تفكر ساعة
دليل الفطرة

دكتور: عماد عطا البياتي

w سأل سائل الإمام "جعفر الصادق" عن الله عز وجل؟
فقال الإمام للسائل: ألم تركب البحر؟
قال: بلى.
قال: هل حدثت مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟
قال: نعم.
قال: وانقطع الأمل بالملاحين ووسائل النجاة؟
قال: نعم.
قال الإمام: فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك أنّ هنالك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟
قال: نعم.
قال الإمام جعفر: فذلك هو الله.

كثيرة هي الأسباب التي تجعل الناس يؤمنوا بالله, وينقادوا لله, وكثيرة هي الأدلة والبراهين على صدق الإيمان بالله تعالى؛ فالكون كله بنجومه ومجراته وبكواكبه وأقماره وبحيواناته ونباتاته وبناسه… كله شاهد لله تعالى بالوجود والوحدانية, بل أن كل ذرة من ذرات هذا الكون تشهد بما فيها من حكمة وإبداع على وجود الصانع المبدع وبما فيها من تناسق وتماثل في تكوينها وتركيبها على الوحدانية, ولهذا قيل إنّ أدلة الإيمان بالله تعالى هي اكثر من عدد ذرات الكون كلهّ.
والمعجزة الخالدة "القرآن الكريم" بما فيه من اوجه إعجازية كثيرة جداً، بل كل آية فيه تشهد أيضاً بوجود الخالق المبدع وبوحدانيته.
الرسول محمد e، حياته وسيرته، أفعاله وأقواله، معجزاته الكثيرة أيضاً شاهد ودليل وبرهان على صدق الإيمان بالله تعالى.
لكن بالإضافة إلى كل تلك الأدلة والبراهين، هنالك دليل آخر وبرهان باهر يحسه كل إنسان ويشعر به جميع بني آدم، الصغير والكبير، المرأة والرجل، العالم والجاهل، الغني والفقير، بل وحتى المسلم والكافر؛ هذا الدليل هو دليل الفطرة.

أن النفوس والقلوب والأحاسيس والمشاعر الوجدانية مفطورة "أي مخلوقه" على الاتجاه لقوه غيبيه مطلقة تلتمس منها المدد والعون والعطاء وتلجأ إليها عند الشدائد وتحس بمتعة الأنس بها عند المخاوف وفي اشد أحوال الوحشة. وهذه الفطرة مهما تراكمت عليها الغفلات وتراكبت عليها الظلمات وانحرفت بها الأهواء عن سوائها لابد أن تصحو وتستيقظ وتستبصر إذا ضاق عليها الخناق في الملمّات واشتد عليها الكرب في الحادثات وتقطعت بها كل أسباب الخلاص والنجاة.
ولهذا نرى الإمام الصادق رضوان الله تعالى عليه استخدم هذا الدليل مع الرجل الذي يركب البحر، ففي ساعة الغرق وهي من اشد ساعات الضيق والضعف والانكسار البشري وبعد أن ينقطع الأمل بالأسباب يرجع الإنسان إلى فطرته والى إيمانه ويتوجه خالصاً لله تعالى.

وهذه الحقيقة هي حقيقة قرآنية نبه عليها القرآن الكريم في آيات كثيرة… وحسبنا مثالاً الآية الكريمة في سورة يونس:-

(( هو الذي يسّيركم في البّر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا انهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين )))سورة يونس: 22).

هذه هي فطرة الإنسان، فطرة حقيقية وصادقة وجدت عنده منذ ولادته، بل قبل ذلك، نفخت فيه مع الروح وهو في بطن أمه والله اعلم.

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)). (حديث صحيح رواه البخاري).

والآن قد يسأل سائل ويقول قائل…

ما الدليل على أن هذه الفطرة صادقة؟ وما الدليل على أن هذه المشاعر التي يحس بها الإنسان وخاصة في أوقات العسر والشدة هي مشاعر وأحاسيس صادقة وليست مجرد أوهام فكرية ونفسية ليست لها أية اعتبارات واقعية؟

فالجواب على هذا الكلام ما يلي:-

إنّ فطرة الإنسان هي دائماً صادقة، أي أنّ احساسات الإنسان البديهية الأولية هي دائماً احساسات صادقة وضرورية لديمومته ولاستمرار حياته بالشكل الطبيعي على وجه الأرض.

فالطفل حديث الولادة ينساق بفطرته الأولى إلى ارتضاع ثدي أمه دون أن يتعلم ذلك من معلم ودون أن يدركه بدليل عقلي أو دليل حسي ظاهر، وهي فطره صادقة ضرورية لحياته ونموه.
والأم تشعر بعاطفة الأمومة، فتقوم على رعاية وليدها وحمايته وتربيته سواء أعلمت أنّ السّر في ذلك حفظه بالرعاية والتربية حتى يغدو قادراً على الاستقلال بنفسه أو لم تعلم، وهي فطرة صادقة ولا يستطيع أحد أن يقول أن هذا الإحساس هو غير منطقي أو هو وهم من الأوهام.
الرجل بفطرته يحتاج إلى المرأة والمرأة بفطرتها تحتاج إلى الرجل قبل أن يتعلموا أن هذه الفطرة هي المفتاح لتوالد الأجيال ولاستمرار حياة الإنسان على وجه الأرض.
وهكذا لو فكرنا في الإنسان، أمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى على أن فطرة الإنسان صادقة وحقيقية بل وضرورية لحياته وديمومته.
وأوضح مثال وأقوى دليل وبرهان على صدق الفطرة لدى الإنسان هي فطرتي الجوع والعطش.

الجـوع
إن الإحساس بالجوع هو إحساس فطري يحس به كل إنسان وهو إحساس صادق لكل إنسان سليم معافى.
درس العلماء سبب الإحساس بالجوع عندما يحتاج الجسم إلى الغذاء فخرجوا بنظريات عديدة فمنها:
قالوا إن الإحساس بالجوع ينتج عندما تفرغ المعدة ولكن من المعروف أن الأكل يبقى في المعدة لمدة 2-4 ساعات وبعدها يذهب إلى الأمعاء وهذه المدة قليلة وفي أحيان كثيرة لا يحس الإنسان بعد هذه المدة القليلة من الأكل بالجوع ثانية!
وقالوا أن الإحساس بالجوع يأتي نتيجة نقصان نسبة السكر في الدم ونقصان استهلاك الخلايا للسكر، ولكن من المعروف أن الإحساس بالجوع ينتهي مباشرة بعد الأكل قبل امتصاص الطعام وارتفاع نسبة السكر في الدم! إذن هذه النظريات لوحدها غير كافية لتفسير ظاهرة الجوع.
وقالوا أن الشحوم والدهون في الدم وتحت الجلد تلعب دوراً أيضاً، وغيرها كثير من النظريات.
وفي الحقيقة أن كل هذه النظريات زائداً فعاليات ووظائف أخرى غير معروفة تلعب دوراً في الإحساس بالجوع.
فانظر أخي المسلم حفظك الله إلى قوة دلالة هذه الفطرة ودقتها وصدقها, عشرات الفعاليات المعروفة منها وغير المعروفة لحد الآن تشترك فيها العديد من أعضاء الجسم وملايين الخلايا في مختلف الأنسجة والأعضاء والكثير من المركبات الكيماوية المعقدة لتعطيك في النهاية تلك الفطرة الصادقة والضرورية لاستمرار حياة الإنسان وديمومته.
الإنسان عندما يجوع هو لا يعرف هل أن معدته فارغة أو ممتلئة، هو لا يرى ما في المعدة ولا يحتاج لأن يعمل ناظور أو يأخذ أشعة ملونه ليعرف أن المعدة ممتلئة أم فارغة ثم يقرر الأكل من عدمه. والإنسان كذلك لا يستطيع أن يعرف نسبة السكر في الدم ثم تبعاً لتلك النسبة يقرر وقت وكمية ونوع الطعام الذي يأكله.
الإنسان فقط يستند لفطرته وهي فطرة صادقة فعندما يحس بالجوع فهذا دليل صادق وحقيقي وهو أقوى دليل على أن جسمه بحاجة إلى الطعام ليستمر بحيويته ونشاطه ولتقوم أعضاء الجسم بوظائفها المختلفة على أكمل وجه.
بل أن هذه الفطرة من الدقة بحيث أن في كثير من الأحيان يشعر الإنسان بالحاجة إلى السكريات والنشويات عندما تقل نسبة السكر في الدم كما في رمضان مثلاً. ويحس الإنسان بالشهوة إلى الطعام الحامض مثلاً دون أن يعلم بأنه ضروري أو لازم لأجسامنا لتحليل المواد الكلسية وغيرها من المعادن في الأطعمة كي تتمثل في أجسامنا تمثلاً صحيحاً.
وهكذا هي الفطرة الإنسان دائماً صادقة وحقيقية وضرورية لحياته وديمومته، فالإحساس بالجوع هو أقوى دليل على حاجة الجسم للطعام.

العطـش

كذلك فطرة العطش…يقول العلماء أن الإحساس بالعطش يحدث نتيجة لزيادة لزوجة الدم فالإنسان لا يستطيع أن يعرف أن لزوجة الدم زادت وانه يحتاج الآن إلى شرب الماء، ولكن فطرة العطش مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحاجة الجسم والخلايا المختلفة إلى الماء فتمكنه من شرب الماء في الوقت المناسب تماماً لحاجته وهي فطرة حقيقية وصادقة وهي أقوى دلاله على هذه الحاجة الجسمية للماء.
وهكذا لو فكرنا في كل أمر فطري في الإنسان لوجدناه صادقاً ناصعاً وقوي الدلالة… وأقوى الأحاسيس الفطرية في الإنسان هو الإيمان بالله تعالى فهو متغلغل في أعماقه وممزوج بخلايا جسمه.
ويقوى هذا الدليل جداً حينما يشترك بمثل هذا الإحساس والشعور جميع الناس على وجه الأرض ويظهر أنه لم يأت من الوهم في إحساس خاص بصاحبه.
تنطمس هذه الفطرة أحياناً عند بعض الناس بسبب انحرافات فكرية ونفسية وأخلاقية ولكنها تبرز وتظهر وتتيقظ كلما حز ب الأمر وضاق خناق الشدائد.
) ما هو شعور اكبر ملحد في الدنيا إذا هو تراكبت عليه الهموم والأحزان والمصائب وصدمته المخاطر من كل جهة ولم يجد سبباً مادياً ينقذه؟ أفلا تتيقظ فيه فطرته الصافية الأصيلة فينادي: يا من له القوة العظيمة المهيمنة على كل شيء في الكون يا من أنت عليم رحيم بخلقه أسعفني؟
) ماذا كان قول فرعون حين أدركه الغرق؟ ألم يقل: آمنت برب موسى وهارون، آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل؟
) وكان أول تصريح لأول رائد فضاء سوفييتي بعد دهشته مما شاهد ودهشته من هول أبعاد الكون وإحساسه بالوحشة والغربة ورغبته في أن يعود سالماً إلى الأرض يدل على أن فطرة الإيمان تيقظت في قلبه فأخذ يدعو الله في حجرته داخل المركبة الفضائية ويلتجئ إليه ليعيده سالماً إلى الأرض رغم تربيته الإلحادية التي نشأ عليها في بلد الإلحاد.
) غاندي عندما سأل: من يعينك على تحمل تلك المصاعب والمشاق؟ أشار بيده إلى السماء وقال: لولا ذلك لهلكت.
) قصة الرجل الشيوعي الذي كان يجادل ويناقش ويدافع عن الإلحاد وفي الليل يضع رأسه على الوسادة في الفراش ويقول: يا رب كل هذا الكلام كذب وباطل: أشهد إلا إله إلا الله واشهد أن محمداً رسول الله. وأخيراً تاب وآمن والتزم.
) قصة المريض البعيد عن الدين وعن الإيمان وحينما قيل له أنت عندك مرض السرطان في القولون: انكسر ورجع إلى الله وصار يقول: رميت حملي على الله يفعل بي ما يشاء!!
إن المنهج الذي اتبعناه في توضيح دليل الفطرة هو منهج قرآني عظيم، فالقرآن الكريم أشار إلى الربط بين فطرة الإيمان بالله تعالى واتباع الدين الحنيف وبين طبيعة خلق وتكوين الإنسان في قوله تعالى في سورة الروم:
((فاقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون)) (الروم: 30).
فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله… ففطرة الإنسان هي دائماً صادقة وثابتة لا تتبدل، فعندما يحتاج جسم الإنسان إلى الغذاء فانه يشعر بالجوع فيذهب ليبحث عن الطعام ليأكل وعندما يحتاج جسمه إلى الماء فانه يحس بالعطش فيشرب الماء ولا يأكل الملح فهذه فطر صادقة وحقيقية وثابتة لا تتبدل وكذلك فطرة الإيمان وفطرة الدين، فهي صادقة وثابتة لا تتبدل.

فخلق الإنسان ثابت لا يتبدل وفطرته ثابتة وتخلق معه والدين ثابت والإيمان ثابت فـلا تبديل لخلق الله, ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون.