قصة إسلام عبده إبراهيم


سنتعرف ونعتبر جميعاً بهذه القصة الطيبة من قصص الإيمان، قصة إسلام رجل من أهل الكتاب، والحقيقة أن فيها عبراً عظيمة جداً نحتاج إلى معرفتها لاستحضار نعمة الله سبحانه وتعالى علينا. وهي قصة إسلام الدكتور عبده إبراهيم -والد الدكتور عيسى عبده -.


نبذة مختصرة عن الدكتور عبده إبراهيم
نبدأ أولاً بالتعريف بوالد الدكتور عيسى عبده رحمه الله تعالى. فهو الدكتور: عبده إبراهيم بن إبراهيم أفندي عبد الملك ، من حي الظاهر في القاهرة، ولد عام (1883م). وصل في دراسته إلى المرحلة الثانوية، وكان لهذه المرحلة الثانوية شأن عظيم في حياته، وقد أمضى المرحلة الثانوية من سنة (1896م) إلى سنة (1900م)، أي: أربع سنوات، وليس ثلاث سنوات كما هو المعتاد، ولهذا سبب سنذكره إن شاء الله، ثم درس الطب بالقصر العيني خمسة أعوام -وهذه أيضاً مرحلة مهمة جداً سنذكر تفاصيلها- من سنة (1900م) إلى (1905م)، والتحق بالوظيفة العامة سنة (1905م)، ثم تزوج في صيف (1906م)، ورزق بولده الأول، وهو: فضيلة الدكتور: عيسى عبده رحمه الله تعالى المتوفى في التاسع من يناير سنة (1980م) ودفن بالبقيع في المدينة المنورة، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ثم رزق بابنه الثاني في يناير سنة (1909م)، وهو الدكتور: محمد عبده إبراهيم ، أستاذ الهندسة بجامعات سويسرا، وله أبحاث عالمية في تحلية ماء البحر، ولكل من الابنين قصة عجيبة سنذكرها إن شاء الله. كان أول عهد عبده بالوظيفة العامة في مصلحة السجون كطبيب سجن بين عامي (1905م) و(1910م)، وهذه المرحلة أيضاً لها قصة, وكان آخر عهده بالوظيفة العامة بوزارة الصحة أنه كان طبيب المركز بالسنبللوين في الدقهلية بين عامي (1910م) و(1914م)، ثم عمل طبيباً لمركز طبي في الشرقية من سنة (1914م) إلى (1918م)، ثم انتقل إلى رحمة الله -إن شاء الله- بالقاهرة في شهر يونيو سنة (1918م).





كيف اهتدى الدكتور عبده إبراهيم إلى الإسلام
نبدأ ببداية طريقه والتزامه بالاسلام، وهذه بداية مهمة جداً، وتشير إلى فائدة وبركة معاشرة الكفار للمسلمين، فمن المعلوم والمقطوع به أن الكفار الذين يعاشرون المسلمين يكونون أقل شراً من الكفار الذين لم يعاشروا المسلمين، فبركة مجتمع التوحيد وأهل الإسلام -بلا شك- تتعدى إلى غيرهم بصورة أو بأخرى، خاصةً إذا تحلى المسلمون بحسن الخلق؛ فإنه يُرغِّب كثيراً من الناس في الدخول في الإسلام. وكانت البداية في أواخر القرن التاسع عشر، حيث كان الخواجة إبراهيم أفندي عبد الملك يعيش في منزله بحي الظاهر في القاهرة، ومن حوله أسرة كبيرة العدد من الأقرباء والأصهار.
فقد كان التقليد المتبع في تلك الأيام هو أن تتجمع الأصول والفروع في مساكن متقاربة من بعضها، وقد تأصلت هذه العادة في القطر المصري وفي غيره من البلدان العربية المجاورة. وكان مما يميز هذه الأحياء السكنية هو أن كل طائفة أو أسرة أو جماعة معينة لها خصيصة تجمعها، فمثلاً: كانت الحلمية الجديدة مسكن أمراء المماليك، ثم من قبلهم من الأسر العريقة، كالحسين، والسيدة زينب، وكذلك مساكن علماء الدين الإسلامي، وأما حي الظاهر فكان يسكنه أسر القبط القدماء في مصر، وكان الخواجه إبراهيم عبد الملك يسكن منزلاً متوسطاً برقم اثنين وسبعين في شارع الظاهر، وكان لقب الخواجه حينئذٍ يطلق على وجهاء الأقباط ورجال الأعمال. ومن أولئك إبراهيم أفندي عبد الملك الذي احترف تجارة الجملة والوكالة بالعمولة، وكان قد اتخذ له مقراً تجارياً بحي الجمالية يقضي فيه يومه كله، فهو مشغول دائماً بأعماله الكثيرة لكسب رزقه ورزق أسرته الكبيرة العدد، وهو لا يستقر في داره إلا يوماً واحداً في الأسبوع، وهو يوم الأحد، وفي هذا اليوم من كل أسبوع كان أفراد الأسرة كلهم يجتمعون إلى مائدة الغداء بعد عودتهم من الكنيسة، حتى الذين يقيمون بالقاهرة بعيداً عن حي الظاهر من أفراد الأسرة كانوا حريصين على هذا الاجتماع العائلي الدوري كما يحرصون على أغلى ما يملكون.
وكان الخواجه إبراهيم عبد الملك قد رزق بأربعة أبناء من الذكور، وهم بحسب ترتيب أعمارهم: عبده -وهو أكبرهم -، و نسيم ، و سهيم، و سليم ، كما رزق عدداً آخر من البنات، اللاتي حرص على حسن تربيتهن كحرصه على تعليم أولاده الذكور وإلحاقهم بالمدارس وتوفير ما يلزم لكل منهم، حتى اشتهر بين أقربائه بأنه رب أسرة كادح ناجح. وكان عبده -ابنه الأكبر- مجتهداً ذكياً لم يتخلف في دراسته سنة واحدة، حتى وصل إلى السنة الثالثة الثانوية التي صادفته فيها ظروف بالغة الخطر ترتب عليها أن تخلف للإعادة. فكيف تخلف الطالب الذكي المجتهد عبده إبراهيم عبد الملك في امتحان البكلوريا -وهي الثانوية العامة- وهو الذي كان رمزاً للتفوق ومثالاً يحتذى بين أقرانه؟! ولماذا حدث ما حدث ولم يعهد عليه ضعف أو تراخٍ فضلاً عن الرسوب في الامتحان؟! إن الاجابة على هذين السؤالين تضعنا على أول الطريق إلى صلب الموضوع، ذلك أن بعض نظار المدارس الثانوية في أوخر القرن التاسع عشر الميلادي كانوا يستعملون أسلوب (الخلايا العلمية)، وهو أسلوب تربوي يقوم على أساس التآلف بين الطلاب، وذلك دون تحديد عدد معين، ودون أي محاولة للربط بين خلية وأخرى؛ إذ كان القصد من ذلك هو مجرد تشجيع الطلاب على التجمع في صحبة أو عُصبة أو مجموعة، ليكون نشاطهم العلمي والاجتماعي أجدى وأقوى من الناحية التربوية، وهذا أفضل مما لو ترك الطالب في سن المراهقة وأول النضج فريسة للوحدة في نزهته حبيساً في حجرة استذكاره لدراسته.
وهكذا اجتمع بقدر الله سبحانه وتعالى مجموعة أو خلية واحدة مكونة من ثلاثة أشخاص -وهم: محمد توفيق صدقي ، و أحمد نجيب برادة ، و عبده إبراهيم عبد الملك- تآلف أفرادها، وانسجموا ثلاثتهم، فانتظموا في عقد صداقتهم من أول الدراسة الثانوية، فما إن وصل ثلاثتهم إلى السنة الثالثة في الثانوية حتى باتت أواصر المودة بينهم قوية تشد بعضهم إلى بعض، حتى اشتهروا بين زملائهم بذلك، وعرفوا بما يحملونه لبعضهم من مشاعر الحب والإخلاص والاحترام. وكان محمد توفيق صدقي أيسر حالاً من الجميع، وتقع داره في جنينة المتاخمة لجنينة ناميش بحي السيدة زينب، وكان للدار في المدخل من جهة اليسار منظرة التي تسمى المضيفة أو مجرة الضيافة-، وهي ومرافقها شبه منفصلة عن البيت، أما أحمد نجيب برادة فقد كان رقيق الحال، كفله عمه بعد وفاة أبيه، فلم يكن الصحب يغشون دار عمه هذا بالحلمية إلا نادراً، مع أن الدار كانت فسيحة على الطراز القديم، ولها صحن فيه بئر ودلو، لكنها في النهاية لم تكن دار برادة، ولكنها دار عمه الذي رعاه بديلاً عن أبيه، أما عبده فقد كانت داره -كما قلنا- بالظاهر بعيدة عن السيدة زينب وبعيدة عن الحلمية، خاصةً مع صعوبة المواصلات في ذلك العهد، فضلاً عن وقوع حجرة عبده الخاصة في الطابق الثالث مع الأسرة. هكذا وجد الثلاثة أنفسهم متفقين بغير اتفاق على تفضيل منظرة صدقي للقاء بقصد الاستذكار وما يصحبه من صخب الشباب أحياناً، وقد زاد من تفضيل هذه المنظرة هو قربها من موقع المدارس الثانوية فضلاً عن قربها من المدارس العليا.
لكن الأمر لم يسلم، فبالرغم من ذلك كان الأصحاب الثلاثة يغشون دار العم برادة بالحلمية أحياناً مضطرين لسبب أو لآخر، وكان في صحن الدار -كما سبق- بئر ودلو، فكانوا إذا وجبت الصلاة وهم بدار العم برادة قام صدقي و برادة فتوضأ كل منهما ثم صليا، وكان عبده من دونهما يرقبهما بعض الوقت وهما يصليان، وهذا هو الخيط الأول الذي أشرنا إليه من قبل.
وكما يقال: كل نسيج قماش له بداية، وكل قصة إسلام لابد من أن يكون في بدايتها خير أو بصيص من النور يظهر، ولذلك فإننا نركّز -دائماً- على الخيط الأول الذي يختلف من إنسان إلى آخر، لكن أعم وأغلب الناس يكون الخيط الأول لهدايتهم -كما ذكرنا- هو حسن الخلق معهم، امتثالاً لقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]. كان عبده إذا خرج الاثنان إلى الصلاة يرقبهما بعض الوقت وهما يصليان، ويتشاغل عنهما بالنظر في أوراقه ما أتيح له ذلك، وبتكرار هذه المواقف من وقت لآخر خلال السنتين الأولى والثانية من الدراسة الثانوية نشأ في نفس عبده تساؤل عنيف عن سلوك صاحبيه، فقد رآهما كثيراً وهما يسعيان في اهتمام بالغ للتطهر حال سماعهما الأذان -بل ربما قبله استعداداً للصلاة- وهما يقفان في خشوع وخضوع مهيب أمام ربهم، ثم يركعان ويخران إلى الأرض ساجدين في هيئة تدل على تمام عبوديتهما لربهما، ثم إنهما يكرران ذلك بشكل إيماني رائع، حتى إذا جلسا للتشهد وفرغا من الصلاة وسلما عن يمين وشمال أقبل كل واحد منهما على أخيه يدعو له بقبول العبادة في محبة وود ورجاء، فكان عبده في كل مرة يسأل نفسه: ترى هل هما وفريق المسلمين على الحق أم على الباطل، فإذا كانوا على الحق فما حقيقة دينه إذاً؟ وإذا كانوا على الباطل فلماذا لا يصحح لهما عقيدتهما وكيف؟ مرت الأيام سراعاً، وبعضهم يخلص لبعض من غير أن يتعرضوا لمناقشة هذا الأمر، وهل ساور صديقيه نفس الخاطر الذي يساوره فمنعهما الحياء؟! فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يبدأ هو بالحديث معهما؟ وتشجع عبده فأفضى إليهما بقلقه من وجود اختلاف بينهم -كجماعة متحابة ومتماسكة- في أمر جوهري كهذا، خصوصاً وأن هذا الاختلاف لم يكن باختيار أحد منهم، وإنما وجدوه بينهم بحكم التوارث، فهو لا يفعل ما يفعلان لأنه جاء إلى هذه الدنيا من أبوين يدينان بالنصرانية، ولو أن أبويه كانا من أسرة مسلمة لما وجد هذا الخلاف، ثم إنهما لا يذهبان إلى الكنيسة في يوم الأحد، ولا يفكران في شيء من ذلك؛ لأنهما ولدا في أسرتين مسلمتين، ولو كانا قد ولدا في محيط نصراني لما وجد هذا الخلاف! قال عبده فيما يرويه صديقه برادة -وكان قد عاش طويلاً بعد وفاة صاحبيه-: ليس هذا مما ينبغي أن يكون عليه الشأن بين إخوة جمعهم رباط العلم، وملأ قلوبهم كل هذه المشاعر من الحب والصفاء، وإنه لمن الإخلال بواجب المودة الخالصة من الشوائب أن تستمر الحال هكذا علناً بيننا في هذا الأمر الهام، فلابد من أن يكون صديقي مخدوعين، أو أن أكون أنا جاهلاً بما يؤمنان به.
نهض عبده من مجلسه، وتقدم قريباً من البئر، وتبعه صاحباه ينظران في شأنه، فقال: أرياني كيف تفعلان، وأعيناني كما تتعاونان في رفع الماء من البئر وصبه على أطرافكما، وهل لذلك قواعد وأصول عندكم؟ فأجاباه إلى ما طلب وهما يعجبان مما فعل، وأجرى عبده الماء على يديه ووجهه وذراعيه ورأسه وقدميه في تجربة بدائية لم يكن يستهدف منها إلا الوقوف على شيء غامض في داخله، وربما وجد إجابة للسؤال الذي يحيره منذ حين، وهو: ما حكمة صب الماء على أطراف الجسم مع التكرار؟!
لاحظ عبده بعد عملية الوضوء أن أول الآثار التي أصابته من جراء صب الماء على أطرافه أنه أحس بنوع لذيذ من الانتعاش واليقظة والانتباه ملأه ابتهاجاً وثقة بالنفس، فعاد يسأل: هل سبب ذلك الانتعاش وتلك الثقة هو ما أراه بعيني الآن من نظافة يدي ومنافذ وجهي، وطهارة رجلاي وطيب رائحتهما؟ إنه يرى في الأمر سراً لا يزال خافياً عليه، لكن ما صنعه ليس مجرد عبث صغير كما كان يراه من قبل، وإنه ليرى من وراء هذا الصنيع بعض المعاني الكبيرة التي لا يحجبه عنها إلا جهله بهذا الدين الإسلامي، فطلب منهما أن يحدثاه عن حكمة الوضوء وأركانه وسننه ونواقضه، وعن حكمة القيام والقعود والسجود وتكرارها، ولم يكن صاحباه في هذا السن على قدر واسع من العلم




إعلان الدكتور عبده لإسلامه بين أسرته وأقاربه
يقول أحمد نجيب برادة : لم يكن الإسلام بعيداً عن صاحبنا وزميلنا عبده منذ بدأ دراسة الأديان قدر اجتهاده في آخر عهده بالثانوية العامة وأول عهده بدراسة الطب، ولكن دراسته للتشريح نحواً من عشرين شهراً نقلته من حال إلى حال، فقد تملكه خوف من لقاء الله وهو في تردده وجهالته بحقيقة التوحيد والبعث والثواب والعقاب. وكان عبده يتعامل مع الجثث، ويبقى مع الميت أحياناً، ثم اجتمع إلى صاحبيه وقال بأنه آمن بالذي هما والمسلمون عليه، وبأنه سيبدأ باتخاذ ما هو مستقر من اجراءات التوثيق، وشهر إسلامه.
فزع صاحباه من هذه العجلة، وقالا له: استمع إلينا -أيها الصديق- جيداً: أنت تعلم حبنا ووفاءنا لك، وأننا سنخلص لك النصيحة حتماً، وأنت الآن بينك وبين التخرج ومدة الامتياز عامان ونصف العام، وهذا الأمر إن أنت أقدمت عليه متعجلاً ستكون له آثار خطيرة وشديدة على والديك وإخوتك وأهلك، وأقل ما سيلحقونه بك من ضرر هو ضربك وطردك من الدار ومحاربتك، وأنت بكل ذلك ستعرض مستقبلك للدمار، وهذا الدين القويم الذي رغبت فيه يأمر بالحكمة والتعقل، فالرأي عندنا أن تتمهل، وأن تستخفي بدينك حتى تتخرج وتكون لك وظيفة تكسب من ورائها رزقك.



ثم إنك في حاجة إلى مزيد من الدراسة، والله يعلم منك صدق نيتك فيما تدعيه، فأنت عند الله -إن شاء الله- من المقبولين ما دامت قد صحت نيتك، فلا تتعجل التوثيق وإشهار دينك الجديد حتى تكون العلانية مأمونة لك. فما كان منه إلا أن رضخ لهذه النصيحة، لكنه وجد تعلقه بالدين الجديد يشتد ويقوى لحظة بعد لحظة، ويوماً بعد يوم، ولم يعد يطيق كتمان مثل هذا النور الذي يشعشع في مسامه وينير عقله وقلبه، فصار يتصرف دون الرجوع إلى صاحبيه حتى لا يشيرا عليه بما يكره من صبر وكتمان، فعكف على القرآن يتلو آياته كلما وجد من وقته فسحة وفراغاً، وحرص على أن يكون في جيبه دائماً، وبدأ يؤدي من الصلوات ما تيسر له أداؤه في خفاء خارج البيت أحياناً، وفي حجرته إذا أمن على نفسه أحياناً أخرى، ومضى عامان إلا قليلاً وهو يتعجل الأيام لتمضي ويتحقق حلمه، وبدأت مدة الامتياز وهي أقل من عام، وحل شهر رمضان بروحانياته وبركاته، فاعتزم طبيب الامتياز أمراً، وما عاد بعد الآن يستشير فيما وضح له من الحق أحداً. كانت هناك عادة في منزل والده إبراهيم عبد الملك أفندي الذي هو الخواجه كما كانوا يسمونه، وكان الموعد مقدساً عند الأسرة، وهو موعد الغداء يوم الأحد، وهو اليوم الوحيد الذي يتفرغ فيه الأب للاجتماع بجميع أولاده، فتخلف عبده عن حضور الغداء يوم الأحد؛ لأنه قد بدأ شهر رمضان على غير ما جرت به عادته وعادة الأسرة كلها، وسأل عنه أبوه ظهراً وعصراً ومساءً، ولكن عبده لم يحضر إلى داره إلا في ساعة متأخرة من الليل، فقيل له: إن الأسرة كلها قلقة لهذا التخلف، وإن الظنون ذهبت بهم كل مذهب. وكان رده: إن الأعمال في قسم الاستقبال كانت كثيرة على غير المألوف أو المتوقع لها، وقد اعتذر عن الحضور للعمل زميلان له، فقضى اليوم كله في مواجهة الحالات العاجلة التي كان ينبغي لهما استقبالهما لو حضرا.
وجاء الأحد الذي يليه وتوقف الخواجه إبراهيم عن أن يذوق طعاماً أو شراباً حتى يصل ابنه الطبيب، وطال انتظاره له ساعات وساعات حتى غلبه النوم، فقام إلى فراشه مكتئباً وقد داخله هم لا يعرف من أين أتاه، أو هو يعرف ولكنه يداري نفسه هروباً من مواجهته، حتى فزع بآماله إلى الكذب، وعند منتصف الليل جاء الطبيب إلى الدار وعليه من آثار الاجهاد ما يظنه في نفسه شفيعاً، واتجه إلى حجرته بخطوات متعبة، وتبعته أمه وهي تقول له: أين كنت اليوم بطوله يا بني؟!
إن أباك لم يذق طعاماً ولا شراباً اليوم؛ لأنه يكره أن يكون مكانك خالياً من غداء الأحد، وهذه هي المرة الثانية التي يتكرر فيها ذلك على التوالي، فهلا ترفقت بنفسك وبأبيك وبنا جميعاً فيما تقبله من واجبات بسبب تخلف زملائك عن نوبات عملهم، بل هلا رحمت أباك وترفقت به بعد أن تقدمت به السن؟ وترفق عبده بأمه وهو يجيبها إلى ما سألته، لكنها عادت تلح وتسأل وهو مرهق مجهد، فقال لها: يا أماه!
وحشد لها من صنوف المعاذير ما يظنها اقتنعت به، وهما لا يزالان في حوار إذا بمساعده في المستشفى يطرق الباب ويطلب من الطبيب الحضور إلى المستشفى على عجل لوقوع حادث كبير تضاعفت بسببه الحالات، لذا تعين استدعاء كل الأطباء، ولكن عبده لم يكن قد مضى على حضوره لداره ساعة وبضع الساعة قضاها في حوار مرير مع أمه، ولم ينل قسطه المقرر من الراحة أو حتى بعضه، ولكنه طلب من أمه أن تعينه على استبدال ملابسه ليمضي فوراً مع مساعده الذي لا يزال واقفاً بالباب.


ثم انطلق الطبيب مع مساعده، ولفهما الليل ولف المكان سكون مبهم من ذلك النوع الذي ينبئ بقرب هبوب عاصفة قوية، وفي الليلة الثانية جاء من المستشفى من يستدعي الطبيب عبده ؛ لأن الطبيب المناوب قد اعتذر فجأة، وبعدها تكرر الطلب في جوف الليل من جديد مرة بعد مرة، وتنوعت الأعذار حتى جاء يوم الأحد الثالث وأبوه يتابع ولا يتكلم، فقد غشيه من الهم غاشية لا قبل له بها، وعلى مائدة الغداء جلس ينتظر ولده ساعات، وبه من الهم والكرب والهواجس والشكوك ما يهد كيانه ويزلزل وجدانه، وتحامل الأب على نفسه وهو ينهض بعيداً عن المائدة فاختل -أي: كاد يسقط- لولا أن أعانه بنوه، وأمرهم بأن يجلسوه على مقعد مقابل لمدخل الدار، وبقيت عينه شاخصة لكل قادم، لكن ساعات طويلة مضت وهو على ما هو عليه، حتى قارب الليل أن ينتصف وغرقت الدار في سكون حزين مبهم. وأقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاث مرات متواليات فألفى أباه لا يزال جالساً لدى مدخل الدار، فتمالك نفسه وحياه، ولكنه لم يرد التحية، وبادره قائلاً: أين كنت طوال اليوم -وهو يوم الأحد
قال الطبيب متلطفاً: بالمستشفى كعادتي يا أبي، وساد بينهما الصمت فترة حتى تمالك الرجل نفسه، وقال في هدوء مصطنع: إن أمرك يا بني لم يعد خافياً علي، خاصة بعدما تكرر غيابك كل يوم أحد، ولقد اجتمعت عندنا دلالات خطيرة عن سلوكك في العامين الأخيرين، وهي دلالات أيقظت في نفسي ظنوناً تكاد تقتلني حسرة على ما آل إليه أمرك، وما صرت عليه من حال، فهلا حدثتني بحقيقة الخبر وصدقتني القول؛ فإنني لأجد الحقيقة -مهما بلغ سوءها- أرحم بي مما أنا فيه.
قال الطبيب الشاب: إني محدثك بالصدق يا أبي، فما هي هذه الدلالات والظنون التي تشير إليها؟ قال الوالد: كتاب المسلمين، وجده الكواء في جيبك من نحو عامين، وقد كتمت الأمر ظناً مني أنك ستعود إلى صوابك ورشدك فتنتهي عما أنت فيه، وها هو الكتاب فانظر إليه جيداً، أليس هذا الكتاب يخصك؟ أجب أيها الضال؟ سكت الطبيب لحظة، ثم قال: بلى يا أبي، الكتاب يخصني فعلاً.


فثارت ثائرة الأب لجرأته، فعاد يقول: وأخوك سليم رآك من ثقب الباب وأنت تقوم وتقعد على غير هيئة الصلاة عندنا، ولقد حدّث أمه بما رأى فكذبته ونهرته، لكنها راقبتك بنفسها، وقد ثبت عندها صدق مقالة أخيك، فهل تفعل هذا حقاً حين تخلو إلى نفسك في حجرتك بداري؟ سكت الطبيب وقد بدا له أن الأمر جد ما بعده جد، وعاد الوالد يقول: لقد أصابني من ذلك ما لا قبل لبشر باحتماله، ولكني كنت أؤثر الصمت، وأنا أحمل ذلك كله في حبك للبحث والمعرفة -أي أن الأب كان يظن أن ما يفعله ولده هو مجرد حب المعرفة والاطلاع- حتى كان الأحد الذي مضى منذ ثلاثة أسابيع، ثم الذي بعده، ثم هذا اليوم الأسود حين اتصل غيابك عنا اليوم كله، وتكرر خروجك في الليل، لقد ظننت أن هذا التصرف الغريب من جانبك له صلة بهذا الشهر الذي يصومه المسلمون الآن، والمسمى بشهر رمضان، فهل أنت تفعل فعلهم فيه أيضاً أم هي المصادفات؟!
وفوجئ طبيب الامتياز الغارق في البحث والتنقيب العلمي والتدريج التطبيقي العملي بهذا الموقف المفاجيء من أبيه، وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً، وإصراره على ممارسة العبادات قبل أن يستقل بحياته كما نصحه صاحباه بعدم التعجل، لكنه رأى -وقد انكشف الأمر- أنه قد آن له هو الآخر أن يستريح، وأن يفرغ من حالة القلق التي يعيشها منذ عامين أو أكثر، وأن ينفض عن كاهله هذا العبء الذي أرهقه، فأقبل على والده مشفقاً عليه وعلى نفسه وهو يقول له:
لقد وعدتك يا أبي أن أكون صادقاً، وأنت تعلم أني ما كنت لأخفي عليك أمراً مصيره إلى العلانية حتماً، وإنما أردت أن أؤخر حديثي إليك في هذا الشأن حتى تخف واجباتي بالمستشفى.


ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول: ولكن ما دمت الآن تستعجل معرفة حقيقة الأمر. فاعلم يا أبي -هداني الله وهداك- أني بالبحث الدقيق الواعي قد وجدت أن الدين الإسلامي هو الحق، وقد اقتنعت بما فيه، وأنه قد بعث نبي كريم بالقرآن كما بعث من قبله من الأنبياء بالكتب. قاطعه الوالد مستفهماً: ودينك الذي عليه آباؤك وأجدادك كيف وجدته، وفي أي مراتب الضلال صنفته أيها المجنون العاق؟!
لابد من أنك قد فقدت عقلك -أيضاً- حين فقدت دينك!
قال الطبيب الشاب: أي ضير -يا أبي- يمس الأديان السابقة إذا جاء دين جديد يصحح ويتمم الذي جاءت به الرسل من قبل؟
وعاد أبوه يسأله: هل تعرف ما تتكلم عنه -أيها الشيطان- أم أن في الأمر سراً نجهله؟ أم لعلك على صلة بفتاة مسلمة اشترطت عليك عدم اقترانك بها إلا أن تدخل في دين الإسلام؟!
إذا كان الأمر كما أقول يا بني فترفق بي، ولدينا من جميلات أسر النصارى ما يسرك، وكلهن طوع البنان، إن ما أحدثك فيه أمر سهل، وطلبك فيه مجاب، أما أن تدعي على صغر سنك أنك قد تعلمت ووازنت بين الأديان وهديت إلى الحق منها فهذا جهل فاضح بتعاليم دينك. إن المسلمين -يا بني- لا يعرفون الأقانيم، ولا يؤمنون بأن عيسى هو الرب المخلّص أبانا يسوع الذي في السماء، وهم لا يعترفون -أيضاً- بالمسيح الحي، وهم وهم وهم ...، واستمر الوالد يعظ ابنه وهو يظن أنه يجهل حقائق دينه، وصابر الطبيب برهة حتى أتم والده حديثه، وتقدم منه خطوة وقد استجمع ما تفرق من نفس.



موقف النصارى من إسلام الدكتور عبده ومناظراته معهم
لقد حدث ما توقعه الجميع، فالغيورون من أهل عبده -سواءٌ منهم الأقربون والبعيدون- قد بحثوا عنه حتى وجدوه، وحقاً لم يرهقهم البحث؛ لأنهم يعلمون أنه لا ملجأ له إلا صديقيه، وخاصة منزل صدقي .
فتوافدوا عليه جماعات ووحداناً، وتكررت مناقشاتهم معه، وتواكبت ملاحقاتهم له في السكن والعمل، وأراد عبده أن يضع لهذه المناقشات والمضاربات نهاية حاسمة بدلاً مما هو فيه من المتاعب كل يوم وكل لحظة، خاصةً أن مستقبله يوشك أن يبدأ على وجه يرضيه، فقال لهم: ما حاجتكم مني وما هدفكم من مطارداتكم؟ قال أرشدهم-وهو خاله- :
يا بني! إنك فرد مرموق في أسرتنا وفي جملة القبط كلهم خُلقاً وحسن سمعة، ثم إنك توشك أن تكون طبيباً، وهذا الذي فعلته خسارة لا نطيقها فضلاً عن أنه فضيحة وعار لأسرتك وللنصارى في مصر وغيرها من البلاد، فهلا استمعت إلينا؟ قال:
إني مستمع إليك لعلي بذلك أصل معكم إلى حل يحفظ لي ولكم أوقاتنا ومصالحنا. قال أرشدهم: إن أباك يدعوك إلى أن تسمع من رجال الدين كلمة الحق، وهم -لابد- أقدر منا على تبيان أوجه الضلال الذي أوقعك فيه خصوم ديننا.
قال الطبيب الشاب: ما أوقعني أحد في ضلال، فافهموا عني هذا، وإنما هداني رب العالمين.
قال قائل منهم: إن كنت مؤمناً بفعلتك هذه عن بينة وحجة فماذا عليك لو أنك واجهت علماءنا؟
قال: لكم ما تريدون. فسألوه عن المهلة فقال: أي موعد تريدون؟
قالوا: ارجع معنا الآن إلى دارك وهناك نضرب مع أبيك الموعد ليكون برضاه وفي حضوره.
وبعد كثير من الترفق والمحاورة الطويلة انتهى الأمر إلى أنه عزم على الذهاب إلى بيت أبيه، وقبل أن يذهب إلى بيت أبيه توجه إلى الشيخ محمد رشيد رضا -وكان يختلف إلى مجلسه من وقت لآخر- وقص عليه جملة الخبر، فبين له الشيخ ما غاب عنه، وأيده بالأدلة من الكتب القديمة بوجه خاص، كـ(إظهار الحق) و(مقامع الصلبان) وشروح أهل الكتاب، وزوده بالأسئلة المضادة، وكيف يرد على شبهاتهم، وغير ذلك من القضايا التي فاتته في مناقشاته.



وذهب في الموعد إلى دار أبيه، وقد أنفق أبوه بسخاء لإنقاذ ولده الأكبر مما هو فيه، وليمنعه مما هو مقدم عليه، لكنه نفد صبره وهو يرى ابنه يأتي إلى المسكن ليلاً، فلما وصل إلى بيت أبيه بدأت الجلسة هادئة، والكل ينصت لما يدور من قرع الحجة بالحجة، والنصوص حاضرة تتلى من مراجعها على مسمع من الجميع، ولم يعد كبير مجال للتهوين من تصرف الطبيب الشاب على أنه رأي فرد ضال، كما لم يبق مجال للقول بأنه قد وقع تحت عامل الإغراء الذي ربما أحاطه رفاقه به، وأدرك الحاضرون أن الأمر في غاية الجد، فشددوا هجومهم، لكنهم وجدوا لكل سؤالٍ جواباً، ثم وجهت لهم منه أسئلة مضادة استشعروا وهم يجيبون عنها أن ألسنتهم كانت تلوك العبارات في غير وعي ولا تعقل.


وكانت المناقشة من أقوى المناظرات في نقض عقائد النصارى، وهي طويلة إلى حدٍ بعيد، وتعكس مدى تعمقه في تلك الفترة في دراسة العقائد النصرانية وأيضاً في دراسة الإسلام؛ لأنه تكلم -في الحقيقة- كلاماً مفصلاً جداً، وألجمهم، حتى إنهم ما استطاعوا أن يردوا عليه بكلمة واحدة!
فدار الحديث عن التجسد، وعن الأقانيم الثلاثة، وموضوع البنوة، وجرأتهم على الأنبياء، ودعوى أبوّة الجسد لـيوسف النجار ، وموضوع الصلب وأصله الوثني، والقيامة، ثم الكلام عن الإسلام، وحقيقة الوحي، وحقيقة القرآن، وحيرة أهل الكتاب من إعجاز القرآن .. إلى غير ذلك من المسائل، وكان يسرد الكلام بأسانيد علمية في غاية القوة، فأنهوا الجلسة واتفقوا على أن يخرجوا بقرار أن الجلسة القادمة يحشدون له فيها فريقاً من أكبر علمائهم حتى يناظروه في جلسة تالية.
وقد بلغ من تأثير الطبيب عليهم أن باتت عندهم القضايا التي كانت يقيناً معلقة! فقد قالوا: هذه القضايا معلقة.
أي: لا نستطيع أن نرد عليك فيها. واهتزت النصوص التي طالما حفظوها على شفاههم، وعادت أسئلتهم من عنده بغير معنى، وأيقنوا أن اللجنة قد عجزت، فماذا كان الجواب؟! أعلنوا في هذه الجلسة على الجميع أن عبده ابن الخواجه إبراهيم عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلّت عليه اللعنة الأبدية لهذه الكنيسة ما لم يرجع إلى رحمة أبينا يسوع المسيح مخلّصنا وراعينا، وأن الكنيسة -رحمةً به وحنواً على أبيه المسكين- قد منحته فرصة العودة إلى دين آبائه وأجداده بالحضور يوم الأحد في ذات المكان أمام عدد من الآباء لنصحه وهدايته.
ثم بدأوا يسألون أباهم وإلاههم يسوع المسيح أن يكتب له العودة إلى حضيرة رحمته، وأن لا يصير من الفرق الضالة مؤمنين على هذا الطلب بعد ذلك. وكان بعض الحاضرين من النصارى متشوقين إلى استمرار الجلسة لشدة تعطشهم إلى سماع إجاباته، والاستفادة والاستزادة من علمه؛ لأنهم سمعوا لأول مرة فكراً جديداً ونقاشاً فريداً ودفاعاً عنيداً جعلهم في شوق إلى معرفة نتيجة محددة، خاصةً لمّا رأوا أن القساوسة قد عجزوا أمام هذا الفرد الذي تخلف عن السير في موكب آبائه وأجداده، فهاجوا وماجوا وتدافعوا وتصايحوا، لكن كبير الجلسة نصحهم بالهدوء حتى لا يشرد منهم هذا الخروف الضال! ووعدهم بأن يوم الأحد قريب، وأنه جمع للمباهلة فُحُول علماء أهل الكتاب والمفسرين وكبراء التبشيريين، فهدأت ثائرتهم، ولكن إلى حين!
وجاء يوم الأحد الموعود، واحتشد الأهل والأقارب وكل من يهمه الأمر ليرى هزيمة هذا الطبيب الذي انخدع وصبأ عن دينه الحق إلى المسلمين، وهم يهددونه ويتوعدونه لئن لم ينته عما هو مقدم عليه ليمزقنه إرباً وليصيرنه عدماً، وأن هذه هي الفرصة الأخيرة له ليرجع إلى دين يسوع المسيح.


انبرى كبير القساوسة في الجلسة وهو يتطاول في كرسيه على الحاضرين بما حفظه ولقنه قديماً في الكنيسة في الكلم، فقال كلاماً شركياً نطهر أقلامنا وألسنتنا عن حكايته. لكن الطبيب عبده ردّ عليه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم إله واحد فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، سلام على المهتدين، والحمد لله رب العالمين، فضّل المسلمين بالإيمان على جميع الأجناس، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، أُوحّد الله بموجبات توحيده، وأمجده سبحانه حق تمجيده، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، ولا أشرك بعبادته سبحانه أحداً، وأصلي وأسلم على من جاء بالهدى، خالص أصفيائه وخاتم رسله وأنبيائه، سيد ولد آدم، بعثه ربه في الأميين ليخرج البشر من الظلمات إلى النور، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. صلى الله عليه وسلم من نبي كريم على خلق عظيم، بعثه الله على فترة من الرسل موضحاً للسبل، داعياً إلى خير الملل: ملة إبراهيم: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
فرد عليه أحد القساوسة بقوله: عجيب أمرك أيها الفتى الضال، وعجيب أمر أصحابك الذين أضلوك عن كتابك ولقنوك من الكلام ما قد سمعناه منك الآن حتى صرت أشد منهم حماساً لدينهم، وأحفظ منهم لآيات كتابهم، فأصبحنا نراك قد نسيت دينك ودين آبائك، وهو الدين الذي عليه نشأت وترعرعت، فربَّ عقلك، وأصلح فساد نفسك! فرد عليه عبده : واللهِ الفرد الصمدِ الواحدِ الأحدِ ما أضلني ولا أغواني منهم أحد، وإنما هداني إليه ربي، وساقني إليه فطرتي، واختاره لي صحيح عقلي، ودلني عليه عافية نفسي، فرأيت فيه ما لم أر في غيره من الشرائع والأديان من النور والهدى والحق والصدق، فتمسكت به ولزمته؛ لأني وجدت فيه تمام عقلي، وصلاح أمري، ومنطلق فكري، وشفاء روحي، وجواباً راجحاً لكل سؤالي، فليس هذا الدين كدينكم الذي يمجد الفقر، ويسوّغ الذل، ويورث العقل الخلل، ويحيل المرشد سفيهاً والمحسن مسيئاً؛ لأن من كان في أصل عقيدته التي نشأ عليها الإساءة إلى الخالق، والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى فأولى به أن يستحل الإساءة إلى المخلوق، فكيف أترك ما هداني الله إليه من الكمال والنعمة بعدما بدا لي من جهلكم وتحريفكم لدينكم؟! ولست مجادلكم إلا بالتي هي أحسن، فما في الإسلام حض على مخاصمتكم ومعاداتكم، بل هو أرحم عليكم وأحنى حتى من دينكم لكم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64].


فصاح أحدهم: بل نقرعك الحجة بالحجة، فإن كانت لنا الغلبة عدت إلى دين الخلاص، وإلا تركناك تتخبط فيما مسّك من جنون، فتكون من الخاسرين الذين تصيبهم لعنة الرب إلهنا يسوع! قال الطبيب الشاب: قد قبلت التحدي، ووالله إن ضلالاتكم قد سارت مسير الشمس، وبواطلها قد لاحت لعيون الجن والإنس، فوالله لا يخذلني الله أمامكم، وأنتم قوم غيّرتم فغيّر بكم، وأطعتم جهالاً من ملوككم فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتم البشر بالتعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم في ذلك كمن مدح القلم ولم يمدح الكاتب، على حين أن حركة القلم لا تكون بغير الكاتب، وهأنذا على قصور سني وقلّة مطالعتي أقبل منازلتكم، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. ودارت بينهم مناظرة لا نستطيع ذكر تفاصيلها؛ لأنها طويلة، وكانت في غاية الإمتاع، وهي من أقوى ما يمكن مدارسته في تحطيم النصرانية حجراً حجراً بحيث لا تقوم لها قائمة أبداً؛ لأنه ما ترك أي قضية إلا تكلم فيها بمنتهى القوة، وبالحجة الناصعة، مع أنهم في كل مرة كانوا يستعينون بقساوسة جدد، وهو يناظرهم بمفرده فيغلبهم!
وبعدما أحرجهم جداً قال لهم: فماذا أقول لكم وقد ضللتم واهتديت، وكذبتم وصدقت، ودعوتم علي ودعوت لكم، وأهنتم محمداً صلى الله عليه وسلم وعظمتُ عيسى علي.