عَادت وداد تتأملْ في لوْحَتها الرماديَّة ..!
وفي كل نظرةٍ ألفُ حكايةٍ سرابَّية ..
ورائحة المُوت المُنبعثة في المَتاهات تجشم على صدرها بقَّوة
وتُعيد الصُور والأحداث مُشوشـة بقطراتٍ من الدُموع المسفوحــة
لَمْ تشأ أن تكَون لوْحتهـا مَعيناً للأحزْان
التي ما فتأت تُحَاول نسيانها
لَكْنَها هي المَشْاعر
قطْعاً لا نستطيع التحكَّم بها
وهِي الذكريات المؤلْمَـة
التِي تُزرع في أرواحنا
دون يوم حَصاد
استفاقت وداد من خَيالاتها الرمَاديَّة الباهتة
واستدارت بتكاسلٍ تحث الخُطى نَحو غُرفتها
تجرُّهَا فضاءات الألمْ إلى ابعدَ من الأرضْ التي عليَها جسدها
مَكانْ يحْمَل حديثاً ذا شُجون
للأرواح وفقط !
وُهَناك في غُرفتها
وأَمَـام النافذة الزُجاجيَّـة
انعكاسٌ لصورة عَيْنَان أحالهُما التَفْكِير إلى غَابـة
منْ الدُموع
استسلمت للَنُوم
علَّها تنسى ..
و تسلى بشيْ من الراحَـة التي طَال بحثُها في لجَّ التفكِير
وأصْبَح الصَبْاح وأسفرت أنواره
وعصفورٌ أنيق
يُغَّردُ بصَوته الجَمْيل
علَّه يُخفف وطأة الجُرح
عَلى فتاةٍ أحالهـا الحُزْن
إلى بَيْتٍ مَهْجور
لا يسكنه إلا الظَلام
استيقظت وداد
وابتسَامةٌ رِضا تتوج فاها
وبنْظرة عابِرة ألقت السلام على طائِرهـا الجَمْيل
ثُمَ بلّلت بمَاء الوُضوء وجهها
الذِي بَدا مُصّفراً نحيلاً
وشَرْعت بالصَلاة
غَير أن صوت جَمْيل فاتن
انبعث – على غير العادة –
بالقُرْب مِنْ النَافذة
اقتربت وداد يُجرَّها
ذلك الجَمْال حيثُ لا تعي
وتنصَّتت قليلاً
جشمت على ركبتيـها
ورعشةٌ تَسْرِي فِي أطْرَافها
وخُشوع يسكن بين جنباها
- إنهـا هِي هُدَى ابنه جارنـَا
تُرَّتل آياتٍ من القُرآن الكَريم
ما أجمل الصْوت وأعذبـه
ساورتها رغبة بالبُكَـــاء حتى الإغماء
تمَاسكت ووقفت بانكسار
كغُصنٍ جافَّ يستجدي قطرة ماء !
أخذت تبحث عن مُصْحفهـا بين أكوام أوراقهـا المُكدَّسة وكتبهـا
والدمع ما فارقهـا
فَوجدتـه على رفٍ مُنزوٍ
أمسكته فتطايرت ذرات الغبار من على سطحه
تعجبتْ من حالها
تُرَافق الأحزان دهْرا
وتعجز عن قراءة القران وِِرْدَا
عَادت إلى مُصلاها
ورغبةٌ في الإشراق تعلو محياها
صلَّت فأشرقت منَاطقٌ عانت الظُلْمَـة والعُتمـة لعشْر سنين !
قاومتْ رغبتها في تأملَّ لوحـة الموتْ ( الرمَاديـة )
وفِي صمْت الصَباح الجميل
خَرْجت إلى الحديقة المُجاورة للفيلا
تحمْل فُرشاة وعُلبة ألوان
وكُراس كبير
والأهمَّ من ذلك
تحمْل أفَراحهـا عبير يعطر زوايا رُوحهـا
تنفسَّت بعُمْق
وتأملت الأزهَار المُتناثرة
وعبير عطرهُا الأخَّاذ
تأملت الأشجار الخضراء على امتداد تلك الجنَّة النضرة
تأملَّت الحَياة بنظرةٍ مُخْتَلفـة عن سابقتهـا
نظرة تحمل الإشراق في زواياهـا
تحمل الضياء بين نواحيهـا
بَكْت فَرْحَاً
ورفعت ناظريها إلى السَمَاء وقالت بعُمق السعادة :
الحَمد لك ربي
الحمد لك ربي
ابتسمـت وكأنَّها تذكُر أمراً ما
وقالت بهمس :
أهذه الحديقة التي كُنت أراها مرتعاً للوُحوش !
وفم مُتضخمـة تبتلعْ الـ
علقت الكلمـة في حُنجرتهـا
وعَادت الصُورة متقطعـة إلى ذاكرتهـا
وذات رائحـة الموت المُنبعثة من لوحـة الرَماد
تنتشر بنتنٍ شديد
الـ أموات !
يبدو أن الحديقة اكثر لُطفاً
نحَّت الأفكَار بعيداً
وأخرجت الفُرشاة والألوان
وبدأت تخطَّ لوحـتها الجديدة
***
عَادْت إلى المنْزل بعدما انهمر المطر بشدة
وضعت حقيبتهـا داخل المنْزل
وأسرعت تجري نحو الحديقة
وسط نداءات والدتهـا الخائفـة المترجية بالرُجوع
عَادت إلى الحديقـة
نبضات قلبها تزداد
والمطر بلل منها كل موضع
توقفت لبُرهة تلتقط أنفاسها الجافَّة
ثم صرخت : أيـــن أنت
أهناك من يسمعنــي ؟
وبـحُنق قالت : إنه رضيع كيف يُحادثني
اختلطت قطرات المطر الباردة بدُموعها الساخنَّة
بحثت بوهنٍ شديد عنه
ثم سقطت عينيها على ذلك الصغير
إنـه طِفْل صَغير يبكي بِشدَّة
ضائعٌ تائه
أسرعت صوبه بابتسامة دفء وحنان
وحملته بين ذراعيها
وسط بكاءه المَرير
ونظراته الشاردة في الكَون من حوله
كانت تبتسمْ بعُمق
وتمسح ما تناثر من دَمعاتـــه
وكأنما حَمْلت الحَياة بين ذراعيها
أدخلتـه إلى المنْزل وسط ذهول والدتهـا
وناولته إياها
وقالت : لأجله عُدَتُ ؛ حيثُ الموتْ يرتسمْ
نظرت الأم بذهول وقالت بصوتٍ مُتقطع :
أيُّ مـ ــ ــوتٍ هو
ألقت وداد نظرة ذات مغزى نحو الصغير
وقالت : هي الحديقة الغريبـة تفوح بعبق كُلَ شيء
أراني ازرع ورود أحلامي داخلهــا !
وأُصدم بهــا تحصدْ الـأحلام بلا رحمْـة
نظرت الأم وقد اغرورقت عينيها بالدُموع
وقالت بصوت مُتهَّدج :
مبتئسة أنتِ يا بنيتي حدَّ الواقع المُظلم !
- لا أمَّاه لست مُبْتَئسـة فلا شيء في الحياة يستحقَّ
لكنني مُشفقـة على الصغير
أيُّ قلبٍ يحمل أبواه ليتُركانه رهَين واقعنا الذي لا يرْحَم
مُجرْد النظر في دمعاتـه المهدورة
يجعل القلب يُشفق
أنه رضيع سمعت بكاءه وبحثت عن أسرته فلمْ أجد حداً
أتصدَّقين أمي أحببته
كم هو لطيـــف!
أنظري كم من البراءة تربَّعت في مُحياه
وداد أذهبي للنوم-
وحتى لا يشغلكِ ضيفُنَا الصغير سأجعله ينام لديَّ
وبنظرةٍ مشاكسة : حسناً .. تصبحين على خير سأصطحبه صباحاً معي
إلى صديقتي سهى !
عَادت إلى حُجرتها وهِي غارقـة في بِحار تفكيرها بلا مَرسى
سُهَـى هي الوحيدة التي نجت مَعي
في ذلك الحَادث المُفزع المُرعب
كُنَّا ستة عَشر طالبـَة ؛
كُل واحدة مِنَّا تحمل طُموح سامي تحُلم بأن تَكون طبيبة
تُعَالج المَرضى لتزرع البسمة في وجوهٍ عذَّبها الألمْ !
كانت طموحاتُنَا مُشتركة
وكَان أسعدْ يومٍ في حياتنا يوم أنْ
نُسب اسمنا إلى كليَّة الطب
لكن القدرْ والموت يأتي بغتة
أخذ مِنَّا 14 طِالبة
ولم يبقى سِوى اثنتين كُتب لهما عُمرٌ جديد
وحَياة أُخرى
فَكْانت لوحتي الرَمادية شيئاً من شُعور خالجني ومشهدٌ أرقَّ مضجعي
وما زالت صورة الدِماء المُختلطة ببَقايا حقائبنا
تُساورني فِي كُـل وقتْ !
كتب ربِي لِي حَياة أخرى
فجعلتُ ساعاتهـا حُزنٌ
ووقوفٌ عَلى الأطْلَال الماضيَّة
********
أرخت وداد رأسهـا على طاولتها الخشبيَّة المتهرئة
ونظرت إلى قطعـة من السماء تظهرُ على جانبٍ من نافذتهـا
ابتسمت وكأنَّها تُخاطب النجمات المتناثرة في كبد السماء
وقَالت وهِي تستعيدُ شيئاً غاب عن ذاكرتها مذ سنوات
إنهـا السعادة رنَّت كأجمَّل ما تكون الكلمة !
وفتحت دفْتَر مُذكراتها
وكتبتْ ؛
الروابط المفضلة