الإدارة و خارجها ، و كان التلاميذ آنذاك يتمنون التعلم على يديه و بفصله ...
مرت الأيام عادية كسائر الأيام ، و جاءت المفاجأة التي صعقت قلوب الأسرة و الجيران في آن واحد ، توفي والد أسعد إثر حادث سير مروع و هو عائد من أحد الأسواق ، كان الوقت الساعة الحادية عشر بالضبط صباحاً ، و كان الزمن صيفاً حاراً ، ليفقد بذلك أسعد السند القوي و اليد اليمنى التي ساندته على أعباء الحياة ، ترك الأب إرثاً لا بأس به يتكون من ست أخوات إناث و أربعة إخوة ذكور بما فيهم أسعد ، يعيشون كلهم تحت سقف واحد بالإضافة إلى زوجته و والدته ، جدته لوالده و أخت جدته .... كان البيت يعج بالقريب و البعيد من الأصول ...
كثرت المسؤوليات على عاتق أسعد خصوصاً أن إخوته كلهم يدرسون و أخوه الذي يليه بالسن يأمل بعد نيله شهادته الثانوية في الدراسة خارج الوطن ...
وميض دافىء سيغير عتمة الحياة على أسعد و أهله ، نور طل من باب البيت مباشرة ، جاء فارس لتمتطي صهوة جواده إحدى الأخوات ، إنه ابن خالة أسعد ، طالباً يد أخته الكبرى ، واصل أسعد و صهره الجديد جميع الإجراءات الخاصة بالخطوبة و عقد القران بكل فرح و غبطة لا مثيل لهما ، لِمَ لا ؟ و هو الذي سيضرب عصفورين بحجر واحد ، إنها أخته الكبرى التي سترحل مع عريسها إلى الديار الفرنسية ، إنه أخوه ، الطرف الثاني الذي سيتمكن من متابعة دراسته هناك بالعاصمة الفرنسية باريس دون عناء الإستقرار كما اتفق أسعد مع ابن خالته .....
تمت منابسة الزواج التقليدية و كنا جميعاً أطرافاً سعيدة خلالها لترحل " جميلة " مع زوجها و فارس أحلامها إلى عاصمة الأنوار و العطور ، و هكذا سيلحق بها أخوها عبد الرحمان بعد سنة كاملة اجتاز فيها شهادته الثانوية بنسبة عالية ....
تزوجت الأخوات ، الواحدة تلو الأخرى ، و توظف الإخوة الذكور ، بعد كل هذه السنوات لم يحس أسعد بالأيام أنها مرت بكل هذا التقلب ، مرة مُرة و أخرى حلوة ، حين التفت ليرى زوجته الصالحة التي كابدت معه بكل صبر و حزم أن رأسها طالته بعض الشعيرات البيضاء ، و أن له أولاد لم يترك لهم الحرية في معرفة أبيهم من جدهم ، إنه هو الذي أفنى قسطاً من حياته في تربية إخوته و أخواته بكل ما تتطلبه الحياة ، لم تكن الزوجة الصالحة هذه إلا واحدة من بنات أعمامه ، تصادقت فترة زواجها مع الكل إلى أن أصبحت صاحبة الرأي الأخير و المشورة في كل كبيرة و صغيرة ، لم تقل يوماً أن أبناءها في حاجة لها أو إلى الإستقلال بذواتهم ، الكل كان متعايشاً زارعاً المحبة هنا و هناك ...
بالفعل حين انتهت المهمة مع الكبار وجد أسعد و زوجته أن لهما ثلاثة ذكور و أنثى ، انقطع الأول و الثاني عن الدراسة بسن مبكرة و تزوجت " نزهة " بموظف حكومي ، ...
الله كبير لا ينسى عباده الصالحين و أواصر الأخوة حبال لا تقطعها المسافات و مشاغل الحياة ، التفت إخوة أسعد إلى أبناء أخيهم و كل حسب قدرته ، فمنهم من فتح محلات تجارية للولدين الإثنين و منهم من أخذ الإبن الصغير الذي تابع دراسته بتفان إلى العاصمة الفرنسية حيث يعمل الآن مهندساً ...
تزامت هذه الظروف الأخيرة مع إحالة أسعد على المعاش ، مرت الأيام طبيعية و لم تتجاوز أيام تقاعد أسعد عدة أشهر إلى أن أصابه المرض الخبيث إصابة مفاجئة و بليغة ، فنخر أحد أعضاء جسده بسرعة فائقة ، تألم الجميع ألماً مبرحاً لأنه ليس بمثابة أخ فحسب ، إنه الأخ و الأب و البار بوالدته التي لازالت على قيد الحياة ، إنه المدرس الجاد الذي لازال الكل يحترمه و يقدره ، ...
مرت أيامه الأخيرة بكل ألم موازاة مع وقفة رجل واحد لإخوته ، تثاقلت عليه الساعات و الدقائق و هو صابر محتسب إلى أن وافته المنية بشهر يناير من هذه السنة ، فبكاه كل الحي إن لم أقل كل المدينة ، و لازالت والدته العجوز تبكيه بحرقة لأن الجرح لازال جديداً عن الإندمال ....
كل قصصي واقعية ... أتمنى أن أرتقي إلى الأفضل
سعاد صالح البدري
الروابط المفضلة