انتقلت منتديات لكِ النسائية إلى هذا الرابط:
منتديات لكِ النسائية
هذا المنتدى للقراءة فقط.


للبحث في شبكة لكِ النسائية:
عرض النتائج 1 الى 5 من 5

الموضوع: النظام الاجتماعي في الإسلام . -تقي الدين النبهاني

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    الردود
    5
    الجنس

    النظام الاجتماعي في الإسلام . -تقي الدين النبهاني

    دار الأمة

    للطباعة والنشر والتوزيع




    الطبعة الثالثة

    مزيدة ومنقحــة

    1410هـ - 1990م

    صادر عن دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع

    ص . ب 13519

    بيروت






    محتويات الكتاب



    آيات الافتتاح .................................................. .............. 3

    مقدمة في النظام الاجتماعي......................................... .......... 9

    المرأة والرجل .................................................. ............12

    أثر النظرة إلى الصلات بين الرجل والمرأة ..................................34

    تنظيم الصلات بين المرأة والرجل .......................................... 35

    الحياة الخاصة .................................................. ............35

    وجوب انفصال الرجال عن النساء في الحياة الإسلامية ......................36

    النظر إلى المرأة .................................................. .........39

    لا يجب على المرأة المسلمة أن تغطي وجهها ................................41

    المرأة والرجل أمام التكاليف الشرعية .......................................41

    أعمال المرأة .................................................. .............42

    الجماعة الإسلامية......................................... .................46

    الزواج .....................,............................ ..................47

    المحرمات من النساء .................................................. ....47

    تعدد الزوجات .................................................. ...........47

    زواج النبي .................................................. ..........48

    الحياة الزوجية .................................................. ...........49

    العزل .................................................. ...................49

    الطلاق .................................................. .................50

    النسب .................................................. ..................50

    اللعان .................................................. .................51

    ولاية الأب .................................................. ............52

    كفالة الطفل .................................................. ...........53

    صلة الرحم .................................................. ...........53





    بسم الله الرحمن الرحيم

    يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا * وءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً * وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث وربُاع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعدلوا * وءاتوا النساء صدُقاتهن نِحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً * ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيهاواكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً * وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً *
































    مقدمة

    في النظام الاجتماعي

    يتجاوز الكثيرون من الناس فيطلقون على جميع أنظمة الحياة اسم " النظام الاجتماعي " وهذا إطلاق خاطئ . لأن أنظمة الحياة أولى أن يطلق عليها " أنظمة المجتمع " ، إذ هي في حقيقتها أنظمة المجتمع ، لأنها تنظم العلاقات التي تقوم بين الناس الذين يعيشون في مجتمع معين ، بغض النظر عن اجتماعهم أو تفرقهم . والاجتماع لا يلاحظ فيها وإنما تلاحظ العلاقات فحسب ، ومن هنا كانت متعددة ومختلفة بحسب تعدد العلاقات واختلافها ، وهي تشمل الاقتصاد ، والحكم ، والسياسة ، والتعليم ، والعقوبات ، والمعاملات ، والبينات وغير ذلك . فإطلاق " النظام الاجتماعي " ، عليها لا وجه له ، ولا ينطبق عليها . وعلاوة على ذلك فإن كلمة " الاجتماعي " صفة للنظام ، فلا بد أن يكون هذا النظام موضوعاً لتنظيم المشاكل التي تنشأ عن الاجتماع ، أو للعلاقات الناشئة عن الاجتماع . واجتماع الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، لا يحتاج إلى نظام لأنه لا تنشأ عنه مشاكل ، ولا تنشأ عنه علاقات تحتاج إلى نظام . وإنما يحتاج تنظيم المصالح بينهما إلى نظام ، من حيث كونهم يعيشون في بلاد واحدة ولو لم يجتمعوا . أما اجتماع الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، فإنه هو الذي تنشأ عنه مشاكل تحتاج إلى تنظيم بنظام ، وتنشأ عنه علاقات تحتاج إلى التنظيم بنظام ، فكان هذا الاجتماع الأولى بأن يطلق عليه النظام الاجتماعي لأنه في حقيقته ينظم الاجتماع بين الرجل والمرأة ، وينظم العلاقات التي تنشأ عن هذا الاجتماع .

    ولذلك كان النظام الاجتماعي محصوراً في النظام الذي يبين تنظيم اجتماع المرأة بالرجل والرجل بالمرأة ، وينظم علاقة المرأة بالرجل والرجل بالمرأة الناشئة عن اجتماعهما ، لا عن مصالحهما في المجتمع ، ويبين كل ما يتفرع عن هذه العلاقة . فتجارة المرأة مع الرجل ، والرجل مع المرأة هي من أنظمة المجتمع ، لا من النظام الاجتماعي . لأنها تدخل في النظام الاقتصادي . أما منع الخلوة بين الرجل والمرأة ، أو متى تملك المرأة طلاق نفسها ، أو متى يكون للمرأة حق حضانة الصغير ، فإن ذلك كله من النظام الاجتماعي . وعلى ذلك يكون تعريف النظام الاجتماعي هو : النظام الذي ينظم اجتماع المرأة بالرجل ، والرجل بالمرأة ، وينظم العلاقة التي تنشأ بينهما عن اجتماعهما ، وكل ما يتفرع عن هذه العلاقة .

    وقد اضطرب فهم الناس ولا سيما المسلمين للنظام الاجتماعي في الإسلام اضطراباً عظيماً ، وبعدوا في هذا الفهم عن حقيقة الإسلام بعدهم عن أفكاره وأحكامه ، وكانوا بين مفرط كل التفريط ، يرى من حق المرأة أن تخلو بالرجل كما تشاء وأن تخرج كاشفة العورة باللباس الذي تهواه . وبين مفرط كل الإفراط لا يرى من حق المرأة أن تزاول التجارة أو الزراعة ،ولا أن تجتمع بالرجال مطلقاً ، ويرى أن جميع بدن المرأة عورة بما في ذلك وجهها وكفاها ، وكان من جراء هذا الإفراط والتفريط انهيار في الخلق ، وجمود في التفكير ، نتج عنهما تصدع الناحية الاجتماعية وقلق الأسرة الإسلامية وغلبة روج التذمر والتأفف على أعضائها ، وكثرة المنازعات والشقاق بين أفرادها . وصار الشعور بالحاجة إلى جمع شمل الأسرة ، وضمان سعادتها يملأ نفوس جميع المسلمين . وصار البحث عن علاج لهذه المشكلة الخطيرة يشغل بال الكثيرين ، وصارت المحاولات المختلفة تظهر أنواعاً متعددة لوضع هذا العلاج . فوضعت المؤلفات التي تبين العلاج الاجتماعي ، وأدخلت التعديلات على قوانين المحاكم الشرعية ، وأنظمة الانتخابات . وحاول الكثيرون تطبيق آرائهم على أهليهم من زوجات وأخوات وبنات . وأدخلت على أنظمة المدارس تعديلات من حيث اختلاط الذكور بالإناث . وهكذا ظهرت هذه المحاولات بهذه المظاهر وأمثالها . ولكن جميع أولئك وهؤلاء لم يوفقوا إلى العلاج ، ولم يهتدوا إلى النظام ، ولم يجدوا إلى ما يحسونه من إصلاح أي سبيل . لأنه قد عمي على معظم المسلمين أمر علاقة الجنسين : المرأة والرجل . وصاروا لا يعرفون الطريقة التي يتعاون فيها هذان الجنسان ، حتى يكون صلاح الأمة من هذا التعاون وقد جهلوا أفكار الإسلام وأحكامه التي تتعلق باجتماع الرجل بالمرأة جهلاً تاماً ، مما جعلهم يتناقشون ويتجادلون فيما هو حول طريقة العلاج ، ويبعدون عن دراسة حقيقتها ، حتى ازداد القلق والاضطراب من جراء محاولاتهم ، وصارت في المجتمع هوة يخشى منها على كيان الأمة الإسلامية ، بوصفها أمة متميزة بخصائصها . ويخشى على البيت الإسلامي أن يفقد طابع الإسلام ، وعلى الأسرة الإسلامية أن تفقد استنارة أفكار الإسلام وتبعد عن تقدير أحكامه وآرائه .

    أما سبب هذا الاضطراب الفكري ، والانحراف في الفهم عن الصواب ، فيرجع إلى الغزوة الكاسحة التي غزتنا به الحضارة الغربية وتحكمت في تفكيرنا وذوقنا تحكماً تاماً غيرت به مفاهيمنا عن الحياة ، ومقاييسنا للأشياء وقناعاتنا التي كانت متأصلة في نفوسنا مثل غيرتنا على الإسلام وتعظيمنا لمقدساتنا . فكان انتصار الحضارة الغربية علينا شاملاً جميع أنواع الحياة ومنها هذه الناحية الاجتماعية .

    وذلك أنه حين ظهرت الحضارة الغربية في بلاد الإسلام وظهرت أشكالها المدنية ، ورقيها المادي ، بهرت أبصار الكثيرين . فصاروا يقلدون هذه الأشكال المدنية ، ويحاولون أن يأخذوا هذه الحضارة لأن تلك الأشكال المدنية الدالة على التقدم قد أنتجها أهل هذه الحضارة الداعون إليها . ولذلك صاروا يحاولون تقليد الحضارة الغربية دون أن يميزوا الفرق بين هذه الحضارة الغربية ، وبين الأشكال المدنية ، ودون أن يدركوا أن الحضارة تعني مجموع المفاهيم عن الحياة ، وأنها طريقة معينة في العيش . وأن المدنية هي الأشكال المادية المحسوسة التي تستعمل وسائل وأدوات في الحياة ، بغض النظر عن مفاهيم الحياة وعن طريقة العيش . وعلاوة على ذلك فإنهم لم يدركوا أن الحضارة الغربية تقوم على أساس هو النقيض من أساس الحضارة الإسلامية ، وأنها تختلف عن الحضارة الإسلامية في تصوير الحياة وفي مفهوم السعادة التي يسعى الإنسان لتحقيقها . ولم يتبينوا استحالة أخذ الأمة الإسلامية الحضارة الغربية ، وأنه لا يمكن أخذ هذه الحضارة لأي جماعة من الأمة الإسلامية في أي بلد وتبقى هذه الجماعة جزءاً من الأمة الإسلامية ، أو تبقى عليها صفة الجماعة الإسلامية .

    وقد أدى عدم الوعي على الاختلاف الجوهري بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب إلى النقل والتقليد . وصار كثير من المسلمين يحاولون نقل الحضارة الغربية نقلاً دون فهم ، شأن من ينسخ كتاباً يقتصر على رسم الكلمات والحروف . وصار بعضهم يحاول تقليد الحضارة الغربية بأخذ مفاهيمها ومقاييسها دون تدبر لأسباب ونتائج هذه المفاهيم والمقاييس . فقد رأى هؤلاء وأولئك أن المجتمع الغربي تقف فيه المرأة مع الرجل دون فرق بينهما ودون مبالاة بما يترتب على ذلك من نتائج . ورأوا أن المرأة الغربية ظهرت عليها أشكال مدنية وظهرت هي بأشكال مدنية فقلدوها أو حاولوا تقليدها ، دون أن يدركوا أن هذه الأشكال تتفق مع حضارة الغرب ومفاهيمه عن الحياة ، وعن تصويرها لها ، ولا تتفق مع حضارة الإسلام ومفاهيمه عن الحياة وتصويرها لها . ودون أن يحسبوا أي حساب لما يترتب على هذه الأشكال التي ظهرت عليها وظهرت بها من أمور . نعم رأوا ذلك فاعتقدوا أنه لا بد أن تقف المرأة المسلمة بجانب الرجل في المجتمع وفي الاجتماع ، بغض النظر عن جميع النتائج . ورأوا أن المرأة المسلمة لا بد أن تظهر عليها الأشكال المدنية الغربية ، وأن تظهر هي أيضاً بالأشكال المدنية الغربية ، بغض النظر عما يلابس ذلك من مشاكل وأمور . ولذلك نادوا بضمان الحرية الشخصية للمرأة المسلمة وإعطائها الحق في أن تفعل ما تشاء . وتبعاً لذلك دعوا إلى الاختلاط من غير حاجة ، ودعوا إلى التبرج وإبداء الزينة ، ودعوا إلى أن تتولى المرأة الحكم ، ورأوا أن ذلك هو التقدم وهو دليل النهضة .

    ومما زاد الطين بلة أن هؤلاء الناقلين المقلدين قد أطلقوا لأنفسهم العنان في الحرية الشخصية إطلاقاً كلياً ، حتى اتصلت المرأة بالرجل اتصالاً مباشراً لمجرد الاتصال ليس غير ، وللتمتع بالحرية الشخصية ، دون وجود دواعي الحاجة التي تقتضي هذا الاتصال ، ودون أن يكون في المجتمع أي حاجة لهذا الاختلاط . فكان لهذا الاتصال بين الجنسين لمجرد الاتصال ، وللتمتع بالحرية الشخصية فحسب ، الأثر السيئ في هذه الفئة الناقلة المقلدة التي غامرت بالإقدام على هذه الآراء حتى حصرت الصلة بين المرأة والرجل في صلات الذكورة والأنوثة دون غيرها . وتعدى الأثر السيئ هذه الفئة إلى باقي الفئات في المجتمع ، ولم ينتج ذلك الاتصال أي تعاون بين الرجل والمرأة في ميدان الحياة ، بل نتج عنه التدهور الأخلاقي ، وتبرج النساء ، وإبداء زينتهن لغير بعولتهن أو ومحارمهن . ونتج عنه عند المسلمين انحراف في التفكير ، وفساد في الذوق ، وزعزعة في الثقة ، وهدم في المقاييس . واتخذت الناحية الاجتماعية في الغرب القدوة المحببة ، واتخذ المجتمع الغربي مقياساً ، دون أن يؤخذ بعين العناية أن ذلك المجتمع الغربي لا يأبه بصلات الذكورة والأنوثة ، ولا يرى فيها أي معرة أو طعن أو مخالفة للسلوك الواجب الإتباع ، أو أي مساس في الأخلاق أو أي خطر عليها . ودون أن يلاحظ أن المجتمع الإسلامي يخالفه في هذه النظرة مخالفة جوهرية ، ويناقضه مناقضة تامة ، لأن المجتمع الإسلامي يعتبر صلات الذكورة والأنوثة من الكبائر ، عليها عقوبة شديدة هي الجلد أو الرجم ، ويعتبر مرتكبها منبوذاً منحطاً منظوراً إليه بعين المقت والازدراء . ويرى من البديهيات لديه أن العِرض يجب أن يصان ، وأنه من الأمور التي لا تقبل نقاشاً ولا جدلاً ، والتي يجب أن يبذل في سبيل الدفاع عنها المال والنفس ، عن رضاً واندفاع دون قبول أي عذر أو أعذار .

    نعم لم يلاحظ هؤلاء الناقلون والمقلدون الفرق بين المجتمعين ولا هذا البون الشاسع بين الحالتين ، كما لم يلاحظوا ما تحتمه عليهم الحياة الإسلامية وتتطلبه منهم الأحكام الشرعية ، واندفعوا وراء النقل والتقليد حتى لبست دعوة نهضة المرأة ثوب الإباحية ، وعدم المبالاة بالاتصاف بالخلق الذميم . وهكذا مضى هؤلاء الناقلون والمقلدون في تهديم الناحية الاجتماعية عند المسلمين تحت اسم إنهاض المرأة ، وبحجة العمل لإنهاض الأمة . ولكن هؤلاء كانوا أقلية في أول الأمر ، ولم ترض الأمة عن دعوتهم في أولها ، ولكنهم بعد أن طبق النظام الرأسمالي في البلاد الإسلامية ، وحكمت من الكفار المستعمرين ثم من عملائهم ، والسائرين في ركابهم وعلى هداهم ، استطاع هؤلاء الأقلية أن يؤثروا وأن ينقلوا أكثر أهل المدن ، وبعض سكان القرى ، إلى السير في الطريق الذي سلكوه ، وإلى النقل والتقليد للحضارة الغربية حتى مسحت السيما الإسلامية عن كثير من أحياء المدن الإسلامية ، لا فرق بين استنبول والقاهرة ولا بين تونس ودمشق ، ولا بين كراتشي وبغداد ، ولا بين القدس وبيروت ، فكلها تسير في طريق النقل والتقليد للحضارة الغربية .

    وكان طبيعياً أن ينهض لمكافحة هذه الأفكار جماعة من المسلمين وكان حتمياً أن يهب لمحاربة هذه الآراء جمهرة الخاصة والعامة من أهل بلاد الإسلام ، فقامت جماعة بل جماعات تدعوا إلى وجوب المحافظة على المرأة المسلمة ، وصيانة الفضيلة في المجتمع ، ولكن دون أن يتفهموا الأنظمة الإسلامية ، ومن غير أن يتبينوا الأحكام الشرعية . وقبلوا أن تكون المصلحة التي يراها العقل أساساً للبحث ، ومقياساً للآراء والأشياء ، ونادوا بالمحافظة على التقاليد والعادات ودعوا للتمسك بالأخلاق ، دون أن يدركوا أن الأساس هو العقيدة الإسلامية ، وأن المقياس هو الأحكام الشرعية ، وقد وصل التعصب الأعمى لحجاب المرأة أن قالوا بالتضييق على المرأة ، وعدم السماح لها بأن تخرج من بيتها ، أو تقوم بقضاء حاجاتها ، ومباشرة شؤونها بنفسها ، وجعل المتأخرون من الفقهاء للمرأة خمس عورات : وقالوا عورة في الصلاة ، وعورة عند الرجال المحارم ، وعورة عند الرجال الأجانب ، وعروة عند النساء المسلمات ، وعورة عند النساء الكافرات ، وتبعاً لذلك دعوا إلى الحجاب المطلق الذي يمنع المرأة من أن ترى أحداً أو يراها أحد . ونادوا بمنعها من أن تزاول أعمالها في الحياة فقالوا بمنعها من أن تمارس حق الانتخاب وبحرمانها من أن يكون لها رأي في السياسة والحكم والاقتصاد والاجتماع . وحالوا بينها وبين الحياة حتى جعلوا بعض آيات الله أنها جاءت مخاطبة الرجال دون النساء ، وأولوا حديث الرسول في مصافحة النساء له في البيعة ، وأحاديثه في عورة المرأة ، ومعاملته للنساء في الحياة تأويلاً يتفق مع ما يريدونه هم للمرأة ، لا مع ما يقتضيه حكم الشرع ، فكان كل ذلك منهم مبعداً الناس عن أحكام الشرع ، ومعمياً الناحية الاجتماعية عن المسلمين . ومن أجل ذلك لم تستطع آراؤهم أن تقف في وجه الأفكار الغازية ، ولم تقو على صد التيار الجارف ، ولم تؤثر في رفع الناحية الاجتماعية بين المسلمين أدنى تأثير . وبالرغم من وجود علماء الأمة لا يقلون عن المجتهدين الأولين وأصحاب المذاهب في العلم والاطلاع وبالرغم من وجود ثروة فكرية وتشريعية بين يدي المسلمين لا تدانهيا أية ثروة لأية أمة ، وبالرغم من توفر الكتب والمؤلفات القيمة بين يدي المسلمين في مكتباتهم العامة والخاصة ، وفي إقناع الجامدين بالرأي الإسلامي الذي استنبطه مجتهد استنباطاً صحيحاً ، ما دام مخالفاً لما يريدون المرأة أن تكون عليه . وذلك لأن هؤلاء وأولئك المقلدين والجامدين والعلماء والمتعلمين ابتعدت عنهم صفة الرجل المفكر ، فلا يفهمون الواقع ، أو لا يتفهمون حكم الله ، أو لا يتلقون أحكام الشرع تلقياً فكرياً ، بتطبيقها على الواقع تطبيقاً دقيقاً يحدث الانطباق الكامل . ومن أجل ذلك ظل المجتمع في البلاد الإسلامية يتأرجح بين فكرتين : الجمود والتقلي . وظلت الناحية الاجتماعية مضطربة ، حتى أصبحت المرأة المسلمة حائرة . فهي بين امرأة قلقة مضطربة تنتقل الحضارة الغربية دون أن تفهمها ، أو تعي على حقيقتها ، ودون أن تعرف التناقض الذي بينهما وبين الحضارة الإسلامية . وبين امرأة جامدة لا تنفع نفسها ، ولا ينتفع المسلمون بجهودها . وذلك كله من جراء عدم تلقي الإسلام تلقياً فكرياً ، وعدم فهم النظام الاجتماعي في الإسلام .

    ولذلك كان لا بد من دراسة النظام الاجتماعي في الإسلام دراسة شاملة ولا بد من التعمق في هذه الدراسة ، حتى تدرك المشكلة بأنها اجتماع المرأة والرجل ، والعلاقة الناشئة عن اجتماعهما ، وما يتفرع عن هذه العلاقة . وأن المطلوب هو علاج هذا الاجتماع ، والعلاقة الناشئة عنه ، وما يتفرع عنها . وأن هذا العلاج لا يمليه العقل ، وإنما يمليه الشرع ، وأما العقل فإنه يفهمه فهماً ، وأنه علاج لامرأة مسلمة ورجل مسلم ، يعيشان طراز معيناً من العيش هو الطراز الذي أوجبه الإسلام . وأن عليهما حتماً أن يتقيدا بالعيش على هذا الطراز وحده ، كما أمر به الله في الكتاب والسنة ، بغض النظر عما إذا ناقض ما عليه الغرب ، أو خالف ما عليه الآباء والأجداد من عادات وتقاليد .




    المراة والرجل

    قال الله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } وقال : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } وقال : { قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره } . فالله خاطب الإنسان بالتكاليف ، وجعل الإنسان موضع الخطاب والتكليف . وأنزل الشرائع للإنسان ويبعث الله الإنسان ،ويحاسب الإنسان ، ويدخل الجنة والنار الإنسان ، فجعل الإنسان لا الرجل ولا المرأة محل التكاليف .

    وقد خلق الله الإنسان امرأة أو رجلاً في فطرة معينة تمتاز عن الحيوان ، فالمرأة إنسان ، والرجل إنسان ، ولا يختلف أحدهما عن الآخر في الإنسانية ، ولا يمتاز أحدهما عن الآخر في شيء من هذه الإنسانية . وقد هيأهما لخوض معترك الحياة بوصف الإنسانية . وجعلهما يعيشان حتماً في مجتمع واحد . وجعل بقاء النوع متوقفاً على اجتماعهما ، وعلى وجودهما في كل مجتمع . فلا يجوز أن ينظر لأحدهما إلا كما ينظر للآخر ، بأنه إنسان يتمتع بجميع خصائص الإنسان ومقومات حياته ، وقد خلق الله في كل منهما طاقة حيوية ، هي نفس الطاقة الحيوية التي خلقها في الآخر . فجعل في كل منهما الحاجات العضوية كالجوع ، والعطش ، وقضاء الحاجة . وجعل في كل منهما غريزة البقاء ، وغريزة النوع ، وغريزة التدين . وهي نفس الحاجات العضوية والغرائز المجودة في الآخر . وجعل في كل منهما قوة التفكير وهي نفس قوة التفكير الموجودة في الآخر . فالعقل المجود عند الرجل هو نفس العقل الموجود عند المرأة إذ خلقه الله عقلاً للإنسان ، وليس عقلاً للرجل أو للمرأة .

    إلا أن غريزة النوع وإن كان يمكن أن يشبعها الذكر من ذكر أو حيوان ، أو غير ذلك . ويمكن أن تشبعها الأنثى أو حيوان ، أو غير ذلك . ولكنه لا يمكن أن تؤدي الغاية التي من جلها خلقت في الإنسان إلا في حالة واحدة ، وهي أن يشبعها الذكر من الأنثى ، وأن تشبعها الأنثى من الذكر . ولذلك كانت صلة الرجل بالمرأة ، وصلة المرأة بالرجل من الناحية الجنسية الغريزة صلة طبيعية لا غرابة فيها . بل هي الصلة الأصلية التي بها وحدها يتحقق الغرض الذي من أجله وجدت هذه الغريزة وهو بقاء النوع . فإذا وقعت بينهما هذه الصلة على شكل الاجتماع الجنسي كان ذلك بديهياً وطبيعياً ليس فيه شيء غريب . بل كان ذلك أمراً حتمياً لبقاء النوع الإنساني . إلا أن إطلاق هذه الغريزة مضر بالإنسان . وبحياته الاجتماعية . والغرض من وجودها إنما هو النسل لبقاء النوع . ولذلك كان لا بد من جعل نظرة الإنسان لهذه الغريزة منصبة على الغرض الذي من أجله وجدت في الإنسان ، ألا وهو بقاء النوع ، لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة . وأما اللذة والتمتع التي تحصل بالإشباع فهي أمر طبيعي وحتمي ، سواء نظر إليها الإنسان ، أم لم ينظر . ولذلك لا يصح أن يقال : يجب أن تبعد نظرة اللذة والتمتع عن غريزة النوع ، لأن هذا لا يأتي من النظرة ، بل هو طبيعي وحتمي ، ولا يتأتى فيه الأبعاد ، لأن هذا الأبعاد من المستحيلات . ولكن النظرة تأتي من مفهوم الإنسان عن هذا الإشباع ، وعن الغاية من وجودها . ومن هنا كان لا بد من إيجاد مفهوم معين عند الإنسان عن غريزة النوع ، وعن الغرض من وجودها في الإنسان ، يكون عنده نظرة خاصة إلى ما خلقه الله في الإنسان من غريزة النوع ، بحيث يحصرها في صلة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل . ويكون عنده نظرة خاصة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات الذكورة والأنوثة ، أو بعبارة أخرى الصلات الجنسية ، بحيث تنصب على القصد الذي من أجله وجدت وهو بقاء النوع . وبهذه النظرة يتحقق إشباع الغريزة ، ويتحقق الغرض الذي من أجله وجدت ، وتتحقق الطمأنينة للجماعة التي تأخذ هذا المفهوم ، وتوجد لديها هذه النظرة الخاصة . وكان لا بد أيضاً من تغيير نظرة الجماعة - أي جماعة - من بنى الإنسان إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات الذكورة والأنوثة أو بعبارة أخرى الصلات الجنسية ، من نظرة مسلطة على اللذة والتمتع ، إلى جعل هذه اللذة والتمتع أمراً طبيعياً وحتمياً للإشباع . وجعل النظرة منصبة على الغرض الذي من أجله كانت هذه الغريزة . وهذه النظرة تبقي غريزة النوع وتصرفها في وجهها الصحيح الذي خلقت له ، ويفسح المجال للإنسان ليقوم بجميع الأعمال ، ويتفرغ لكافة الأمور التي تسعده .

    ولهذا كان لا بد للإنسان من مفهوم عن إشباع غريزة النوع ، وعن الغاية من وجودها ، وكان لا بد أن يكون للجماعة الإنسانية نظام يمحو من النفوس تسلط فكرة الاجتماع الجنسي واعتبارها وحدها المتغلبة على كل اعتبار ، ويبقي صلات التعاون بين الرجل و المرأة . لأنه لا صلاح للجماعة إلا بتعاونهما ، باعتبار أنهما أخوان متضامنان تضامن مودة ورحمة . ولذلك لا بد من التأكيد على تغيير نظرة الجماعة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات تغييراً تاماً يزيل تسلط مفاهيم الاجتماع الجنسي ، ويجعلها أمراً طبيعياً وحتمياً للإشباع ، ويزيل حصر هذه الصلة باللذة والتمتع ، ويجعلها نظرة تستهدف مصلحة الجماعة ، لا نظرة الذكورة والأنوثة . ويسيطر عليها تقوى الله لا حب التمتع والشهوات . نظرة لا تنكر على الإنسان استمتاعه باللذة الجنسية ، ولكنها تجعله استمتاعاً مشروعاً ، محققاً بقاء النوع ، متفقاً مع المثل الأعلى للمسلم ، وهو رضوان الله تعالى .

    وقد جاءت آيات القرآن منصبة على الناحية الزوجية ، أي على الغرض الذي كانت من أجله غريزة النوع . فجاءت الآيات مبينة أن الخلق للغريزة من أصله إنما كان للزوجية أي لبقاء النوع ، أي أن الغريزة إنما خلقها الله للزوجية . وقد بينت ذلك بأساليب مختلفة ، ومعان متعددة ، لتجعل نظرة الجماعة إلى صلات المرأة بالرجل نظرة مسلطة على الزوجية ، لا على الاجتماع الجنسي ، قال تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } وقال : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها . فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به . فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين} وقال : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك ، وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } وقال : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً . وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } وقال : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } وقال : { فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } وقال : { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى } وقال : { وخلقناكم أزواجاً } . فالله سلط الخلق على الذكر والأنثى من ناحية الزوجية ، وكرر ذلك حتى تظل النظرة إلى الصلات بين الذكر والأنثى منصبة على الزوجية أي على النسل لبقاء النوع.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    الردود
    5
    الجنس

    تتمه

    أثر النظرة إلى الصلات

    بين الرجل والمرأة

    إذا ثارت الغريزة تطلبت إشباعاً ، وإذا لم تثر لا تتطلب الإشباع . وإذا تطلبت الغريزة الإشباع دفعت الإنسان لتحقيقه لها ، وإذا لم يحققه ينزعج ما دامت ثائرة . فإذا هدأت ذهب الانزعاج . ولا يترتب على عدم الإشباع الموت ، ولا أي أذى جسماني ، أو نفسي ، أو عقلي . وإنما يقتصر الأذى على الألم والانزعاج ، ومن هنا كان إشباع الغريزة ليس إشباعاً حتمياً كالحاجة العضوية وإنما هو إشباع لجلب الطمأنينة والارتياح .

    والذي يثير الغريزة أمران : أحدهما الواقع المادي ، والثاني الفكر ومنه تداعي المعاني . وإذا لم يوجد واحد من هذه العاملين لا تثور الغريزة . فهي لا تثور إلا من دافع داخلي كالحاجة العضوية ، بل من دافع خارج ، هو الواقع المادي ، والفكر . وهذا كله ينطبق على غريزة البقاء ، وغريزة التدين ، وغريزة النوع ، سواء بسواء ، دون أي تمييز بينها .

    ولما كانت غريزة النوع كباقي الغرائز ، إذا ثارت تتطلب إشباعاً ولا تثور إلا بالواقع المادي ، أو الفكر . لذلك كان جعل غريزة النوع تتطلب إشباعاً أمراً يمكن للإنسان أن يتصرف في توجيه هذا الإشباع ، بل يمكن أن يتصرف إيجاده ، أو الحيلولة بينه وبين أن يتحرك إلا حيث يتجه هو بقاء النوع . ولذلك كانت رؤية النساء ، أو أي واقع يتصل بغريزة النوع يثير الغريزة ، ويجعلها تتطلب الإشباع . وكانت قراءة القصص الجنسية وسماع الأفكار الجنسية يثير غريزة النوع . وكان الابتعاد عن النساء ، وعن كل ما يتصل بغريزة النوع ، والابتعاد عن الأفكار الجنسية ، يحول بين غريزة النوع وبين إثارتها . لأنه لا يمكن أن تثور غريزة النوع إلا إذا أثيرت ، بواقع مادي أو بفكر جنسي .

    فإذا كانت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على صلة الذكورة والأنوثة ، أي على الصلة الجنسية كما هي الحال في المجتمع الغربي ، كان إيجاد الواقع المادي ، والفكر الجنسي المثيرين عند الرجل والمرأة أمراً ضرورياً لإثارة الغريزة حتى تتطلب إشباعاً ، وحتى يجري إشباعها لتتحقق هذه الصلة ، وتوجد الراحة بواسطة الإشباع . وإذا كانت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على الغرض الذي من أجله وجدت هذه الغريزة ، وهو بقاء النوع ، وكان إبعاد الواقع المادي والفكر الجنسي عن الرجل والمرأة أمراً ضرورياً في الحياة العامة ، حتى لا تثور الغريزة ، لئلا تتطلب إشباعاً لا يتاح لها ، فينالها الألم والانزعاج . وكان حصر هذا الواقع المادي المثير في حالة الزوجية أمراَ ضرورياً لبقاء النوع ، ولجلب الطمأنينة والراحة ، في تحقيق الإشباع عند تطلبه . ومن هنا يتبين إلى أي حد تؤثر نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة على توجيه الحياة العامة بين الجماعة وفي المجتمع . وقد كانت نظرة الغربيين الذين يعتنقون المبدأ الرأسمالي والشرقيين الذي يعتنقون الشيوعية إلى الصلات بين الرجل و المرأة نظرة جنسية لا نظرة بقاء النوع . ولذلك دأبوا على تعمد إيجاد الواقع المادي والفكر الجنسي أمام الرجل والمرأة لإثارة غريزة النوع من أجل إشباعها . ورأوا أن عدم إشباعها يسبب الكبت الذي يؤدي إلى أضرار جسمية ، ونفسية ، وعقلية على حد زعمهم . ومن هنا نجد الجماعة الغربية والشيوعية والمجتمع الغربي والشيوعي تكثر فيهما الأفكار الجنسية في القصص ، والشعر ، والمؤلفات ، وغير ذلك . ويكثر فيه الاختلاط بين الرجل والمرأة لغير حاجة في البيوت ، والمنتزهات ، والطرقات ، وفي السباحة ، وما شاكل ذلك ، لأنهم يعتبرون هذا أمراً ضرورياً ويتعمدون إيجاده ، وهو جزء من تنظيم حياتهم ، وجزء من طراز عيشهم .

    أما نظرة المسلمين الذين يعتنقون الإسلام مؤمنين بعقيدته وأحكامه . وبعبارة أخرى نظرة الإسلام إلى الصلات بين الرجل والمرأة ، فإنه نظرة لبقاء النوع لا نظرة للناحية الجنسية ، وتعتبر الناحية الجنسية أمراً حتمياً في الإشباع ، ولكن ليست هي التي توجه الإشباع . ومن أجل ذلك يعتبر الإسلام وجود الأفكار الجنسية بين الجماعة أمراً يؤدي إلى الضرر ، ويعتبر وجود الواقع المادي الذي يشير النوع أمراً يؤدي إلى الفساد . ولذلك جاء ينهي عن الخلوة بين الرجل والمرأة ، وجاء ينهي عن التبرج والزينة للأجانب ، وينهي كلاً من الرجل والمرأة عن النظر للأخر نظرة جنسية ، وجاء يحدد التعاون بين الرجل والمرأة في الحياة العامة ، وجاء يحصر الصلة الجنسية بين الرجل والمراة في حالتين اثنين ليس غير ، هما : الزواج ، وملك اليمين .

    فالإسلام يعمل على الحيلولة بين غريزة النوع وبين ما يثيرها في الحياة العامة ، وعلى حصر صلة الجنس في أمور معينة . بينما الرأسمالية والشيوعية تعملان على إيجاد ما يثير غريزة النوع من أجل تحقيق إشباعها وتطلقها في كل شيء . وفي حين أن نظرة الإسلام للصلات بين الرجل والمرأة إنما هي لبقاء النوع ، فإن نظرة الرأسمالية والشيوعية للصلات بين الرجل والمرأة نظرة ذكورة وأنوثة ، أي نظرة جنسية . وشتان بين النظرتين وفرق شاسع بين ما يعمله كل من الإسلام وهذين المبدأين . وبهذا يظهر ما في الإسلام من نظرة الطهر والفضيلة والعفاف ونظرة هناء الإنسان وبقاء نوعه .

    وأما ما يزعمه الغربيون والشيوعيون من أن كبت الغريزة الجنسية في الرجل والمرأة بسبب للإنسان أمراضاً جسمية ونفسية وعقلية فإن ذلك غير صحيح وهو وهم مخالف للحقيقة . وذلك لأن هنالك فرقاً بين الغريزة والحاجة العضوية من حيث حتمية الإشباع ، فإن الحاجة العضوية كالأكل والشرب وقضاء الحاجة يتحتم إشباعها ، وإذا لم تشبع ينتج عنها أضرار ربما تصل إلى الموت . وأما الغريزة كالبقاء والتدين والنوع فإنه لا يتحتم إشباعها . وإذا لم تشبع لا ينتج عن عدم إشباعها أي ضرر جسمي أو عقلي أو نفسي وإنما يحصل من ذلك إنزعاج وألم ليس غير ، بدليل أنه قد يمضي الشخص عمره كله دون أن يشبع بعض الغرائز ، ومع ذلك لا يحصل له شيء من الضرر ، وبدليل أن ما يزعمونه من أمراض جسمية وعقلية ونفسية لا يحصل للإنسان بوصفه إنساناً إذا لم يشبع غريزة النوع وإنما يحصل لبعض الأفراد ، وهذا يدل على أنه لا يحصل طبيعياً حسب الفطرة من عدم الإشباع ، وإنما يحصل لأعراض أخرى غير الكبت . إذ لو حصل من كبت الغريزة لحصل للإنسان في كل حالة يقع فيها الكبت حصولاً طبيعياً حسب الفطرة وهو لم يقع مطلقاً ، وهم يعترفون بأنه لم يقع للإنسان فطرياً من جراء الكبت فيكون الذي قد حصل لهؤلاء الأفراد آتياً من عارض آخر غير الكبت .

    هذا من جهة ، ومن جهة أخري فإنه الحاجة العضوية تتطلب الإشباع طبيعياً من الداخل دون حاجة لمؤثر خارجي وإن كان المؤثر الخارجي يثيرها في حالة وجود الجوعة بخلاف الغريزة فإنها لا تتطلب الإشباع طبيعياً من الداخل من غير مؤثر خارجي ، بل لا تثور داخلياً إلا بمؤثر خارجي من واقع مادي مثير أو فكر جنسي مثير ، ومنه تداعي المعاني المثير . فإذا لم يوجد هذا المؤثر الخارجي لا تحصل الإثارة . وهذا شأن جميع الغرائز لا فرق بين غريزة البقاء ، أو غريزة التدين ، أو غريزة النوع بجميع مظاهرها كلها . فإنه إذا وجد أمام الشخص ما يثير أي غريزة يتهيج ، وتتطلب الغريزة الإشباع ، فإذا أبعد عنه ما يحرك الغريزة ، أو أشغل بما يطغى عليها بما هو أهم منها ذهب تطلب الإشباع ، وهدأت نفسه ، بخلاف الحاجة العضوية ، فإنه لا يذهب تطلب إشباعها متى ثارت مطلقاً ، بل يستمر حتى تشبع . وبهذا يظهر بوضوح أن عدم إشباع غريزة النوع لا يحصل منه أي مرض جسمي أو عقلي أو نفسي مطلقاً لأنها غريزة وليست حاجة عضوية . وكل ما يوجد هو أن الشخص إذا وجد أمامه ما يثير غريزة النوع من واقع مادي ، أو فكر جنسي مثيرين فإنه قد يتهيج فيتطلب الإشباع ، فإذا لم يشبع يصيبه من هذا التهيج انزعاج ليس أكثر ، ومن تكرار هذا الانزعاج يتألم . فإذا أبعد عنه ما يحرك غريزة النوع ، أو أشغل بما يطغى على هذه الغريزة بما هو أهم منها ذهب الانزعاج . وعليه فإن كبت غريزة الجنس إذا ثارت يحصل منه ألم وانزعاج ليس أكثر ، وإذا لم تثر بما يثيرها لا يحصل منها شيء حتى ولا ألم وانزعا ، فيكون علاجها هو عدم إثارتها بالحيلولة بينها وبين ما يثيرها إذا لم يتأت لها الإشباع .

    وبهذا يتبين خطأ وجهة النظر الغربية والشيوعية التي جعلت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على صلة الذكورة والأنوثة ، وبالتالي خطأ علاج هذه النظرة بإثارة الغريزة في الرجل والمرأة بإيجاد ما يثيرها من الوسائل كالاختلاط والرقص والألعاب والقصص وما شابه ذلك . كما يتبين صدق وجهة النظر الإسلامية التي جعلت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على الغرض الذي من أجله وجدت هذه الغريزة وهو بقاء النوع ، ويظهر بالتالي صحة علاج هذه النظرة بإبعاد ما يثيرها من الواقع المادي والفكر الجنسي المثيرين ، إذا لم يتأت لها الإشباع المشروع بالزواج وملك اليمين . فيكون الإسلام وحده هو الذي يعالج ما تحدثه غريزة النوع من الفساد في المجتمع والناس علاجاً ناجعاً ، يجعل أثرها محدثاً الصلاح والسمو في المجتمع والناس .




    تنظيم الصلات بين المرأة والرجل

    لا يعني كون المرأة تثير غريزة النوع عند الرجل ، وكون الرجل يثير غريزة النوع عند المرأة ، أن هذه الإثارة أمر حتمي الوجود كلما وجد الرجل مع المرأة والمراة مع الرجل . بل يعني أن الأصل في كل منهما أن يثير وجوده مع الآخر هذه الغريزة ، فتوجد عند وجود هذه لإثارة العلاقة الجنسية بينهما . ولكنهما قد يوجدان معاً ولا تثار هذه الغريزة . كما لو وجدا للتبادل التجاري ، أو للقيام بعملية جراحية لمريض ، أو لحضور دروس العلم ، أو غير ذلك . ولكن في جميع هذه الحالات وفي غيرها توجد قابلية إثارة الغريزة الجنسية بينهما . إلا أنه ليس معنى وجود القابلية وجود الإثارة ، بل تحصل الإثارة من تحويل النظرة من قبل كل منهما إلى الآخر من نظرة لبقاء النوع إلى نظرة الذكورة والأنوثة . ولهذا لا يجوز أن يجعل كون المرأة تثير غريزة النوع عند الرجل ، وكون الرجل يثير غريزة النوع عند المرأة ، سبباً لفصل المرأة عن الرجل فصلاً تاماً ، أي لا يصح أن يجعل وجود قابلية الإثارة لغريزة النوع عند الرجل والمرأة حائلاً دون اجتماع الرجال والنساء في الحياة العامة ، ودون التعاون بينهما . بل لا بد من اجتماع الرجل بالمرأة في الحياة العامة ، ولا بد من تعاونهما . لأن هذا التعاون ضروري للمجتمع ، وللحياة العامة . إلا أنه لا يمكن هذا التعاون إلا بنظام ينظم العلاقة الجنسية بينهما ، وينظم الصلات بين المرأة والرجل . ولا بد من أن ينبثق هذا النظام عن النظرة إلى هذه الصلات بين الرجل والمرأة بأنها نظرة لبقاء النوع . وبهذا النظام يمكن اجتماع المرأة والرجل في الحياة العامة ، والتعاون بينهما دون أي محذور .

    والنظام الوحيد الذي يضمن هناء الحياة ، وينظم صلات المرأة بالرجل تنظيماً طبيعياً تكون الناحية الروحية أساسه ، والأحكام الشرعية مقياسه ، بما في ذلك الأحكام التي تحقق القيمة الخلقية ، هذا النظام هو النظام الاجتماعي في الإسلام . فهو ينظر إلى الإنسان رجلاً كان أو امرأة بأنه إنسان ، فيه الغرائز ، والمشاعر ، والميول ، وفيه العقل . ويبيح لهذا الإنسان التمتع بلذائذ الحياة ، ولا ينكر عليه الأخذ منها بالنصيب الأكبر ولكن على وجه يحفظ الجماعة والمجتمع ، ويؤدي إلى تمكين الإنسان من السير قدماً لتحقيق هناء الإنسان . والنظام الاجتماعي في الإسلام وحده هو النظام الاجتماعي الصحيح ، على فرض أن هناك نظاماً اجتماعيا غيره . لأن هذا النظام يأخذ غريزة النوع على أنها لبقاء النوع الإنساني . وينظم صلات الذكورة والأنوثة بين الرجل والمرأة تنظيماً دقيقاًَ بحيث يجعل هذه الغريزة محصورة السير في طريقها الطبيعي ، موصلة للغاية التي من أجلها خلقها الله في الإنسان . وينظم في نفس الوقت الصلات بين الرجل والمرأة ، ويجعل تنظيم صلة الذكورة والأنوثة جزءاً من تنظيم الصلات بينهما ، بحيث يضمن التعاون بين الرجل والمرأة من اجتماعهما معاً ، تعاونا منتجاً لخير الجماعة والمجتمع والفرد ، ويضمن في نفس الوقت القيمة الخلقية ، وجعل المثل الأعلى رضوان الله هو المسير لها حتى تكون الطهارة والتقوى هي التي تقرر طريقة الصلات بين هذه الجنسين في الحياة ، وتجعل أساليب الحياة ووسائلها لا تناقض مع هذه الطريقة بحال من الأحوال .

    فقد حصر الإسلام صلة الجنس ، أي صلة الذكورة والأنوثة بين الرجل والمرأة بالزواج ، وملك اليمين ، وجعل كل صلة تخرج عن ذلك جريمة تستوجب أقصى أنواع العقوبات . ثم أباح باقي الصلات التي هي من مظاهر غريزة النوع ما عدا الاجتماع الجنسي ، كالأبوة والأمومة والبنوة والأخوة والعمومة والخؤولة ، وجعله رحماً محرماً . وأباح للمرأة ما أباحه للرجل من مزاولة الأعمال التجارية والزراعية ، والصناعية وغيرها ، ومن حضور دروس العلم ، والصلوات وحمل الدعوة ، وغير ذلك .

    وقد جعل الإسلام التعاون بين المرأة والرجل في شؤون الحياة ، وفي علاقات الناس بعضهم مع بعض أمراً ثابتاً في جميع المعاملات . فالكل عباد الله . والكل متضامن للخير ولتقوى الله وعبادته . وقد جاءت الآيات مخاطبة الإنسان في الدعوة إلى الإسلام بغض النظر عن كونه رجلاً أو امرأة ، قال تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } وقال : { يا أيها الناس اتقوا ربكم } وجاءت هذه الآيات مخاطبة المؤمنين في العمل بأحكام الإسلام قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ، وجاءت الآيات عامة شاملة للرجل والمرأة قال تعالى : { كتب عليكم الصيام } وقال : { أقيموا الصلاة } وقال : { خذ من أموالهم } وقال : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } قال : { والذين يكنزون الذهب والفضة } وقال : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} وقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان } إلى غير ذلك من الآيات فإنها كلها عامة للمرأة والرجل ، والقيام بها يمكن أن يحصل فيه اجتماع بين الرجل والمرأة ، حتى ما كان القيام به فردياً كالصلاة . مما يدل على إباحة الإسلام للاجتماع بين الرجل والمرأة للقيام بما كلفهم به من أحكام ، وما عليهم أن يقوموا به من أعمال .

    إلا أن الإسلام احتاط للأمر ، فمنع كل ما يؤدي إلى الصلة الجنسية غير المشروعة ، ويخرج أياً من المرأة والرجل عن النظام الخاص للعلاقة الجنسية . وشدد في هذا المنع ، فجعل العفة أمراً واجباً ، وجعل استخدام كل طريقة أو أسلوب أو وسيلة تؤدي إلى صيانة الفضيلة والخلق أمراً واجباً ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وحدد لذلك أحكاماً شرعية معينة وهذه الأحكام كثيرة منها :

    1 - أنه أمر كلاً من الرجل والمرأة بغض البصر قال تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ، ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ، ويحفظن فروجهن } .

    2 - أمر النساء أن يرتدين اللباس الكامل المحتشم الذي يستر كل ما هو موضع للزينة ، إلا ما ظهر منها . وأن يدنين عليهن ثيابهن فيتسترن بها . قال تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، وليضربن بخمرهن على جيوبهن } وقال : { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ، ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } أي لا يبدين محل زينتهن إلا ما ظهر منها ، والخمار عطاء الرأس ، والجيب طوق القميص ، أي فتحة القميص من العنق إلى الصدر، أي ليجعلن خمرهن على عنقهن وصدورهن . والإدناء من الجلباب هو إرخاء الثوب إلى أسفل .

    3 - منع المرأة من أن تسافر من بلد إلى آخر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم . قال عليه الصلاة والسلام : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم لها " .

    4 - منع الخلوة بين الرجل والمرأة إلا ومعها محرم . قال عليه الصلاة والسلام : " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم " وعن ابن عباس أنه سمع النبي r يخطب يقول : " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال : " فانطلق فحج مع امرأتك " .

    5 - منع المرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها ، لأن له حقوقاً عليها ، فلا يصح أن تخرج من منزله إلا بإذنه ، وإذا خرجت بغير إذنه كانت عاصية ، واعتبرت ناشزة لا تستحق النفقة ، فقد روى ابن بطة في أحكام النساء عن أنس أن رجلاً سافر ومنع زوجته من الخروج فمرض أبوها فاستأذنت رسول الله r في عيادة أبيها فقال لها رسول الله r : " اتقي الله ولا تخالفي زوجك " فمات أبوها فاستأذنت رسول الله r في حضور جنازته فقال لها : " اتقي الله ولا تخالفي زوجك " فأوحى الله إلى النبي r " إني قد غفرت لها بطاعة زوجها " .

    6 - حرص الإسلام على أن يجعل جماعة النساء منفصلة عن جماعة الرجال في الحياة الخاصة ، وفي المسجد والمدرسة وما شاكل ذلك ، فجعل المرأة تعيش في وسط النساء ، والرجل يعيش في وسط الرجال ، وجعل صفوف النساء في الصلاة متأخرة عن صفوف الرجال ، وجعل عيش النساء مع النساء أو مع المحارم ، فتقوم المرأة بأعمالها العامة كالبيع والشراء ونحوه على أن تذهب بعد العمل لتعيش مع النساء أو مع محارمها .

    7 - حرص على أن تكون صلة التعاون بين الرجل والمرأة صلة عامة في المعاملات ، لا صلة خاصة كتبادل الزيارات بين الرجال الأجانب والنساء ، والخروج للنزهة سوية . لأن المقصود من هذا التعاون هو مباشرة المرأة لاستيفاء ما لها من حقوق ومصالح ، وأداء ما عليها من واجبات .

    وبهذه الأحكام احتاط الإسلام في اجتماع المرأة بالرجل من أن ينصرف هذا الاجتماع إلى الاجتماع الجنسي حتى يظل اجتماع تعاون لقضاء المصالح ، والقيام بالأعمال . فعالج بذلك العلاقات التي تنشأ عن مصالح الأفراد رجالاً كانوا أو نساء حين اجتماع الرجال بالنساء ، وعالج العلاقات الناشئة عن اجتماع الرجال بالنساء ، كالنفقة ، والبنوة والزواج ، وغير ذلك معالجة تحصر الاجتماع بالعلاقة التي وجد من أجلها ، وتبعده عن علاقة الاجتماع الجنسي .

    الحياة الخاصة

    طبيعة حياة الإنسان تجعل له حياة عامة يعيش فيها بين أفراد المجتمع ، في القبيلة ، أو القرية ، أو المدينة ، وتجعل له حياة خاصة يعيش فيها في بيته وبين أفراد أسرته . وقد جاء الإسلام لهذه الحياة الخاصة بأحكام معينة ، عالج بها المشاكل التي تحصل للإنسان فيها رجلاً كان أو امرأة . ومن أبرز هذه الأحكام أنه جعل حياته الخاصة في بيته تحت تصرفه وحده ، ومنع الناس أن يدخلوا بيته إلا بإذنه . قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون } فنهى الله تعالى الناس عن دخول البيوت إلا بإذن أهلها ، واعتبر عدم الإذن استيحاشاً ، والإذن استئناساً فقال : { حتى تستأنسوا } وهي كناية عن طلب الإذن لأنه لا يحصل الاستئناس إلا به . أي حتى تستأذنوا أهلها . وأخرج الطبراني أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " من أدخل عينه في بيت من غير إذن أهله فقد دمره " . وأخرج أبو داود : ( أن رجلاً سأل النبي r أأستأذن على أمي ؟ ) قال : " نعم " أتحب أن تراها عريانة ؟ قال الرجل : لا ، قال : فاستأذن " فمنع دخول أي إنسان بيتاً غير بيته إلا بإذن أهل البيت . ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدخول عليه مسلماً أو غير مسلم . لأن الخطاب وإن كان للمسلمين فإنما هو بالنسبة للمستأذن . أما البيوت فقد جاءت مطلقة من غير قيد ، وعامة من غير تخصيص فشمل ذلك كل بيت . وهذا صريح في تقرير حرمة البيوت ، وفي تخصيص الحياة الخاصة بأحكام خاصة ، منها طلب الإذن عند إرادة دخول أي بيت . فإن لم يجد المستأذن أحداً في البيت فلا يدخل حتى يؤذن له ، وإن قال له أحد ارجع فيجب أن يرجع ، ولا يجوز أن يدخل . قال تعالى : { فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم } أي لا يجوز لكم أن تلحوا في طلب الإذن ، ولا تلحوا في تسهيل الحجاب ، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين . وهذا كله في البيوت المسكونة . أما البيوت غير المسكونة فإنه ينظر فيها ، فإن كان للذي يريد أن يدخل متاع فيها فإنه يجوز له أن يدخلها دون استئذان . وهي مستثناة من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها . قال الله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } ومفهوم المخالفة أنه إن لم يكن لكم فيها متاع فلا تدخلوها ، فيكون الاستثناء خاصاً بالبيوت غير المسكونة التي فيها متاع للذي يريد الدخول . وبأحكام الاستئذان هذه تحفظ الحياة الخاصة من إزعاج الطارقين ، ويطمئن من فيها من كل من هو خارجها .

    هذا بالنسبة لغير من يملكونهم من الرقيق ، ولغير الأطفال . أما من يملكونهم من الرقيق والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم فإن لهم أن يدخلوا البيوت من غير استئذان ، إلا في ثلاث حالات ، هي : قبل صلاة الفجر ، وعند الظهر ، وبعد صلاة العشاء . فإنه يجب عليهم أن يستأذنوا في هذه الحالات الثلاث ، لأنها حالات عورة ، فيها يغير المرء ثيابه للنوم ، أو للاستيقاظ من النوم ، وهي أوقات عورات . أما قبيل صلاة الفجر فإنه وقت الاستيقاظ من النوم ، وفيه يغير ثياب النوم بثياب غيرها . وعند الظهيرة هو وقت القيلولة والنوم ، يجري فيه كذلك تغيير الثياب ، وبعد صلاة العشاء هو وقت النوم وفيه يغير المرء ثياب اليقظة ، ويلبس ثياب النوم . فهذه الأوقات عورات يجب أن يستأذن فيها من يملكونهم من الرقيق والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم ، أما في غير هذه الأوقات فإن لهذين الصنفين أن يدخلوا البيوت في أي وقت يشاءون دون استئذان ، حتى إذا بلغ الأطفال الحلم سقط حقهم في الدخول ، وصار عليهم أن يستأذنوا كسائر الناس . قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ، ثلاث مرات ، من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء . ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض ، كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليكم حكيم . وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ، كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم } .

    فهذه أحكام حفظ الحياة الخاصة في البيت من الطارقين الذي يريدون أن يدخلوا ، لا فرق في ذلك بين أجنبي ومحرم قريب أم نسيب . أما أحكام هذه الحياة الخاصة في الداخل فإن المرأة تعيش فيها مع النساء ، أو مع محارمها ، لأنهم هم الذين يجوز لها أن تبدي لهم محل زينتها من أعضائها ، مما لا يستغنى عن ظهوره في الحياة الخاصة في البيت . وما عدا النساء ومحارمها لا يجوز أن تعيش معهم لأنه لا يجوز لها أن تبدي لهم محل زينتها من أعضائها ، مما يبدو من المرأة أثناء قيام المرأة بأعمالها في البيت غير الوجه والكفين . فالحياة الخاصة مقصورة على النساء والمحارم ، ولا فرق في النساء بين المسلمات وغير المسلمات فكلهن نساء . فكون المرأة منهية عن إبداء أعضائها التي تتزين بها للأجانب ، وغير منهية عن إبدائها للمحارم ، دليل واضع على اقتصار الحياة الخاصة على المحارم وحدهم قال تعالى : { وقل للمؤمنات يغضض من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ، أو آبائهن أو آباء بعولتهن ، أو أبنائهن ، أو أبناء بعولتهن ، أو إخوانهن ، أو بني إخوانهن ، أو بني أخواتهن ، أو نسائهن ، أو ما ملكت أيمانهن ، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } . وقد ألحق بالمحارم الأرقاء الذين يملكونهم ، وكذلك الذين لا توجد عندهم شهوة النساء من الشيوخ الطاعنين بالسن أو البله ، أو الخصي ، أو المجبوب ، أو ما شاكل ذلك ممن لا توجد لديه الإربة ، وهي الحاجة إلى النساء . فإن هؤلاء يجوز أن يكونوا في الحياة الخاصة وما عداهم من الرجال الأجانب - ولو كانوا من الأقارب غير المحارم - فإنه لا يجوز لهم أن يكونوا في الحياة الخاصة مطلقاً ، لأنه لا يجوز للمرأة أن تبدي لهم محل زينتها من أعضائها التي تظهر عادة في بيتها .

    فاجتماع الرجال الأجانب بالنساء في الحياة الخاصة حرام مطلقاً ، إلا في الحالات التي استثناها الشارع كالطعام وصلة الأرحام ، على أن يكون مع المرأة ذو محرم لها ، وأن تكون ساترة لجميع عورتها .




    وجوب انفصال الرجال عن النساء

    في الحياة الإسلامية

    إن الحياة الإسلامية ، وهي عيش المسلمين في أحوالهم عامة ثابت بالنصوص الشرعية في القرآن والسنة أن الرجال ينفصلون فيها عن النساء ، سواء في الحياة الخاصة في البيوت وما شاكلها ، أو في الحياة العامة في الأسواق والطرقات وما شابهها . وهذا فوق كونه ثابتاً من مجموع الأحكام الشرعية المتعلقة بالرجل ، والمتعلقة بالمرأة ، والمتعلقة بهما ، وثابتاً من مخاطبة القرآن للنساء بوصفهن نساء ، وللرجال بوصفهم رجالاً من مثل قوله تعالى : {المتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} وغير ذلك فإنه مروي بشكل عملي ، وبشكل جماعي من أيام الرسول r وفي جميع عصور الإسلام .

    أما مجموع الأدلة فإنه بتتبعها نجد أن الشارع لم يقبل شهادة النساء في الجنايات لأنها لا تعيش حيث يغلب أن تكون الجنايات ، وأنه أوجب على المرأة لبس الجلباب إذا أرادت الخروج إلى خارج البيت ، وجعل المرأة كلها عورة ما عدا وجهها وكفيها ، وحرم عليها إبداء زينتها لغير محارمها ، وحرم على الرجل النظر إلى عورتها ، ولو إلى شعرها ، ومنع المرأة من السفر ، ولو إلى الحج دون محرم ، ونجد أن الشارع حرم الدخول إلى البيوت إلا بإذن ، ونجد أنه لم يفرض على المرأة صلاة الجماعة ، ولا صلاة جمعة ، ولا جهاداً وفرضها على الرجل ، ونجد أنه أوجب السعي والكسب على الرجل ولم يوجبه على المرأة . كل ذلك كان إلى جانب أن الرسول r قد فصل الرجال عن النساء ، وجعل صفوف النساء في المسجد وفي الصلاة خلف صفوف الرجال ، وعند الخروج من المسجد أمر بخروج النساء أولاً ثم الرجال حتى يفصل النساء عن الرجال . وفي دروسه عليه السلام في المسجد قالت النساء له يا رسول الله غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً . فهذه الأحكام والحالات وما شابهها تدل في مجموعها على سير الحياة الإسلامية ، وأنها حياة ينفصل فيها الرجال عن النساء ، وأن هذا الفصل فيها بين الرجال والنساء جاء عاماً ، لا فرق في ذلك بين الحياة الخاصة ، والحياة العامة ، فإن الحياة الإسلامية في عهد الرسول r قد فصل فيها الرجال عن النساء مطلقاً ، في الحياة الخاصة ، وفي الحياة العامة على السواء ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء الشارع بجواز الاجتماع فيه سواء في الحياة الخاصة ، أو في الحياة العامة . والشارع أجاز للمرأة البيع والشراء والأخذ والعطاء ، وأوجب عليها الحج ، وأجاز لها حضور صلاة الجماعة ، وأن تجاهد الكفار ، وأن تملك وأن تنمي أموالها ، إلى غير ذلك مما أجازه لها . فهذه الأفعال التي أجازها الشارع للمرأة ، أو أوجبها عليها ينظر فيها فإن كان القيام بها يقتضي الاجتماع بالرجل جاز حينئذ الاجتماع في حدود أحكام الشرع ، وفي حدود العمل الذي أجازه لها ، وذلك كالبيع والشراء والإجارة والتعلم والتطبيب والتمريض والزراعة والصناعة وما شابه ذلك . لأن دليل إباحتها أو إيجابها يشمل إباحة الاجتماع لأجلها ، وأما إن كان القيام بها لا يقضي الاجتماع بالرجل كالمشي في الطريق في الذهاب إلى المسجد أو إلى السوق أو إلى زيارة الأهل ، أو للنزهة ، وكالأكل والشرب وما شابه ذلك فإنه لا يجوز اجتماع المرأة بالرجل في مثل هذه الأحوال ، لأن دليل انفصال الرجال عن النساء عام ، ولم يرد دليل بجواز الاجتماع بين الرجل والمرأة لمثل هذه الأمور ، ولا هي مما يقتضيه ما أجاز الشرع للمرأة أن تقوم به ؛ ولهذا كان الاجتماع لمثل هذه الأمور إثماً ، ولو كانت في الحياة العامة . وعليه فإن انفصال الرجال عن النساء في الحياة الإسلامية فرض ، وأن الانفصال في الحياة الخاصة يكون انفصالاً تاماً إلا ما استثناه الشرع ، وأما في الحياة العامة فإن الأصل هو الانفصال ، وإنه لا يجوز فيها الاجتماع بين الرجال والنساء إلا فيما جاء الشارع بإباحته أو بإيجابه أو بندبه للمرأة ، وكان القيام به يقتضي الاجتماع بالرجال ، سواء كان الاجتماع مع وجود الانفصال كما في المسجد ، أو كان مع وجود الاختلاط كما في مشاعر الحج والبيع والشراء .






    النظر إلى المرأة

    من أراد أن يتزوج امرأة فله أن ينظر إليها من غير أن يخلو بها ، فقد روى جابر قال : قال رسول الله r : " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل . قال : فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها " ولا بأس بالنظر إليها بإذنها وبغير إذنها . لأن النبي r أمرنا بالنظر المطلق . وفي حديث جابر المار " فكنت أتخبأ لها " إلا أنه لا يجوز الخلوة بها . لأن النبي r قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان " وهذا عام . ولم يرد استثناء منها بحق الخاطب ، كما ورد استثناء في النظر . ويجوز أن ينظر إلى الوجه والكفين وإلى غير الوجه والكفين ، لأن النظر إلى الوجه والكفين عام يشمل الخاطب وغيره ، فلا معنى لوجود استثناء الخاطب منه ، فدل على أن الاستثناء منصب على غير الوجه والكفين ولأن الرسول قال : " أن ينظر إليها " وهو عام يشمل النظر إلى الوجه والكفين ، وإلى غيرهما ، مما يلزم لمعرفتها بقصد المعرفة بغية النكاح حتى يخطبها .

    وأيضاً فإن الله أمر المؤمنين بغض البصر وغض البصر يقتضي عدم تصويبه من الرجل للمرأة ولا من المرأة للرجل فجاء حديث جابر يبيح للخاطب أن يصوب نظره إلى المرأة فيكون مستثنى من غض البصر . أي يجب على المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم إلا الخاطبين فإن لهم عدم غض البصر لينظروا إلى من يريدون خطبتها من النساء .

    ويباح لكل واحد من الزوجين النظر إلى جميع بدن صاحبه لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : " قلت يا رسول الله عورتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ فقال لي : احفظ عورتك إلا من زوجتك . أو ما ملكت يمينك " .

    ويجوز للرجل أن ينظر من ذوات محرمه مسلمات وغير مسلمات إلى أكثر من الوجه والكفين من الأعضاء التي تكون محل زينة ، دون تحديد بأعضاء معينة ، لورود النص في ذلك ، ولإطلاق هذا النص . قال تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ، أو آبائهن أو آباء بعولتهن ، أو أبنائهن ، أو أبناء بعولتهن ، أو إخوانهن ، أو بني إخوانهن ، أو بني أخواتهن ، أو نسائهن ، أو ما ملكت أيمانهن ، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } . فهؤلاء جميعاً يجوز أن ينظروا من المرأة شعرها ، ورقبتها ، ومكان دملجها ، ومكان خلخالها ، ومكان عقدها ، وغير ذلك من الأعضاء التي يصدق عليها أنها محل زينة ، لأن الله يقول : { ولا يبدين زينتهن إلا} أي محل زينتهن ، إلا لهؤلاء الذين ذكرهم القرآن ، فإنه يجوز لهم أن ينظروا إلى ما يبدو منها في ثياب البذلة ، أي في حالة التبذل . وروى الشافعي في مسنده عن زينب بنت أبي سلمة : ( أنها ارتضعت من أسماء امرأة الزبير ، قالت فكنت أراه أباً ، وكان يدخل علي وأنا أمشط رأسي ، فيأخذ بعض قرون رأسي ويقول : أقبلي علي ) . وروي أن أبا سفيان دخل على ابنته أم حبيبة زوجة رسول الله r حين قدم المدينة ليجدد عهد الحديبيه ، فطوت فراش رسول الله r لئلا يجلس عليه ، ولم تحتجب منه وذكرت ذلك لرسول الله r فأقرها ، ولم يأمرها أن تحتجب منه ، مع أنه مشرك ولكنه محرم .

    وأما غير المحرم وغير الخاطب والزوج فإنه ينظر ، فإن كانت هناك حاجة للنظر سواء نظر الرجل إلى المرأة أو المرأة إلى الرجل فإنه يباح له أن ينظر إلى العضو الذي تستدعي الحاجة النظر إليه فحسب . ولا ينظر إلى غيره ما عدا الوجه والكفين ، وهؤلاء الذين تستدعي الحاجة أن ينظروا إلى العضو والذين أباح لهم الشرع النظر هم كالطبيب ، والممرضة ، والمحقق ومن شاكل ذلك ممن تستدعي الحاجة أن ينظروا إليه من العورة وغيرها ، فقد روي " أن النبي r لما حكم سعداً في بني قريظة كان يكشف عن مؤتزرهم " . وعن عثمان أنه أتي بغلام قد سرق فقال : ( انضروا إلى مؤتزره فوجدوه لم ينبت الشعر فلم يقطعه ) وقد كان عمل عثمان هذا على مرأى ومسمع من الصحابة فلم ينكر عليه أحد .

    أما إذا لم تكن هنالك حاجة ، ولم يكن غير المحرم من غير أولي الإربة ، فإنه يباح له أن ينظر إلى وجه المرأة وكفيها ، ويحرم عليه أن ينظر إلى ما عداهما . فقد روت عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله r في ثياب رقاق ، فأعرض عنها وقال : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا ، وأشار إلى وجهه وكفيه " .

    وقد استثنى الله في القرآن الوجه والكفين من النهي عن إبداء ما هو محل زينة من أعضاء المرأة . قال تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قال ابن عباس : " الوجه والكفين " . فالنهي عن إبداء الزينة من قبل المرأة نهي عن إبداء العورة ، وكونه نهيأ عن إبدائها يدل بطريق الالتزام على النهي عن النظر إلى ما نهيت المرأة عن إبدائه . واستثناء ما ظهر منها مما نهيت عن إبدائه استثناء من تحريم النظر إليه ، وهو يعني جواز النظر إليه . فللرجل الأجنبي أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية ، وكفيها ، نظرة تمكنه من أن يعرفها بعينها ، ليشهد عليها إن لزمت الشهادة ، وليرجع إذا عاملها في بيع أو إجارة ، وليتأكد من هويتها إذا داينها أو وفاها ديناً أو اشتبه بها بامرأة أخرى أو غير ذلك . وكذلك للمرأة أن تنظر إلى ما ليس بعورة من الرجل . لما روي عن عائشة قالت : " كان رسول الله r يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد " ويوم فرغ النبي r من خطبة العيد " مضى إلى النساء فذكرهن ومعه بلال فأمرهن بالصدقة " فهذا صريح في إقرار الرسول النساء أن ينظرن إلى الرجال . وأما كون النظر إلى ما ليس بعورة فإن نظر عائشة إلى الأحباش وهم يلعبون يدل على أنها كانت تنظر منهم إلى جميع ما يبدو منهم ما عدا العورة ، فلم يتقيد النظر بل كان مطلقاً ، ولأن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله r : " إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة فإنه عورة " ومفهومه إباحة النظر إلى ما عداه ، والإباحة مطلقة تشمل الرجل والمرأة . أما ما روي عن أم سلمة أنها قالت : " كنت قاعدة عند النبي r أنا وحفصة فاستأذن ابن أم مكتوم ، فقال النبي r احتجبن منه فقلت يا رسول الله إنه ضرير لا يبصر قال : " أفعمياوان أنتما لا تبصرانه " فإن هذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره من رواية نبهان قال النسائي : لا نعلم رواة عن نبهان إلا الزهري ، وقال ابن عبد البر نبهان مجهول لا يعرف إلا رواية الزهري عنه هذا الحديث . ورواية المجهول حديثه ضعيف ولا يحتج به . وأما ما روي عن جرير بن عبد الله أنه قال : : سألت رسول الله r عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري " وما روي عن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله r : " لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليس لك الآخرة " فإنه في شأن نظر الرجل للمرأة وليس في شأن نظر المرأة للرجل .

    والمراد من الحديث الأول النظر إلى غير الوجه والكفين بدليل إباحة النظر إليهما ، ومن الحديث الثاني النهي عن التكرار الذي يسبب الشهوة وليس النهي عن مجرد النظر .

    وأما قوله تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } فإن المراد منه غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل ، وليس غض البصر مطلقاً ، بدليل أن الشارع قد بين أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضائهن وأسواقهن وأقدامهن ، الأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها . على أن غض البصر هو خفضه قال في القاموس : " غض طرفه غضاضاً بالكسر وغضاً وغضاضاً وغضاضة بفتحهن خفضه " .

    فيتبين من هذا جواز أن ينظر كل من الرجل والمرأة من الآخر ما ليس بعورة عن عدم قصد اللذة والاشتهاء . وعورة الرجل ما بين سرته وركبته وعورة المرأة جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها. فرقبتها عورة ، وشعرها - ولو شعرة واحدة - عورة ، وجانب رأسها من أية جهة كانت عورة ، فكل ما عدا وجهها وكفيها عورة يجب ستره ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } وما ظهر منها هو الوجه والكفان ، لأن هذين هما اللذان يظهران في العبادات وذلك في الحج والصلاة ، ولأنهما هما اللذان كانا يظهران عادة في عصر الرسول r أي عصر نزول الآية . والدليل كذلك على أن عورة المرأة هو جميع بدنها ما عدا وجهها كفيها قوله r " المرأة عورة " وقوله r " إذا عركت المرأة لم يجز لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه ، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى ونحوه " وقال r لأسماء بنت أبي بكر " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه " فهذه الأدلة صريحة بأن جميع بدن المرأة عورة وأنه يجب على المرأة أن تستر عورتها أي أن تستر جميع بدنها .

    أما بماذا تستره فإن الشرع لم يعين لباساً معيناً لستر العورة بل أطلق ذلك دون تعيين واكتفى بالقول : أن يظهر منها : ، أي عدم ظهور العورة ، : ولا يبدين " " لم يجز لها أن تظهر " " لم يصلح أن يرى منها " فأي لباس يستر جميع بدنها يعتبر ساتراً مهما كان شكله ، فالثوب الطويل ساتر ، والتنورة ساترة ، والجوارب ساترة ، فشكل اللباس لم يعينه الشارع ، ونوع اللباس لم يعينه الشارع ، فكل لباس يستر العورة أي لا تظهر منه العورة يعتبر ساتراً للعورة شرعاً ، بغش النظر عن شكله ونوعه وعدد قطعه .

    إلا أن الشارع اشترط في اللباس أن يستر البشرة ، فقد أوجب الستر بما يستر لون البشرة ، أي يستر الجلد ، وما هو عليه من لون من بياض أو حمرة أو سمرة أو سواد أو غير ذلك ، أي يجب أن يكون الساتر ساتراً للجلد ساتراً للونه على وجه لا يعلم بياضه من حمرته من سمرته ، فإن لم يكن كذلك فلا يعتبر ساتراً للعورة فإن كان الثوب خفيفاً يظهر لون الجلد من ورائه فيعلم بياضه من حمرته من سمرته فإنه لا يصلح أن يكون ساتراً للعورة وتعتبر العورة به ظاهرة غير مستورة ، لأن الستر لا يتم شرعاً إلا ستر الجلد بستر لونه . والدليل على أن الشارع أوجب ستر البشرة بستر الجلد بحيث لا يعلم لونه ما روته عائشة رضي الله عنها ، فقد روت أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله r في ثياب رقاق ، فأعرض عنها وقال : “ يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " ، فهو r اعتبر رقة الثوب غير ساتر للعورة واعتبرها كاشفة عورتها فأعرض عنها وأمرها بالستر أي بلبس ثوب يستر . والدليل على ذلك أيضاً ما جاء في حديث أسامة ، فإنه حين سأله عن القبطية وأجابه أسامة بأنه كساها لامرأته قال له الرسول " مرها أن تضع تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف حجم عظامها " فإنه القبطية ثياب رقيقة ، فلما علم الرسول عليه السلام أن أسامة كساها لامرأته أمره أن تلبس تحتها ثوباً حتى لا يبين جلدها من وراء القبطية فقال له " مرها أن تضع تحتها غلالة " ثم علل ذلك بقوله " فإني أخاف أن تصف حجم عظامها " يعني كما يصف الزجاج ما وراءه ، أي أخاف أن يبين منها لون جلدها أي أن تظهر منها بشرتها ، لأن قوله " تصف " بمعنى تحكي وتظهر من ورائها ما تحتها أي يبين ما خلفها كما يبين ما خلف الزجاج من الزجاج ، فقوله يصف من الوصف ، والوصف لا يكون إلا إظهاراً لما وراءه لا تشكيلاً لما وراءه فقال تصف ولم يقل تشكل ، أي أخاف أن تحكي ما وراءها من حجم العظام ، وهو لونها لا شكلها . فهذان الحديثان دليل واضح بأن الشارع اشترط فيما يستر العورة أن يكون ساتراً للجلد لا يصف ما وراءه ، فيجب على المرأة أن تجعل ما يستر العورة ثوباً غير رقيق أي لا يحكي ما وراءه ولا يصف ما تحته .

    هذا هو موضوع ستر العورة ، وهذا الموضوع لا يصح أن يخلط بلباس المرأة في الحياة العامة ، ولا بالتبرج ببعض الألبسة ، فإذا كان هناك لباس يستر العورة فإن ذلك لا يعني أنه يجوز للمرأة أن تلبسه وهي سائرة في الطريق العام ، لان للطريق العام لباساً معيناً عينه الشرع ، ولا يكفي فيه ما يستر العورة فالبنطال وإن كان ساتراً للعورة ولكنه لا يصح لبسه في الحياة العامة أي لا يصح أن يلبس في الطريق العام ، لأن للطريق العام لباساً معيناً أوجب الشارع لبسه ، فإذا خالفت أمر الشارع ولبست خلاف الثوب الذي عينه الشارع أثمت ، لأنها تركت واجباً من الواجبات ، ولذلك لا يصح أن يخلط موضوع ستر العورة بموضوع لبس المرأة في الحياة العامة . وكذلك لا يصح أن يخلط موضوع ستر العورة بموضوع التبرج ، فكون البنطال يستر العورة إذا لم يكن رقيقاً لا يعني أن تلبسه أمام الرجال الأجانب وهي تلبسه في حالة تبدي محاسنها وتظهر زينتها ، لأنها حينئذ وإن كانت ساترة للعورة ولكنها متبرجة ، والتبرج قد نهى الشارع عنه ، ولو كانت المرأة ساترة للعورة ، فلا يعني كونها ساترة للعورة أن يكون ما سترت به العورة لا يجعلها متبرجة . لذلك لا يصح أن يخلط موضوع ستر العورة بموضوع التبرج ، فكل منهما موضوع غير الآخر .

    وأما لباس المرأة في الحياة العامة أي لباسها في الطريق العام في الأسواق ، فإن الشارع أوجب على المرأة أن يكون لها ثوب تلبسه فوق ثيابها حين تخرج للأسواق أو تسير في الطريق العام ، فأوجب عليها أن تكون لها ملاءة أو ملحفة تلبسها فوق ثيابها وترخيها إلى أسفل حتى تغطي قدميها ، فإن لم يكن لها ثوب تستعير من جارتها أو صديقتها أو قريبتها ثوبها ، فإن لم تستطع الاستعارة أو لم يعرها أحد لا يصح أن تخرج من غير ثوب ، وإذا خرجت من غير ثوب تلبسه فوق ثيابها أثمت ، لأنها تركت فرضاً فرضه الله عليها . هذا من حيث اللباس الأسفل بالنسبة للنساء . أما من حيث اللباس الأعلى فلا بد أن يكون لها خمار ، أو ما يشبهه أو يقوم مقامه من لباس يغطي جميع الرأس ، وجميع الرقبة ، وفتحة الثوب على الصدر ، وأن يكون هذا معداً للخروج إلى الأسواق ، أو السير في الطريق العام ، أي لباس الحياة العامة من أعلى ، فإذا كان لها هذان اللباسان جاز لها أن تخرج من بيتها إلى الأسواق أو أن تسير في الطريق العام . أي إلى الحياة العامة ، فإن لم يكن لها هذان اللباسان لا يصح أن تخرج ولا بحال من الأحوال ، لأن الأمر بهذين اللباسين جاء عاماً فيبقى عاماً في جميع الحالات لأنه لم يرد له مخصص مطلقاً .

    أما الدليل على وجوب هذين اللباسين للحياة العامة فقوله تعالى في اللباس من أعلى { وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } وقوله تعالى في اللباس الأسفل { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } وما روي عن أم عطية أنها قالت : " أمرنا رسول الله r أن نخرجهن في القطر والأضحى ، العواتق والحيض وذوات الخدور ، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين . قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال " لتلبسها أختها من جلبابها " فهذه الأدلة صريحة في الدلالة على لباس المرأة في الحياة العامة . فالله تعالى قد وصف في هاتين الآيتين هذا اللباس الذي أوجب على المرأة أن تلبسه في الحياة العامة وصفاً دقيقاً كاملاً شاملاً ، فقال بالنسبة للباس النساء من أعلى { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } أي ليلوين أغطية رؤوسهن على أعناقهن وصدورهن ، ليخفين ما يظهر من طوق القميص وطوق الثوب من العنق والصدر . وقال بالنسبة للباس النساء من الأسفل { يدنين عليهن من جلابيبهن } أي يرخين عليهن أثوابهن التي يلبسنها فوق الثياب للخروج ، من ملاءة وملحفة يرخينها إلى اسفل ، وقال في الكيفية العامة التي يكون عليها هذا اللباس { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } أي لا يظهرن مما هو محل الزينة من أعضائهن كالأذنين والذراعين والساقين وغير ذلك إلا ما كان يظهر في الحياة العامة عند نزول هذه الآية أي في عصر الرسول ، وهو الوجه والكفان . وبهذا الوصف الدقيق يتضح بأجلى بيان ما هو لباس المرأة في الحياة العامة وما يجب أن يكون عليه ، وجاء حديث أم عطية فبين بصراحة وجوب أن يكون لها ثوب تلبسه فوق ثيابها حين الخروج ، حيث قالت للرسول عليه الصلاة والسلام " إحدانا لا يكون لها جلباب " فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام " لتلبسها أختها من جلبابها " أي حين قالت للرسول : إذا كان ليس لها ثوب تلبسه فوق ثيابها التي تلبس فوق ثيابها لتخرج فيها ، فإنه عليه السلام أمر أن تعيرها أختها من ثيابها التي تلبس فوق الثياب ، ومعناه أنه إذا لم تعرها فإنه لا يصح لها أن تخرج ، وهذا قرينة على أن الأمر في هذا الحديث للوجوب ، أي يجب أن تلبس المرأة جلباباً فوق ثيابها إذا أرادت الخروج ، وإن لم تلبس ذلك لا تخرج .

    ويشترط في الجلباب أن يكون مرخياً إلى أسفل حتى يغطي القدمين ، لأن الله يقول في الآية { يدنين عليهم من جلابيبهن} أي يرخين عليهن جلابيبهن لأن " من " هنا ليست للتبعيض بل للبيان ، أي يرخين الملاءة والملحفة إلى أسفل ، ولأنه روي عن ابن عمر أنه قال : قال رسول الله r " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، فقالت أم سلمة : فكيف يصنع النساء بذيولهن قال : يرخين شبراً ، قالت إذن ينكشف أقدامهن ، قال يرخين ذراعاً لا يزدن " فهذا صريح بأن الثوب الذي تلبسه فوق الثياب - أي الملاءة أو الملحفة - أن يرخى إلى أسفل حتى يستر القدمين ، فإن كانت القدمان مستورتين بجوارب أو حذاءن فإن ذلك لا يغني عن إرخائه إلى أسفل بشكل يدل على وجود الإرخاء ، ولا ضرورة لأن يغطي القدمين فهما مستورتان ، ولكن لا بد أن يكون هناك إرخاء أي يكون الجلباب نازلاً إلى أسفل بشكل ظاهر يعرف منه أن ثوب الحياة العامة التي يجب أن تلبسه المرأة في الحياة العامة ، ويظهر فيه الإرخاء أي يتحقق فيه قوله تعالى { يدنين} أي يرخين .

    ومن هذا يتبين أنه يجب أن يكون للمرأة ثوب واسع تلبسه فوق ثيابها لتخرج فيه ، فإن لم يكن لها ثوب وأرادت أن تخرج فعلى أختها ، أي أية مسلمة كانت أن تعيرها من ثيابها التي تلبس فوق الثياب ، فإن لم تجد من يعيرها فلا تخرج حتى تجد ثوباً تلبسه فوق ثيابها ، فإن خرجت في ثيابها دون أن تلبس ثوباً واسعاً مرخياً إلى أسفل ثوبها فإنها تأثم ولو كانت ساترة جميع العورة ، لأن الثوب الواسع المرخي إلى أسفل حتى القدمين فرض ، فتكون قد خالفت الفرض ، فتأثم عند الله وتعاقب من قبل الدولة عقوبة التعزير .

    بقيت مسألتان من مسائل نظر المرأة للرجل والرجل للمرأة إحداهما مسألة وجود الرجال الأجانب في البيوت بإذن أهلها ، ونظرهم إلى النساء في ثياب التبذل ، وإبصارهم من أعضاء المرأة ما يزيد على الوجه والكفين . والثانية مسألة وجود النسا غير المسلمات وحتى بعض المسلمات في شوارع المدن وطرقاتها ، وهن يبدين من أعضائهن أكثر من الوجه والكفين . وهاتان المسألتان واقعتان ، وواقع بلاؤهما على جميع المسلمين ، فلا بد من بيان حكم الله فيهما .

    أما المسألة الأولى فهي أن هناك أخوة أو أقارب يسكنون مع بعضهم في منزل واحد ، وتظهر نساء كل منهم للآخرين في ثياب التبذل ، فيبدو شعرها ، ورقبتها ، وذراعاها ، وساقاها ، وما شاكل ذلك مما تظهره ثياب البذلة . فينظر إليها أخوة زوجها أو أقاربه غير المحارم كما ينظر إليها أخوها وأبوها وغيرهما من المحارم ، مع أن أخا زوجها أجنبي عنها كأي أجنبي . وكذلك قد يزور الأقارب بعضهم ، كأولاد العم وأولاد الخال ومن شاكلهم من الأرحام غير المحرم ، أو من غير الأرحام ، فيسلمون على النساء ، ويجلسون معهن ، وهن في ثياب البذلة ويبدو منهن أكثر من الوجه والكفين ، من شعر ، ورقبة ، وذراع ، وساق ، وغير ذلك . فيعاملون معاملة المحارم . وهذه المسألة شائعة وقد بلي بها أكثر المسلمين ولا سيما في المدن ، فيظن الكثيرون أن ذلك مباح . والحكم في ذلك أن الله تعالى حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة ، ثم استثنى اللذة للأزواج ، ثم استثنى الزينة أي النظر لاثني عشر شخصاً يدخل معهم من هو مثلهم كالأعمام والأخوال ، ثم استثنى من المرأة الوجه والكفين لجميع الرجال ، فاللذة أي النظر بشهوة حرام مطلقاً إلا على الزوج ، والنظر للوجه والكفين بوصه مجرد نظر مباح مطلقاً ، والنظر لما يزيد عن الوجه والكفين حرام مطلقاً إلا على المحارم الذين ذكرهم الله ومن هو مثلهم .

    هذا هو حكم الشرع في الحياة العامة كما جاءت به النصوص . أما الحياة الخاصة فقد أباح الشارع للمرأة أن تبدي فيها ما يزيد عن الوجه والكفين مما يظهر عند المهنة ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء } فالله تعالى أمر الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم والعبيد بعدم الدخول على المرأة في هذه المرات الثلاث ، ثم أباح لهم أن يدخلوا في غير هذه المرات الثلاث ، إذ عقب على ذلك بقوله : { ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم } وهذا صريح بأنه في غير هذه الحالات الثلاث يدخل الصبيان وعبيد النساء على النساء بغير استئذان أي وهن متبذلات في ثياب المهنة ، فيفهم منه أن للمرأة في بيتها أن تعيش في ثياب المهنة ، وأن تظهر في هذه الثياب على الصبيان وعلى عبيدها . وعلى ذلك يجوز للمرأة أن تعيش في بيتها في ثياب المهنة ما في ذلك شك . ولا تكون آثمة في ذلك في ذلك مطلقاً ، ويجوز أن يراها على هذه الحال الصبيان وعبيدها ولا شيء عليها في ذلك ، ولا تتستر منهم ولا يحتاجون إلى إذن بالدخول ، ومثل العبيد الخدم الذين يخدمون في البيت ولو كانوا رجالاً أجانب ، لأن الآية عللت دخول العبد بغير استئذان لأنهم طوافون عليهم فقال : { طوافون عليكم بعضكم على بعض } أي لأنهم طوافون عليكم ، أي يطوفون عليهم وهذه العلة الموجودة في العبد موجودة في الخادم ، وكل من هو مثلهم ، وعلى هذا فإن المرأة في الحياة الخاصة لا يجب عليها ستر ما يزيد عن الوجه والكفين مما يظهر عادة عند المهنة إلا إذا كانت عريانة أو شبه عارية أي إلا في الحالات الثلاث أو الساعات الثلاث .

    أم غير من استثناهم الله في ذلك أي غير الصبيان والعبيد والخدم فإن الله قد بين حكمهم في الحياة الخاصة ، إذ طلب منهم الاستئذان قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } فطلب من المسلم الاستئذان وأطلق عليه كلمة استئناس إذا أراد الدخول إلى غير بيته ومفهومه أنه إذا أراد الدخول إلى بيته فلا يستأذن . وسبب نزول هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل علي . وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا علي تلك الحال فكيف أصنع ، فنزلت آية الاستئذان . فإذا قرن سبب النزول هذا بمنطوق الآية ومفهومها فإنه يدل على أن المسألة في الحياة الخاصة ليست مسألة ستر عورة وعدم ستر عورة . وإنما هي مسألة حالة التبذل التي عليها المرأة . في هذه الحالة ، حالة التبذل لم يأمر المرأة بعدم التبذل ولم يأمرها بالستر ، وإنما أمر الرجال بالاستئذان ، في هذه الحالة الخاصة لا فرق بين أن يكون من المحارم أو من غير المحارم ، ولا فرق بين النساء والرجال ، فالأب والأجنبي سواء ، والرجل والمرأة سواء ، ولم يستثن من ذلك إلا الصبيان والعبيد والخدم ، وعليه فإن عيش الرجل وامرأته في بيت فيه رجل آخر ، أو نساء ، حكمه واحد مع الأخ والأب ، مع الأجنبي والمحرم سواء ، فالمرأة لا شيء عليها في أن تظهر في الحياة الخاصة ، والرجل عليه الاستئذان إن أراد الدخول لغير بيته .

    أما نظر الرجل إلى المرأة في هذه الحالة فهو شيء آخر يتعلق بالنظر سواء أكان في الحياة الخاصة أم في غيرها والله تعالى حرم على غير المحارم النظر إلى غير الوجه والكفين وأجاز ذلك للمحارم وأمر بغض البصر عما يزيد عن الوجه والكفين وعفا عن النظر الذي لا يملأ العين ، أما تحريم النظر بما يزيد عن الوجه والكفين فظاهر ، وأما غض البصر عما يزيد فواضح في قوله تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } . والمراد هنا الغض عما يزيد عن الوجه والكفين بدليل إباحة النظر إليهما . وفي البخاري " قال سعيد ابن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن قال : ( اصرف بصرك ) وفي حديث النهي عن الجلوس في الطرقات قال : " غض البصر " أي أن النساء في الطريق قد يكن كاشفات لما يزيد عن الوجه والكفين فعليكم غض البصر وليس عدم النظر ، فالله تعالى حين حرم النظر إنما حرمه لما يزيد عن الوجه والكفين ، وعينه بأنه النظر المقصود ، وأما النظر غير المقصود فلم يحرمه ، ولم يأمر بتركه وإنما أمر بغض البصر فقال : { يغضوا من أبصارهم } وكلمة ( من ) للتبعيض ، أي يغضوا بعض أبصارهم أي بعض النظر ، ومفهومه جواز النظر المغضوض وهو النظرة العادية غير المقصودة .

    وعلى هذا فإنه يجوز أن يسكن الرجل مع أقاربه ، ويستوي في ذلك المحارم وغير المحارم أي الأب والأخ وابن العم ، وليس على المرأة بأس في أن تظهر في ثياب المهنة على من يعيش في دار واحدة مع زوجها أو أخيها ، وعلى الرجل الذي يعيش في الدار أن يغض بصره ، أي لاشيء عليه من النظر العادي إلى المرأة وهي في ثياب المهنة إلا الحالات الثلاث ، أي إلا الوضع الذي تكون عليه في الحالات الثلاث .

    هذا بالنسبة لمن يعيشون في بيت واحد ، وأما من يدخلون البيت من الخارج سواء أكانوا أقارب أم غير أقارب وسواء أكانوا محارم أم غير محارم فإنه عليه جميعاً الاستئذان من غير استثناء . أما المحارم فلا تستتر المرأة منهم لأنه يجوز لهم أن ينظروا إلى الزينة. وأما غير المحارم فإن على المرأة أن تستر عنهم الزينة أي أن لا يظهر منها أمامهم إلا الوجه والكفان . فإن لم تفعل ذلك وظلت في ثياب المهنة أثمت هي ، أما الرجل فليس عليه إلا غض البصر ليس غير . والفرق بين الزائر من خارج البيت والساكن فيه أن الساكن في البيت ليس عليه استئذان لأنه بيته ، وليس عليها ستر لأنها في حياتها الخاصة . وأما الزائر فإن طلب الله منه الاستئذان يشعر بأن لا تكون في ثياب المهنة إلا أن يكون محرماً لها ، أي يشعر بطلب الستر بدليل سبب نزول الآية ، فإن دخل عليها أحد لا بد من أن يستأذن سواء أكان محرماً أم غير محرم ، وطلب الاستئذان يشعر بأن تتستر من غير المحارم .

    وأما المسألة الثانية فهي أنه منذ غزتنا الحضارة الغربية ، وحكمت بلاد المسلمين بأنظمة الكفر صارت غير المسلمات يخرجن شبه عاريات : مكشوفات الصدور والظهور ، والشعر ، والأذرع والسيقان . وصارت بعض نساء المسلمين يقلدنهن فيخرجن إلى السوق على هذا الوجه ، حتى صار المرء لا يستطيع أن يميز المرأة المسلمة من غير المسلمة وهي ماشية في السوق ، أو سواقة في حانوت تساوم على الشراء . والرجال المسلمون الذين يعيشون في هذه المدن لا يملكون بمفردهم الآن أن يزيلوا هذا المنكر ، ولا يستطيعون العيش في هذه المدن دون أن يروا هذه العورات . لأن طبيعة الحياة التي يعيشونها ، وشكل الأبنية التي يسكنونها ، تحتم وجود الرؤية من قبل الرجل لعورة المرأة ، ولا يمكن أن يحتزر أي رجل من رؤية عورات النساء ، من أذرعهن ، وصدورهن وظهورهن ، وسيقانهن ، وشعرهن ، مهما حاول عدم النظر ، إلا في حال جلوسه في بيته وعدم خروجه منه . وهذا لا يتأتى له مطلقاً . إذ هو في حاجة لإقامة علاقات مع الناس في البيع والشراء ، والإجارة والعمل ، وغير ذلك مما هو ضروري لحياته . ولا يستطيع أن يقوم بذلك في حرز عن النظر إلى هذه العورات . وتحريم النظر إليها صريح في الكتاب والسنة فماذا يفعل ؟ والخروج من هذه المشكلة إنما يكون في وضعين :

    أحدهما نظر الفجاءة وهو ما يشاهده في الطريق وهذا يعفى فيه عن النظرة الأولى وعليه أن لا يكرر النظرة الثانية ، لما روي عن جرير بن عبد الله قال : " سألت رسول الله r عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري " . وعن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله r : لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة " .

    وأما الوضع الثاني وهو التحدث إلى هذه المرأة الكاشفة لرأسها وذراعيها وما جرت عادتها من كشفه ، فهذه يجب تحويل البصر عنها ، وغضه عن النظر إليها ، لما رواه أبو داود : " كان الفضل بن العباس رديف النبي r فجاءته الخثعمية تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فصرف رسول الله r وجهه عنها " . وقال الله تعالى : {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} والمراد بغض البصر خفضه . فعلاج هذه المشكلة هو غض البصر من قبل الرجل ، مع مداومته لعمله الذي يقوم به من حديث ضروري معها ، أو ركب في سيارة ، أو جلوس على شرفة لشدة الحر ، أو ما شاكل ذلك . فإن هذه الحاجات من ضرورات الحياة العامة للرجل ، ولا يستغني عنها ولا يملك دفع هذه البلاء من كشف العورات ، فعليه غض البصر عملاً بنص الآية ، ولا يحل له غير ذلك مطلقاً .

    ولا يقال هنا : إن هذا مما عمت به البلوى ، ويصعب الاحتراز عنه . فإن هذه القاعدة مناقضة للشرع ، فالحرام لا يصبح حلالاً إذا عمت به البلوى ، والحلال لا يصبح حراماً إذا عمت به البلوى . ولا يقال هؤلاء نساء كافرات فيعاملن معاملة الإماء ، فعورتهن عورة الأمة ، لا يقال ذلك لأن الأحاديث عام بالمرأة ، ولم يقل المرأة المسلمة ، قال عليه الصلاة والسلام : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه " وهو صحيح في حرمة النظر إلى المرأة ، مسلمة كانت أو غير مسلمة ، وهو عام في جميع الحالات ، ومنها هذه الحالة . ولا تقاس المرأة الكافرة على الأمة لأنه لا وجه للقياس .

    وعليه يجب على من يزورون بيوتاً غير بيوتهم وفيها نساء غير محارم ، عليهم أن يغضوا أبصارهم عن النظر إلى ما يزيد عن الوجه والكفين ، ويجب على من يعيشون في المدن ، ويضطرون إلى خوض المجتمع أو معاملة النساء الكافرات الكاشفات لعوراتهن ، بالشراء منهن ، أو الحديث معهن ، أو الاستئجار منهن ، أو تأجيرهن ، أو بيعهن ، أو غير ذلك ، أن يغضوا أبصارهم أثناء ذلك ، وأن يقتصروا على القدر الذي يحتاجونه مما يضطرون إليه .

    هذا بالنسبة للنظر أما بالنسبة للمصافحة فإنه يجوز للرجل أن يصافح المرأة وللمرأة أن تصافح الرجل دون حائل بينهما لما ثبت في صحيح البخاري عن أم عطية قال : " بايعنا النبي r فقرأ علينا ألا يشركن بالله شيئاً ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها " وكانت المبايعة بالمصافحة ، ومعنى قبضت يدها ردت يدها بعد أن كانت مدتها للمبايعة . فكونها قبضت يدها يعني أنها كانت ستبايع بالمصافحة ، ومفهوم " فقبضت امرأة منا يدها " أن غيرها لم تقبض يدها وهذا يعني أن غيرها بايع بالمصافحة . وأيضاً فإن مفهوم قوله تعالى : { أو لامستم النساء } بلفظه العام لجميع النساء من حيث أن الملامسة تنقض الوضوء يدل اقتصار الحكم على نقض الوضوء من لمس النساء على أن لمسهن بغير شهوة ليس حراماً فمصافحتهن كذلك ليست حراماً . علاوة على أن يد المرأة ليست بعورة ولا يحرم النظر إليها بغير شهوة فلا تحرم مصافحتها .

    وهذا بخلاف القبلة ، فقبلة الرجل لامرأة أجنبية يريدها ، وقبلة المرأة لرجل أجنبي تريده هي قبلة محرمة ، لأنها من مقدمات الزنا ، ومن شأن مثل هذه القبلة أن تكون من مقدمات الزنا عادة ، ولو كانت من غير شهوة ، ولو لم توصل إلى الزنا ، ولو لم يحصل الزنا ، لأن قول الرسول r لماعز لما جاءه طالباً منه أن يطهره لأنه زنى " لعلك قبلت ... " يدل على أن مثل هذه القبلة هي من مقدمات الزنا ، ولأن الآيات والأحاديث التي تحرم الزنا تشمل تحريم جميع مقدماته ولو كانت لمساً ، إن كان من شأنه أنه من مقدمات الزنا ، مثل أن يريد المرأة ، أو أن يراودها عن نفسها ، أو أن يقبلها بشغف أو بشهوة ، أو أن يشدها إليه ، أو أن يعانقها ، أو ما شاكل ذلك ، كما يحصل بين بعض من لا خلاق لهم ، من الشباب والشابات ، فهذه القبلة تكون محرمة ، حتى ولو كانت للسلام على قادم من سفر لأن من شأن مثل هذه القبلة بين الشباب والشابات أن تكون من مقدمات الزنا .




    لا يجب على المرأة أن تغطي وجهها

    القول بأن الحجاب مفروض على النساء في الإسلام يسترن به وجوههن ما عدا عيونهن هو رأي إسلامي ، قاله بعض الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب . والقول بأن الحجاب غير مفروض على النساء في الإسلام ، فلا يجب على المرأة المسلمة أن تستر وجهها مطلقاً لأنه ليس بعورة ، هو أيضاً رأي إسلامي ، قاله بعض الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب . وبما أن هذه المشكلة هي من المشاكل الاجتماعية الهامة ، وتبني أي رأي من هذين الرأيين يؤثر على طراز الحياة الإسلامية ، لذلك كان لا بد من عرض شامل للأدلة الشرعية في هذه المشكلة ، بدراستها ، وتتبعها ، وتطبيقها على المشكلة . حتى يتبنى المسلمون الرأي الأقوى دليلاً ، وحتى تتبنى الدولة الإسلامية الرأي الأرجح برجحان الدليل .

    نعم قامت منذ ما يقرب من أكثر من نصف قرن مناقشات حول المرأة ، أثارها الكفار المستعمرون في نفوس المفتونين بالغرب ، المضبوعين بثقافته ، ووجهة نظره في الحياة . فحاولوا أن يدسوا على الإسلام آراء غير إسلامية ، وحاولوا أن يفسدوا وجهة نظر المسلمين ، وابتدعوا فكرة الحجاب والسفور ، ولم يتصد لهم العلماء المفكرون ، بل تصدى لهم كتاب ، وأدباء ، ومتعلمون جامدون ، مما مكن لآراء هؤلاء المضبوعين ، وجعل أفكارهم محل بحث ومناقشة ، مع أنها أفكار غربية ، جاءت لغزو الإسلام وإفساد المسلمين ، وتشكيكهم في دينهم . نعم قامت هذه المناقشات ولا تزال بقياها وآثارها ماثلة ، ولكنها لا تستأهل البحث ، ولا ترقى إلى درجة الأبحاث التشريعية والاجتماعية . لأن البحث إنما هو في أحكام شرعية استنبطها مجتهدون واستندوا فيها إلى دليل ، أو إلى شبهة دليل ، وليس البحث في آراء كتاب ، أو تسميات مأجورين ، أو سفسطات مخدوعين ، أو ترهات مضبوعين . فما يقوله المجتهدون مستنبطين إياه من الأدلة الشرعية هو الذي يوضع موضع بحث ، ويناقش مناقشة تشريعية . وكذلك يلتحق بأقوال المجتهدين مما يوضع موضع البحث أقوال بعض الفقهاء والمشايخ والمتعصبين للحجاب فتبحث لإزالة الشبهة من نفوسهم . ولهذا سنعرض لأقوال المجتهدين ولأدلتهم ، حتى يتبين القول الراجح ، فيلزم كل من يراه راجحاً بالعمل به ، والعمل لتطبيقه .

    لقد ذهب الذين قالوا بالحجاب إلى أن عورة المرأة جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها ، إنما هو في الصلاة فحسب ، أما في خارج الصلاة فقالوا إن جميع بدنها عورة ، بما في ذلك وجهها وكفاها . واستندوا في قولهم هذا إلى الكتاب والسنة .

    أما الكتاب فلأن الله تعالى يقول : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } وهو صريح في ضر الحجاب عليهن ، ويقول الله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } وقالوا إن معنى يدنين عليهن من جلابيبهن يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن . ويرون أن النساء كن في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار ، لا فرق بين الحرة والأمة ، وكان الفتيان من أهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان ، وريما تعرضوا للحرة بعلة الأمة ، يقولون حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف ، وستر الرؤوس والوجوه ، ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن طامع . وهذا أجدر وأولى أن يعرفن فلا يتعرض لهن . ولا يلقين ما يكرهن . ومنهم من يقول ذلك أدنى أن يعرف هنالك " لا " محذوفة أي ذلك أجدر أن لا يعرفن جميلات أو غير جميلات فلا يؤذين . ويقول الله تعالى : { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } وقالوا إن أمر الله للنساء أن يقرن في بيوتهن دليل على الحجاب .

    وأما السنة فلما روي عن النبي r : " إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي لتحتجب منه " ولما روي عن أم سلمة قالت : " كنت قاعدة عند النبي r أنا وحفصة فاستأذن ابن أم مكتوم فقال النبي r : " احتجبن منه . فقلت يا رسول الله إنه ضرير لا يبصر ، قال : أفعمياوان أنتما لا تبصرانه " ولما رواه أبو داود " كان الفضل بن عباس رديف رسو الله r فجاءته الخثعمية تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فصرف رسول الله r وجهه عنها " . وعن جرير بن عبد الله قال : " سألت رسول الله r عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري " . وعن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله r : لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة " .

    هذه هي أدلة القائلين بالحجاب ، والقائلين إن جميع بدن المرأة عورة . وهي أدلة لا تنطبق على المشكلة المستدل عليها بها ، لأنها جميعها ليست في هذا الموضوع . أما آية الحجاب وآية { وقرن في بيوتكن } فلا علاقة لنساء المسلمين بها مطلقاً . وهما خاصتان بنساء الرسول r بصريح الآية إذا تليت جميعها ، وهي آية واحدة مرتبطة ببعضها لفظاً ومعنى . فإن نص الآية هو { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ، ولكن إذا دعيتم فادخلوا ، فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث ، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم ، والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أنت تنكحوا أزواجه من بعده أبداً . إن ذلكم كان عند الله عظيما } فالآية نص في نساء النبي ، وخاصة بهن ، ولا عالقة لها بنساء المسلمين ، ولا علاقة لآية نساء غير نساء رسول الله بهذه الآية . ويؤيد كون هذه الآية خاصة بنساء الرسول عليه السلام ما روي عن عائشة قالت : " كنت آكل مع النبي r حيساً في قصعة ، فمر عمر فدعاه فأكل ، فأصابت إصبعه اصبعي ، فقال عمر : أواه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين ، فنزل الحجاب " . وما روي عن عمر رضي الله عنه قال : " قلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين ، فأنزل الله آية الحجاب " وما روي أن عمر مر على نساء النبي r وهن مع النساء في المسجد فقال : " إن احتجبتن فإن لكن على النساء فضلاً ، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل ، فقالت زينب رضي الله عنها يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فلم يلبثوا يسيراً حتى نزلت " . فنص الآية وهذه الأحاديث قطعية الدلالة بأنها نزلت في حق نساء النبي عليه السلام ولم تنزل في غيرهن .

    وأما الآية { وقرن في بيوتكن } فهي أيضاً خاصة بنساء الرسول r ونص الآية كاملاً هو { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول ، فيطمع الذي في قلبه مرض ، وقلن قولاً معروفاً . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ، ويطهركم تطهيراً } فصدر الآية صريح بأنها نزلت في نساء النبي خاصة بهن ، لأن الخطاب لنساء النبي ، ولأنه تخصيص بهن { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } ولا يوجد أبلغ ولا أدل من هذا النص على أن هذه الآية نزلت بنساء الرسول وأنها خاصة بهن . وقد أكد هذا المعنى بآخرها في قوله تعالى في ختام الآية نفسها {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} عقب ذلك فقال { واذكرنا ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ، إن الله كان لطيفاً خبيراً } فذكرهن بأن بيوتهن مهابط الوحي ، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من القرآن .

    فهاتان الآيتان صريحتان بأنهما لنساء الرسول r ، وأنهما خاصتان بنساء الرسول ، فلا دلالة في أي منهما على حكم للنساء المسلمات غير نساء الرسول عليه السلام . على أن هنالك آيات أخرى خاصة بنساء الرسول مثل قوله تعالى : { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } فلا يجوز لنساء الرسول أن يتزوجن بعده ، بخلاف النساء المسلمات فإنهن يتزوجن بعد أزواجهن ، وآيتا الحجاب هاتان خاصتان بنساء النبي عليه السلام كآية تحريم زواجهن بعده .

    ولا يقال هنا إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإن سبب نزول الآيات هو نساء الرسول وهي عامة فيهن وفي غيرهن ، لا يقال ذلك لأن سبب النزول هو حادثة وقعت ، فكانت سبب النزول . أما هنا فليست نساء الرسول حادثة وقعت ، وإنما هو نص معين جاء بحق أشخاص معينين ، فقد نص على شخصهن ، فقال : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } وقال : { وإذا سألتموهن } والضمير لنساء الرسول ، ومعين بهن ليس غير ، وعقب ذلك بقوله : {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} مما يشعر علة حجابهن ، وكل ذلك يعين أن الآيتين نص جاء بحق نساء الرسول ، لا تنطبق عليهما قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

    وكذلك لا يقال إن خطاب نساء الرسول خطاب للنساء المسلمات ،لأن كون الخطاب المعين لشخص معين خطاباً للمؤمنين إنما هو خاص بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام ، ولا يشمل خطاب نسائه ، فخطاب الرسول خطاب للمؤمنين ، أما خطاب نسائه فهو خاص بهن ، لأن الرسول هو محل القدوة في كل خطاب أو فعل أو سكوت ، ما لم يكن من خصوصياته عليه السلام . أما نساء الرسول فلسن محل القدوة ، لأن الله يقول { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ولا يصح أن تكون نساء الرسول قدوة ، بمعنى أن يفعل الفعل لأنهن يفعلنه أو يتصف بالصفة لأنهن يتصفن بها ، بل هو خاص بالرسول لأنه لا يتبع إلا الوحي .

    وكذلك لا يقال إنه إذا كانت نساء الرسول وهن الطاهرات اللواتي يتلى الوحي في بيوتهن يطلب منهن الحجاب ، فإن غيرهن من النساء المسلمات أولى أن يطلب منهن ، لا يقال ذلك لسببين :

    أحدهما أن هذا ليس من قبيل الأولى ، لأن الأولى هو أن ينهى الله عن الصغير ، فيكون نهياً عن الكبير من باب أولى ، كقوله تعالى : { ولا تقل لهما أف } فمن باب أولى أن لا يضربهما . والأولى يفهم من سياق الكلام كقوله تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } فأداء ما دون القنطار من باب أولى ، وعدم أداء ما فوق الدينار من باب أولى . وآية الحجاب ليست من هذا القبيل ، لأن سياق الآية لا يدل إلا على نساء النبي ، ولا يدل على مفهوم آخر . ولفظ نساء النبي ليس وصفاً مفهماً حتى يقال غير نساء النبي من باب أولى . بل هو اسم جامد فلا يتأتى أن يكون له مفهوم ، فيكون الكلام خاصاً بالشيء الذي جاء النص عليه ، ولا يتعداه إلى غيره ولا مفهوم له . ولا يتأتى في الآية موضوع من باب أولى مطلقاً ، لا من ألفاظ الآية ، ولا من سياقها .

    والثاني أن هاتين الآيتين أمر لأشخاص مخصوصين قد نص عليهم بعينهم للاتصاف بصفات معينة ، فلا يكون أمراً لغيرهم مطلقا ، لا لمن هو أعلى منهن ، ولا لمن هو أدنى منهن ، لأنه وصف معين ، وهو مختص بأشخاص معينين . فهو أمر لنساء الرسول بوصفهن نساء الرسول لأنهن لسن كأحد من النساء ولأن هذا العمل يؤذي الرسول . وإذا انتفى انطباق قاعدة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " وانتفى الإقتداء بنساء الرسول ، وانتفى كون غيرهن من باب أولى ، وثبت أن النص قطعي في كونه لنساء الرسول ، فقد ثبت أن هاتين الآيتين خاصتان بنساء الرسول عليه السلام ، ولا تشمل النساء المسلمات مطلقاً ، ولا بوجه من الوجوه . فيثبت بذلك أن الحجاب خاص بنساء الرسول ، والمكث بالبيوت خاص بنساء الرسول . وانتفى الاستدلال بهما على كون الحجاب قد شرع للنساء المسلمات .

    وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى : { يدنين عليهن من جلابيبهن } فإنها لا تدل على تغطية الوجه بحال من الأحوال ، لا منطوقاً ولا مفهوماً ، ولا يوجد فيها أي لفظ يدل على ذلك ، لا مفرداً ، ولا من وجوده في الجملة ، على فرض صحة سبب النزول . فالآية تقول { يدنين عليهن من جلابيبهن } ومعناها يرخين عليهن من جلابيبهن ، و " من" هنا ليست للتبعيض وإنما هي للبيان أي يرخين عليهن جلابيبهن . ومعنى أدنى الستر : أرخاه ، وأدنى الثوب أرخاه ، ومعنى يدنين يرخين . والجلباب هو الملحقة ، وكل ما يستر به من كساء وغيره . أو هو الثوب الذي يغطي جميع الجسم . قال في القاموس المحيط " والجلباب كسر دأب وكسنمار : القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة أو ما تغطي به ثيابها كالملحفة " وقال الجوهري في الصحاح " الجلباب والملحفة وقيل الملاءة " ، وقد ورد في الحديث الجلباب بمعنى الملاءة التي تلتحف بها المرأة فوق ثيابها . فعن أم عطية رضي الله عنها قالت : " أمرنا رسول الله r أن نخرجهن في الفطر والأضحى ، العواتق والحيض وذوات الخدور . فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ، ودعوة المسلمين . قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ، قال : " لتلبسها أختها من جلبابها " ومعناه ليس لها ثوب تلبسه فوق ثيابها لتخرج فيها ، فأمر بأن تعيرها أختها من ثيابها التي تلبس فوق الثياب ، فيكون معنى الآية هو : إن الله طلب من الرسول أن يقول لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين يرخين عليهن ثيابهن التي تلبس فوق الثياب إلى أسفل ، بدليل ما روي عن ابن عباس أنه قال : الجلباب الرداء يستر من فوق إلى أسفل ، ولا تدل على إرخاء الجلباب - وهو الثوب الواسع - إلى أسفل ، ولا تدل على غير ذلك . فمن أين يمكن أن يفهم أن معنى يدنين عليهن من جلابيبهن أن يجعلن ثوبهن على وجههن ؟ مهما فسرت كلمة يدنين ومهما فسرت كلمة جلباب ، في حدود المعنى اللغوي والمعنى الشرعي ؟ بل الآية نص في إرخاء الثياب ، وإرخاؤها إنما هو إلى أسفل ، وليس رفعها إلى أعلى . وعلى ذلك فليس في هذه الآية أي دليل على حجاب ، بل ولا شبهة الدليل لا من قريب ولا من بعيد . والقرآن تفسر ألفاظه وجمله بمعناها اللغوي والشرعي ، ولا يجوز أن تفسر في غيرهما ، والمعنى اللغوي واضح بأنه أمر للنساء بأن يرخين عليهن جلابيبهن ، أي ينزلن ويسدلن ثيابهن التي يلبسنها فوق الثياب إلى أسفل حتى تغطي القدمين . وقد ورد هذا المعنى في إرخاء الثوب إلى أسفل في الحديث الشريف ، فعن ابن عمر قال : قال رسول الله r : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، فقالت أم سلمة : فكيف يصنع النساء بذيولهن ، قال : يرخين شبراً قالت : إذن ينكشف أقدامهن ، قال : فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه " .

    هذا بالنسبة للآيات التي يستدل بها من يدعون أن الحجاب للنساء المسلمات قد شرعه الله ، أما بالنسبة للأحاديث التي استدل بها على الحجاب فلا تدل عليه ، فإن حديث المكاتب إذا ملك ما يؤدي إلى عتقه يحتجب عنه خاص بنساء الرسول ، ويؤيد ذلك حديث آخر ، فعن أبي قلابة قال : " كان أزواج النبي r لا يحتجبن من مكاتب ما بقي عليه دينار" فلا دلالة في الحديث على أن المرأة المسلمة تحتجب . وأما حديث أم سلمة وطلب الرسول منها ومن حفصة أن تحتجب فإن الحديث ضعيف لا يحتج به ، وفوق ذلك فإنه خاص بنساء الرسول ، والحديث نص في أم سلمة وحفصة . وأما ما روي عن عائشة قالت : " كان الركبان بمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات فإذا حاذي بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه " فإنه يتناقض مع ما رواه البخاري عن ابن عمر أن النبي r قال : " لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين " قال في الفتح : والنقاب الخمار الذي يشد على الأنف أو تحت المحاجز . فحديث عائشة ينص على أن النساء المحرمات قد غطين وجوههن عندما كانت تمر بهن الركبان . وحديث بان عمر يدل على النهي عن لبس النقاب وهو لا يغطي إلا القسم الأسفل من الوجه فكيف يتفق ذلك مع ستر الوجه كله بالثوب بإسداله على الوجه . وبالرجوع للحديثين تبين أن حديث عائشة هذا قد أعل بأنه من رواية مجاهد عن عائشة . وقد ذكر يحيى بن سعيد القطان أنه لم يسمع منها . وأما حديث ابن عمر فهو حديث صحيح قد رواه البخاري ولذلك يرد حديث عائشة لضعفه ومعارضته للحديث الصحيح ولا يحتج له . وأما الحديث الذي فيه الفصل بن عباس فليس فيه دليل على الحجاب بل فيه دليل على عدم الحجاب لأن الخثعمية كانت تسأل الرسول وهي كاشفة الوجه بدليل نظر الفضل إليه وبدليل ما جاء في رواية أخرى لهذا الحديث " فأخذ رسول الله r الفضل فحول وجهه من الشق الآخر " وروى هذه القصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزاد " فقال له العباس . يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك ؟ قال : " رأيت شاباً وشابة فلم آمنة الشيطان عليهما " فيكون حديث الخثعمية دليلاً على عدم وجود الحجاب لا على الحجاب . لأن الرسول كان يراها وهي كاشفة الوجه . فأما تحويله نظر الفضل ، فأنه رأى أنه ينظر إليها بشهوة وتنظر إليه ، بدليل رواية علي " فلم آمن الشيطان عليهما " ولذلك حوله لأنه نظر بشهوة لا لأنه نظر ، والنظر بشهوة ولو إلى الوجه والكفين حرام . وأما حديث نظر الفجاءة فإن الرسول أمر جريراً أن يصرف بصره ن أي يغضه ، وهو من قبيل غض النظر الوارد بقوله تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } والمراد هنا نظر الفجاءة لغير الوجه والكفين مما هو عورة ، لا نظر الوجه والكفين جائز دون أن يكون نظر فجاءة ، بدليل إباحة النظر إليها في حديث الخثعمية السابقة ، وبدليل أن الرسول كان ينظر إلى وجوه النساء حيين بايعته ، وحين كان يعظهن ، مما يدل على المسئول عنه وهو نظر الفجاءة إلى غير الوجه والكفين . وأما حديث علي " لا تتبع النظرة النظرة " فإنه نهي عن تكرار النظر وليس عن مجرد النظر .

    وعلى ذلك فلا يوجد من الأحاديث التي يستدل بها من يدعي أن الله شرع الحجاب دليل على وجوب الحجاب ، وبهذا يتبين أنه لا يوجد دليل يدل على أن الله أوجب الحجاب لمسلمات ، أو يدل على أن الوجه والكفين عورة ، لا في الصلاة ولا خارج الصلاة . والأدلة التي استدلوا بها لا يوجد فيها وجه قوي للاستدلال على ذلك ، فهي ضعيفة الرواية ، ضعيفة الاستدلال .

    وأما كون الوجه والكفين ليسا بعورة ، وكون المرأة يجوز لها أن تخرج إلى السوق والطريق في كل مكان كاشفة وجهها وكفيها فذلك ثابت في القرآن والحديث .

    أما القرآن فقد قال الله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن } فالله تعالى نهى المؤمنات أن يبدين زينتهن ، أي نهاهن أن يظهرن محل زينتهن لأنه هو المراد بالنهي . واستثنى من محل الزينة ما ظهر منها ، وهو استثناء صريح ، وهو يعني أن هناك محل زينة في المرأة يظهر لا يشمله النهي عن إظهار محال الزينة في المرأة ، وهذا لا يحتاج إلى أدنى كلام ، فالله ينهى المؤمنات أن يبدين محل زينتهن إلا ما هو ظاهر منها . أما ما هي الأعضاء التي يعنيها قوله { إلا ما ظهر منها } فذلك يرجع تفسيره إلى أمرين ، أولهما إلى التفسير المنقول ، والثاني إلى ما يفهم من كلمة { ما ظهر منها } . حين تطبيقها على ما كان يظهر من النساء المسلمات أمام النبي r ، وفي عصره ، عصر نزول هذه الآية .

    أما النقل فقد روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية إن ما ظهر منها تعنى " الوجه والكفين " وجرى على ذلك المفسرون ، قال الإمام ابن جرير الطبري : " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : " عنى بذلك الوجه والكفين " وقال القرطبي : " لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهروهما عادة وعبادة وذلك في الحج والصلاة فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما " . وقال الإمام الزمخشري : " فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتظطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها ، وخاصة الفقيرات منهن وهذا معنى قوله : { إلا ما ظهر منها } .

    وأما ما يفهم من كلمة ما ظهر منها فإنه يتبين أن ما كان يظهر عند نزول هذه الآية هو الوجه والكفان . فقد كانت النساء يكشفن وجوههن وأيديهن بحضرته r وهو لا ينكر ذلك عليهن ،وكن يكشفن وجوههن وأيديهن في السوق والطريق ، والحوادث في ذلك أكثر من أن تحصى ، فمن ذلك :

    1 - عن جابر بن عبد الله قال : شهدت مع رسول الله r يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ، ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله ، وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ،ثم مضى حتى أتى النساء وذكرهن فقال : : تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم " ، فقالت امرأة من سطة النساء سعفاء الخدين ، فقالت لم يا رسول الله ؟ قال : " لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير " . قال فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن .

    2 - عن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى ، قال هذه المرأة السوداء أتت النبي r قالت ، إني أصرع ، وإني أنكشف ، فادع الله لي . فقال لها : إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ، فقالت : أصبر . فقالت : إني أنكشف فادع الله لي أن لا أنكشف ، فدعا لها " .

    3 - عن فاطمة بنت قيش أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب ، فجاءت رسول الله r فذكرت ذلك له فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال : " تلك المرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي في بيت أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فلا يراك " فأقر النبي ابنة قيس على أن يراها الرجال حين أمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ولكنه لم يقرها أن تضع ثيابها في بيت أم شريك وهي يأتيها الرجال ، فيبدو منها ما هو محرم ، فأمرها أن تتحول وتعتد في بيت أم مكتوم .

    4 - روى أبو بكر عن ابن جريج قال : قالت عائشة : دخلت على ابنة أخي مزينة فدخل علي النبي r فأعرض فقلت يا رسول الله ابنة أخي ، وجارية . فقال " إذا عركت المرأة لم يجز لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون هذا ، وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى ونحوه " .

    5 - ومما يدل على أن اليد ليست بعوة مصافحة الرسول للنساء في البيعة . عن أم عطية قالت : " بايعنا النبي r فقرأ علينا أن لايشركن بالله شيئاً ونهانا عن النياحة ، فقبضت امرأة منا يدها فقالت : فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها . فلم يقل شيئاً فذهبت ثم رجعت " . وهذا الحديث يدل على أن النساء كن يبايعن باليد ، لأن هذه المرأة قبضت يدها بعد أن كانت مدتها للبيعة . فكون الحديث ينص على أن المرأة قبض يدها حين سمعت لفظ البيعة صريح بأن البيعة كان باليد ، وأن الرسول كان يبايع النساء بيده الشريفة . وأما ما روي عن عائشة من أنها قالت : " وما مست يد رسول الله r امرأة إلا امرأة يملكها فإنه رأي لعائشة وتعبير عن مبلغ علمها ، " وإذا قورن قول عائشة بحديث أم عطية هذا ترجح حديث أم عطية ، ودل على عمل للرسول فهو أرجح من رأي محض لعائشة . ولذلك رجح الرواة حديث أم عطية وأخذوا به وأجازوا مصافحة الرجل للمرأة .

    فهذه الحوادث الخمسة الثابتة في الأحاديث تدل دلالة واضحة على أن الذي كان يظهر من المرأة هو الوجه والكفان قبل نزول الآية الصريحة بالحجاب ، والحديث الرابع يدل على إعراض الرسول عن النظر إلى امرأة مزينة لأنها كانت تبدي غير ما يظهر منها ، ثم بين أنه لا يجوز لها أن تبدي إلا الوجه والكفين . وهذا يدل دلالة واضحة أن المستثنى في الآية هو الوجه والكفان . وهذا يدل على أنهما ليسا بعورة ، لا في الصلاة ، ولا خارج الصلاة . لأن الآية عامة : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } .

    وأما الآية التي بعدها فإن مفهومها يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة ، فالله تعالى يقول : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } والخمر جمع خمار ، وهو ما يغطى به الرأس ، والجيوب جمع الجيب ، وهو موضع القطع من الدرع والقميص ، فأمر تعالى بأن يلوى الخمار على العنق والصدر ، فدل على وجوب سترهما ، ولم يأمر بلبسه على الوجه ، فدل على أنه ليس بعورة . وليس معنى كلمة الجيب هو الصدر كما يتوهم ، بل الجيب من القميص طوقه وهو فتحته التي تكون حول العنق وأعلى الصدر ، وضرب الخمار على الجيب ليًّه على طوق القميص من العنق والصدر . فالأمر بجعل غطاء الرأس يلوى على العنق والصدر استثناء للوجه ، فدل على أنه ليس بعورة . وبذلك يكون الحجاب غير موجود ، ولم يشرعه الله سبحانه وتعالى .

    هذا من حيث الأدلة من القرآن ، أما الأدلة من الحديث على أن الحجاب لم يشرعه الله تعالى ، وأن الوجه والكفين ليسا بعورة ، فلما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله r وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها رسول الله r وقال لها : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه " ، وقد أخرج أبو داود عن قتادة أن النبي r قال : " إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلى وجهها ويداها إلا المفصل " ، وأخرج البيهقي عن أسماء بنت عميس أنها قالت : دخل رسول الله r على عائشة بنت أبي بكر وعندها أختها أسماء بنت أبي بكر ، وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام ، فلما نظر إليها رسول الله r قام فخرج ، قالت عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله r أمراً كرهه ، فتنحت ، فدخل رسول الله r فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام ؟ قال : " أو لم تري إلى هيأتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا ، وأخ بكمية فغطى بهما كفيه حتى لم يبد من كفيه إلا أصابعه ، ثم نصب كفيه على صدغيه حتى لم يبد إلا وجهه " .

    فهذه الأحاديث صريحة بأن الوجه والكفين ليسا بعورة ، وصريحة بأن الله لم يشرع ستر الوجه والكفين ، ولم يشرع الحجاب . إذ لو شرع شيئاً من ذلك لناقض نص هذه الأحاديث التي لا تحتمل أي تفسير أو تأويل ، بل تدل دلالة واضحة صريحة على أن المرأة المسلمة تخرج إلى السوق كاشفة وجهها وكفيها ، وتتحدث إلى الرجال الأجانب ، وهي كاشفة وجهها وكفيها ، وتعامل الناس جميع المعاملات المشروعة ، من بيع وشراء وإجارة وتأجير وشفعة ووكالة وكفالة وغير ذلك وهي كاشفة وجهها وكفيها . وأن الحجاب لم يشرعه الله تعالى إلا لنساء الرسول . وأنه وإن كان القول بالحجاب رأياً إسلامياً لأن له شبهة الدليل ، وقد قال به أئمة مجتهدون من أصحاب المذاهب إلا أن شبهة الدليل التي يستدلون بها واهية ، لا يكاد يظهر فيها الاستدلال .

    بقيت مسألة يقول فيها بعض المجتهدين وهي أن الحجاب يشرع للمرأة خوف الفتنة ، فيقولون تمنع المرأة من كشف وجهها بين الرجال لا لأنه عورة ، بل لخوف الفتنة ، وهذا القول باطل من عدة وجوه .

    أحدها : أنه لم يرد بتحريم كشف الوجه لخوف الفتنة نص شرعي ، لا من الكتاب ، ولا من السنة ، ولا من إجماع الصحابة ، ولا من علة شرعية يقاس عليها ، فلا قيمة له شرعاً ولا يعتبر حكماً شرعياً . لأن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع ، وتحريم كشف الوجه لخوف الفتنة لم يأت في خطاب الشارع ، وإذا علم أن الأدلة الشرعية جاءت على النقيض منه تماماً ، فأباحت الآيات والأحاديث كشف الوجه واليدين إباحة مطلقة لم تقيد بشيء ، ولم تخصص في حالة من الحالات فيكون القول بتحريم كشف الوجه ، وإيجاب ستره تحريماً لما أحله الله ، وإيجاباً لما يوجبه رب العالمين . فهو فوق عدم اعتباره حكماً شرعياً ، هو مبطل لأحكام شرعية ثابتة بصريح النص .

    ثانيها : أن جعل خوف الفتنة علة لتحريم كشف الوجه وإيجاب ستره لم يرد فيه أي نص شرعي لا صراحة ولا دلالة ولا استنباطاً ولا قياساً فلا يكون علة شرعية مطلقاً ، بل هو علة عقلية ، والعلة العقلية لا اعتبار لها في أحكام الشرع ، بل المعتبر إنما هو العلة الشرعية ليس غير . وعليه فلا يقام أي وزن لخوف الفتنة في تشريع تحريم كشف الوجه وإيجاب ستره ، لأنه لم يرد في الشرع .

    ثالثها : أن قاعدة الوسيلة إلى الحرام محرمة لا تنطبق على تحريم كشف الوجه لخوف الفتنة ، وذلك لأن هذه القاعدة تقتضي أن يتوفر فيها أمران : أحدهما أن تكون الوسيلة موصلة إلى الحرام بغلبة الظن وكان سبباً للحرام ، بحيث ينتج المسبب حتماً ولا يتخلف عنه . والثاني أن يكون ما تؤول إليه قد ورد النص بتحريمه ، وليس مما يحرمه العقل . وهذا غير موجود في كشف الوجه لخوف الفتنة . إذ قالوا بستر الوجه لخوف الفتنة ، ولم يقولوا لتحقق الفتنة ، وعليه فلا ينطبق كشف الوجه لخوف الفتنة على قاعدة تحريم ما يكون سبباً لما هو حرام ، على فرض أن الفتنة تحرم شرعاً على من يفتتن به ، لأنه ليس مما يؤول إليه قطعاً . على أن خوف الفتنة لم يرد نص بجعله حراماً ، بل لم يجعل الشرع الفتنة نفسها حراماً على من يفتتن به الناس ، بل حرم على الناظر نظرة افتتان أن ينظر ، ولم يحرم ذلك على المنظور ، فقد روى أبو داود : " كان الفضل بن عباس رديف رسول الله r فجاءته الخثعمية تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فصرف رسول الله r وجهه عنها " أي صرف وجه العباس عنها ، بدليل ما جاء في رواية أخرى لهذا الحديث " فأخذ رسول الله r الفضل فحول وجهه من الشق الآخر " وروى هذه القصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزاد " فقال له العباس : يا رسول الله ، لم لويت عنق ابن عمك قال : " رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما" . ومن ذلك يتبين أن الرسول صرف وجه الفضل عن الخثعمية ، ولم يأمر الخثعمية بستر وجهها ، وكانت كاشفة له ، فلو كانت الفتنة حراماً على من يفتتن به لأمر الرسول الخثعمية بستر وجهها بعد أن تحقق من نظرة الفضل إليها نظرة افتتان . ولكنه لم يأمرها ، بل لوى عنق الفضل ، مما يدل على أن التحريم على الناظر ، لا على المنظور . وعلى ذلك فإن تحريم افتتان الناس بالمرأة لم يرد به نص يحرمه على المرأة التي يفتتن بها ، بل ورد النص بعدم تحريمه عليها ، فلا يكون ما يؤدي إليه حراماً ، حتى لو كان يؤدي إليه حتماً . على أنه يجوز للدولة عملاً برعاية الشؤون أن تبعد أشخاصاً بعينهم عن أعين من يفتنون بهم ، لتحول بين من يفتتن به الناس ، وبين الناس إذا كانت الفتنة في الشخص عامة ، كما فعل عمر بن الخطاب بنصر بن حجاج حين نفاه إلى البصرة ، لافتتان النساء به لجماله . وهذا عام في الرجال والنساء ، فلا يقال إنه يحرم على النساء كشف الوجه لخوف الفتنة ، حتى ولا لتحقق الفتنة ، ولا يكون ذلك من قبيل الوسيلة إلى الحرام محرمة .

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    الردود
    5
    الجنس

    تتمه

    المرأة والرجل أمام التكاليف الشرعية

    حين جاء الإسلام بالتكاليف الشرعية التي كلف بها المرأة والرجل ، وحين بين الأحكام الشرعية التي تعالج أفعال كل منهما ، لم ينظر إلى مسألة المساواة أو المفاضلة بينهما آية نظرة ، ولم يراعها آية مراعاة . وإنما نظر أن هناك مشكلة معينة تحتاج إلى علاج ، فعالجها باعتبارها مشكلة معينة بغض النظر عن كونها مشكلة لامرأة أو مشكلة لرجل . فالعلاج هو لفعل الإنسان أي للمشكلة الحادثة ، وليست المعالجة للرجل أو للمرأة . ولهذا لم تكن مسألة المساواة أو عدم المساواة بين الرجل والمرأة موضع بحث . وليست هذه الكلمة موجودة في التشريع الإسلامي ، بل الموجود هو حكم شرعي لحادثة وقعت من إنسان معين ، سواء أكان رجلاً أم امرأة .

    وعلى هذا فليست المساواة بين الرجل والمرأة قضية تبحث ، ولا هي قضية ذات موضوع في النظام الاجتماعي ، لأن كون المرأة تساوي الرجل ، أو كون الرجل يساوي المرأة ليس بالأمر ذي البال الذي له تأثير في الحياة الاجتماعية ، ولا هو مشكلة محتملة الوقوع في الحياة الإسلامية ، وما هذه الجملة إلا من الجمل الموجودة في الغرب ، ولا يقولها أحد من المسلمين سوى تقليد للغرب ، الذي كان يهضم المرأة حقوقها الطبيعية باعتبارها إنساناً ، فطالبت بهذه الحقوق واتخذ هذا الطلب بحث المساواة طريقاً لنيل هذه الحقوق . وأما الإسلام فلا شأن له بهذه الاصطلاحات لأنه أقام نظامه الاجتماعي على أساس متين يضمن تماسك الجماعة والمجتمع ورقيهما ، ويوفر للمرأة والرجل السعادة الحقيقية اللائقة بكرامة الإنسان الذي كرمه الله تعالى بقوله : { ولقد كرمنا بني آدم } .

    فالإسلام حين جعل للمرأة حقوقاً ، وجعل عليها وجبات ، وجعل للرجل حقوقاً ، وجعل عليه واجبات إنما جعلها حقوقاً وواجبات تتعلق بمصالحهما كما يراها الشارع ، ومعالجات لأفعالهما باعتبارها فعلاً معيناً لإنسان معين . فجعلها واحدة حين تقتضي طبيعتها الإنسانية جعلها واحدة ، وجعلها متنوعة حين تقتضي طبيعة كل منهما هذا التنوع . وهذه الوحدة في الحقوق والواجبات لا يطلق عليها مساواة ، كما أنه لا يطلق عليها عدم مساواة ، كما أن ذلك التنوع في الحقوق والواجبات لا يراد منه عدم مساواة أو مساواة ، لأنه حيث نظر إلى الجماعة رجالاً كانت أو نساء إنما ينظر إليها باعتبارها جماعة إنسانية ليس غير ، ومن طبيعة هذه الجماعة الإنسانية أن تحوي الرجال والنساء ، قال الله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } .

    وعلى هذه النظرة شرع التكاليف الشرعية ، وبحسب هذه النظرة جعل الحقوق والواجبات للرجال والنساء . فحين تكون الحقوق والواجبات حقوقاً وواجبات إنسانية ، أي حين تكون التكاليف تكاليف تتعلق بالإنسان كإنسان تجد الوحدة في هذه الحقوق والواجبات ، أي تجد الوحدة في التكاليف ، فتكون الحقوق والواجبات لكل وعلى كل من المرأة والرجل واحدة لا تختلف ولا تتنوع ، أي تكون التكاليف واحدة للرجال والنساء على السواء . ومن هنا تجد الإسلام لم يفرق في دعوة الإنسان إلى الإيمان بين الرجل والمرأة ، ولم يفرق في التكليف بحمل الدعوة إلى الإسلام بين الرجل والمرأة . وجعل التكاليف المتعلقة بالعبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة واحدة من حيث التكليف ، وجعل الاتصاف بالسجايا التي جاءت بالأحكام الشرعية أخلاقاً للرجال والنساء على السواء ، وجعل أحكام المعاملات من بيع وإجارة ووكالة وكفالة وغير ذلك من المعاملات المتعلقة بالإنسان واحدة للرجال والنساء ، وأوقع العقوبات على مخالفة أحكام الله من حدود وجنايات وتعزير على الرجل والمرأة دون تفريق بينهما باعتبارهما إنساناً ، وأوجب التعلم والتعليم على المسلمين ، لا فرق بين الرجال والنساء . وهكذا شرع الله جميع الأحكام المتعلقة بالإنسان كإنسان ، واحدة للرجال والنساء على السواء . فكانت التكاليف من هذه الناحية واحدة ، وكانت الحقوق والواجبات واحدة . ومع أن الآيات والأحاديث التي وردت في مثل هذه الأحكام جاءت عامة شاملة للإنسان من حيث هو إنسان ، وللمؤمن من حيث هو مؤمن ، فإن كثيراً من الآيات نصت على أن التكليف إنما هو للذكر والأنثى ، قال تعالى : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسول أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وقال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } وقال تعالى : { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً } وقال : {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} وقال : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً } وقال : {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} وهكذا نجد أن جميع الأحكام الشرعية المتعلقة بالإنسان كإنسان مهما كانت هذه الأحكام ، ومهما تنوعت وتعددت ، قد شرعها الله واحدة للرجل والمرأة على السواء . إلا أن ذلك لا يعتبر مساواة بين الرجل والمرأة وإنما هي أحكام شرعت للإنسان ، فكانت للرجل والمرأة على السواء لأن كلاً منهما إنسان . وهذه الأحكام هي خطاب من الله تعالى متعلق بأفعال العباد .

    وحين تكون هذه الحقوق والواجبات ، وهذه التكاليف الشرعية تتعلق بطبيعة الأنثى بوصفها أنثى ، وبطبيعة مكانها في الجماعة ، وموضعها في المجتمع ، أو تتعلق بطبيعة الذكر بوصفه ذكراً ، وبطبيعة مكانه في الجماعة ، وموضعه في المجتمع ، تكون هذه الحقوق والواجبات أي هذه التكاليف متنوعة بين الرجل والمرأة ، لأنها لا تكون علاجاً للإنسان مطلقاً ، بل تكون علاجاً لهذا النوع من الإنسان ، الذي له نوع من الطبيعة الإنسانية مختلف عن النوع الآخر ، فكان لا بد أن يكون العلاج لهذا النوع من الإنسان ، لا للإنسان مطلقاً ، ولذلك جعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد في الأعمال التي تكون في جماعة الرجال ، وفي الحياة العامة ، من مثل شهادتها على الحقوق والمعاملات قال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ، وقبلت شهادة النساء وحدهن في الأمور التي تحدث في جماعة النساء فحسب ولا يكون فيها الرجال ، كجناية حصلت في حمام النساء ، واكتفي بشهادة امرأة واحدة في الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء . كشهادتها في البكارة والثيوبة والرضاعة ، لأن الرسول r قبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع ، وجعل الإسلام نصيب المرأة في الميراث نصف نصيب الرجل في بعض الحالات قال الله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } وهذا في العصبات ، كالأولاد والأخوة الأشقاء والأخوة لأب ، لأن واقع الأنثى في ذلك أن نفقتها واجبة على أخيها إن كانت فقيرة ، ولو كانت قادرة على العمل ، وجعل نصيب المرأة كنصيب الرجل في بعض الحالات ، قال الله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } وهذا في الأخوة لأم لأن الكلالة هو المقطوع الذي لا أصول ولا فروع ولا أخوة له ، أشقاء أو لأب ، فتبين أن المراد بالأخ أو الأخت هو الأخوة لأم . وواقع الأنثى في ذلك أن نفقتها لا تجب على أخيها لأمها ، لأنه وإن كان محرماً ولكنه ليس ممن تجب عليه النفقة .

    وأمر الإسلام أن يكون لباس المرأة مخالفاً للباس الرجل ، كما أمر أن يكون لباس الرجل مخالفاً للباس المرأة . ومنع أحدهما أن يتشبه بالآخر باللباس ، وبما يخص به ويميزه عن النوع الآخر ، كتزين بعض أعضاء الجسم . عن أبي هريرة رض الله عنه قال : " لعن رسول الله r الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل " وعن ابن أبي مليكة قال : قيل لعائشة رضي الله عنها " إن المرأة تلبس النعل ؟ فقالت : لعن رسول الله r الرجلة من النساء " وعن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله r يقول : " ليس منا من تشبه بالرجال من النساء " ، وعن ابن عباس قال : " لعن النبي r المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء " . وقال : " أخرجوهن من بيوتكن " قال : " فأخرج النبي r فلاناً وأخرج عمر فلاناً " .

    وجعل الإسلام الصداق أي المهر على الرجل للمرأة ، وجعله حقاً لها عليه ، مع أن الاستمتاع هو لهما معاً ، وليس للرجل وحده . فقال تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } ومعنى نحلة هو عطية إذ الصداق عطية ، وليس هو بدل البضع كما يتوهم بعضهم . وقال عليه الصلاة والسلام للذي زوجه الموهوبة : " هل من شيء تصدقها ؟ فالتمس ولم يجد قال : التمس ولو خاتماً من حديد فلم يجد شيئاً فزوجه إياها بما معه من القرآن " .

    وجعل الله تعالى العلم لكسب المال فرضاً على الرجال ، ولم يجعله فرضاً على المرأة بل مباحاً لها ، إن شاءت عملت ، وإن شاءت لم تعمل . قال تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته } وذو لا تطلق إلا على المذكر ، وقال : {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} فجعل النفقة على الذكر .

    وجعل الإسلام أمر القوامة للرجال على النساء . وجعل لهم القيادة والأمر والنهي ، قال الله تعالى : { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً } . وقد بين أن هذه القوامة كانت للرجال بما جعل الله لهم من زيادة في التكاليف كالحكم ، وإمامة الصلاة ، والولاية في النكاح ، وجعل الطلاق بيده ، قال تعالى : { بما فضل الله بعضهم على بعض } وكانت هذه القوامة أيضاً بما ألقي على عاتقهم من تكاليف الإنفاق من المهر والتموين ، فقال تعالى : { وبما أنفقوا من أموالهم } كما جعل للزوج حق تأديب زوجته بالتذكير الجميل وبالهجران في المضاجع ، وبالضرب غير المبرح حسب ما يحتاجه الذنب من تأديب ، هذا إذا نشزت أي عصته وتمردت عليه . وجعل للمرأة حق حضانة الصغير صبياً كان أو بنتاً ، ومنع الرجل منها . وجعل للمرأة مباشرة الإنفاق على الصغار إذا ماطل أبوهم ، أو قتر عليهم ، ومنع الرجل في هذه الحالة من مباشرتها . فقد جاءت هند إلى رسول الله r فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " والقاضي يجبره على أن يسلمها النفقة ويجعل لها أن تباشرها ، ولا يقبل منه مباشرة الإنفاق في هذه الحالة.

    وهكذا جاء الإسلام بأحكام متنوعة خص الرجال ببعضها ، وخص النساء ببعضها ، وميز بين الرجال والنساء في قسم منها ، وأمر أن يرضى كل منهما بما خصه الله به من أحكام ، ونهاهم عن التحاسد ، وعن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض ، قال تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ، للرجال نصيب مما اكتسبوا ، وللنساء نصيب مما اكتسبن } . وهذا التخصيص في الأحكام ليس معناه عدم مساواة ، وإنما هو علاج لأفعال الأنثى باعتبارها أنثى ، وعلاج لأفعال الذكر باعتباره ذكراً ، وكلها قد عولجت بخطاب يتعلق بأفعال العباد . وإذا درس واقعها جميعها تبين أنه علاج لمشكلة نوع من الإنسان باعتبار نوعه ، وهولا بد أن يختلف عن علاج الإنسان باعتباره إنساناً . ولم تلاحظ فيه ناحية المساواة ، أو عدم المساواة لأنها ليست محل البحث ، وإنما لوحظ فيه كونه علاجاً معيناً لمشكلة معينة ، لإنسان معين . هذا هو وجه التنوع في الأحكام بين الرجل والمرأة فيما ورد من أحكام متنوعة ، وعلى أي حال فهي علاج لمشكلة إنسان ، سواء أكان علاجاً واحداً لكل من الرجل والمرأة كطلب العلم ، أم كان متنوعاً بينهما كتنوع العورة واختلافها بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة . ولا يعني ذلك تتميز إنسان على إنسان ، أو بحث مساواة أو عدم مساواة . وأما ما ورد في الأثر من أن النساء ناقصات عقل ودين ، فإنما يقصد اعتبار الأثر الصادر بالنسبة للعقل والدين ، وليس معناه نقصان العقل أو نقصان الدين عندهن . لأن العقل واحد باعتبار الفطرة عند كل من الرجل والمرأة ، والدين واحد باعتبار الإيمان والعمل عند كل من الرجل والمرأة . والمراد من هذا الأثر هو نقصان أيام الصلاة عند المرأة ، بعدم صلاتها أيام الحيض في كل شهر وأيام النفاس ، وعدم صيامها أيام الحيض والنفاس في رمضان .

    هذا هو موضوع الحقوق والواجبات ، أي التكاليف الشرعية قد شرعها الله للإنسان من حيث هو إنسان ، ولكل نوع من نوعي الإنسان : الذكر والأنثى ، ولكن باعتباره نوعاً من أنواع الإنسان له صفة الإنسانية ، وصفة النوعية عند التشريع ، ولا يراد تمييز أحدهما عن الآخر ، كما لا يلاحظ فيها أي شيء من أمور المساواة وعدم المساواة .




    أعمال المرأة

    طبيعة نظرة الإسلام التشريعية تجعل الأعمال التي يقوم بها الإنسان بوصفه إنساناً مباحة لكل من الرجل والمرأة على السواء ، دون تفريق بينهما ، أو تنويع أحدهما عن الآخر . أو تجعل هذه الأعمال واجبة أو محرمة أو مكروهة أو مندوبة دون أي تفريق أو تنويع . أما الأعمال التي يقوم بها الذكر بوصفه ذكراً مع وصف الإنسانية ، وتقوم بها الأنثى بوصفها أنثى مع وصف الإنسانية ، فإن الشرع قد فرق بينهما فيها ، ونوعها بالنسبة لكل منهما ، سواء من حيث الوجوب أو الحرمة أو الكراهة أو الندب أو الإباحة . ومن هنا نجد أن الحكم والسلطان قد جعله الشرع للرجال دون النساء ، ونجده قد جعل حضانة الأولاد أبناء كانوا أو بنات للنساء دون الرجال . ولذلك كان لا بد من أن توكل الأعمال التي تتعلق بالأنثى بوصفها أنثى للنساء ، وأن توكل الأعمال التي تتعلق بالذكر بوصفه ذكراً للرجال . ولما كان الله تعالى وهو الذي خلق الذكر والأنثى أعلى بما هو من شأن الرجل أو شأن المرأة ، كان لا بد من الوقوف عند حد الأحكام التي شرعها دون مجاوزتها ، سواء أكانت للرجال وحدهم ، أم للنساء وحدهن ، أم للإنسان بغض النظر عن كونه رجلاً أو امرأة ، لأنه هو أعلم بما يصلح للإنسان . فمحاولة العقل حرمان المرأة من أعمال بحجة أنها ليس من شأنها ، أو إعطائها أعمالاً خص بها الرجل باعتبار أن هذا الإعطاء إنصاف لها . وتحقيق للعدالة بينها وبين الرجل ، كل ذلك تجاوز على الشرع ، وخطأ محض ، وسبب للفساد .

    وقد جعل الشرع المرأة أماً وربة بيت ، فجاءها بأحكام تتعلق بالحمل ، وأحكام تتعلق بالولادة ، وأحكام تتعلق بالرضاع ، وأحكام تتعلق بالحضانة ، وأحكام تتعلق بالعدة . ولم يجعل للرجل شيئاً من ذلك ، لان هذه أحكام تتعلق بالأنثى بوصفها أنثى ، فألقى عليها مسئولية الطفل من حمل ، وولادة ، وإرضاع ، وحضانة . فكانت هذه المسئولية أهم أعمالها وأعظم مسئولياتها . ومن هنا يمكن أن يقال إن العمل الأصلي للمرأة هو أنها أم وربة بيت ، لأن في هذا العمل بقاء النوع الإنساني ، ولأنها قد اختصت به دون الرجل . وعليه فإنه يجب أن يكون واضحاً أنه مهما أسند للمرأة من أعمال ، ومهما ألقي عليها من تكاليف ، فيجب أن يظل عملها الأصلي هو الأمومة ، وتربية الأولاد . ولذلك نجد الشرع قد سمح لها أن تفطر في رمضان وهي حامل أو مرضع ، وأسقط عنها الصلاة وهي حائض أو نفساء ، ومنع الرجل أن يسافر بابنه من بلدها ما دامت تحضنه ، كل ذلك من أجل إتمام علمها الأصلي ، وهو كونها أماً وربة وبيت أنها محصورة في هذا العمل ، ممنوعة من مزاولة غيره من الأعمال ، بل معناه هو أن الله خلق المرأة ليسكن إليها الرجل ، وليوجد منها النسل والذرية قال تعالى : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } وقال : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها } ولكنه خلقها في نفس الوقت لتعمل في الحياة العامة ، كما تعمل في الحياة الخاصة . فأوجب عليها ، حمل الدعوة ، وطلب العلم فيما يلزمها من أعمال حياتها . وأجاز لها البيع ، والإجارة والوكالة . وحرم عليها الكذب والغدر ، والخيانة ، كما أوجب ذلك على الرجل وأجازه له ، وحرمه عليه . وجعل لها أن تزاول الزراعة والصناعة كما تزاول التجارة ،وأن تتولى العقود ، وأن تملك كل أنواع الملك ، وأن تنمي أموالها . وأن تباشر شؤونها في الحياة بنفسها ، وأن تقوم بسائر المعاملات . وذلك لعموم خطابات الشارع ، وعدم تخصيص المرأة بالمنع . إلا أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى الحكم ، فلا تكون رئيس دولة ، ولا معاوناً له ، ولا واليا ، ولا عاملاً ، ولا أي عمل يعتبر من الحكم ، لما روي عن أبي بكر قال : لما بلغ رسول الله r أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " . وهذا صريح في النهي عن تولي المرأة الحكم في ذم الذين يولون أمرهم للنساء . وولي الأمر ، هو الحاكم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فولاية الحكم لا تجوز للنساء ، أما غير الحكم فيجوز أن تتولاه المرأة . وعلى ذلك يجوز للمرأة أن تعين في وظائف الدولة ، لأنها ليست من الحكم وإنما تدخل في باب الإجارة ، فالموظف أجير خاص عند الحكومة ، وهو كالأجير عند أي شخص أو شركة ، ويجوز لها أن تتولى القضاء لان القاضي ليس حاكماً وإنما هو يفصل الخصومات بين الناس ، ويخبر المتخاصمين بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام . ولذلك عرف القضاء بأنه إخبار بالحكم على سبيل الإلزام . فالقاضي موظف وليس بحاكم ، فهو أجير عند الدولة كسائر الإجراء . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قد ولى الشفاء - امرأة من قومه - السوق أي قاضي الحسبة الذي يحكم على المخالفات جميعها . على أن قضية كون المرأة يجوز أن تكون قاضياً متعلقة بنص الحديث وتطبيقه على واقع وظيفة القاضي ، فإن انطبق حديث النهي على تولية المرأة الأمر على القضاء كانت توليتها القضاء لا تجوز ، وإن لم ينطبق عليها فلا يصلح الحديث دليلاً على منعها من القضاء . وبالنظر للحديث نجد أن الرسول قد ذم القوم الذين ولو أمرهم امرأة ، جواباً على ما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم امرأة ، فهو تعليق على خبر ، وبمقام الجواب على السؤال . فهو خاص في موضوع الخبر لا في غيره ، وموضوع الأخبار هو الملك أي رئاسة الدولة ، والتعليق كان على ذلك ، فهو خاص في موضع رئاسة الدولة ، وما في معناهما وهو الحكم . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن النهي منصب على الولاية العامة ، لأنها هو ولاية الأمر . هذا هو معنى الحديث وما يدل عليه . أما موضوع القضاء فهو عمل يختلف عن عمل الخليفة ، وعن عمل الوالي . فعمل الخليفة وعمل الوالي هو تنفيذ الحكم مباشرة من قبله سواء رفعت القضية إليه ، أو رفع حكم القاضي إليه ، أو لم يرفع إليه أحد قضية ، ولكنه رأى هو مخالفة للشرع ، فإنه يحاكم المخالف دون مدع وينفذ الحكم عليه فهو منفذ . أما القاضي فإنه لا يستطيع أن يحكم إلا إذا وجدت دعوى ، بأن رفع أحد الدعوى إليه ، وكان هنالك متداعيان . فهو يقضي إذا وجد ادعاء ، ولا شأن له إذا لم يوجد من يدعي . وفي حالة نظره في القضية إنما يخبر عن حكم الله في القضية على سبيل الإلزام ، وليست له سلطة التنفيذ مطلقاً ، إلا إذا عين حاكماً وقاضياً ، فحينئذ ينفذ بوصفه حاكماً ويقضي بوصفه قاضياً . وعلى ذلك فواقع القضاء غير واقع الحكم ، فلا ينطبق الحديث على القاضي . وفوق ذلك فإن القضاء ليس من الولاية في شيء ، فلا ولاية للقاضي على أحد من أهل البلد التي عين فيها قاضياً ، حتى لا ولاية له على المتداعيين . ولا تجب طاعته ، وإنما يجب تنفيذ حكمه حين يحكم في القضية لأنه حكم الله ، لا لأنه أمر القاضي ، ولا يعتبر حكمه حكم قاض إلا إذا حكم في مجلس القضاء . ولذلك لا تعتبر مشاهدته للحادثة ، أو سماعه لها في غير مجلس القضاء مجيزاً له أن يحكم بما شاهده أو سمعه ، ما لم يحصل ذلك في مجلس القضاء . بخلاف الحاكم فإنه تجب طاعته في كل حال ، وليس له مجلس معين للحكم ، بل يتولى الحكم في بيته ، وفي الطريق ، وفي مركز الدولة وفي كل مكان ، وطاعته واجبة ، قال عليه الصلاة والسلام : " ومن يطع الأمير فقد أطاعني " وعلى هذا فإن حديث النهي عن تولية المرأة لا ينطبق على عمل القاضي مطلقاً ، فلا يكون القضاء ممنوعاً على المرأة بهذا الحديث . وواقع القاضي أنه أجير عند الحاكم ، استأجره بأجير معين على عمل معين ، وكلمة أجير الواردة في الأحاديث الصحيحة تشمل كل أجير على أي عمل ، وإذا كان معلم القرآن اعتبره الرسول r أجيراً فقال عليه السلام : " إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " فإن القاضي كذلك يعتبر أجيراً ، وما يأخذه من بيت المال هو أجرة . ولا يقال إن القاضي معاون للحاكم فيلحق به في الحكم ، لأن القاضي إنما هو أجير عند الحاكم ، وليس معاوناً له ، ووظيفته فهم واقع المشكلة بين المتخاصمين ، وتبيان انطباق المواد القانونية في حالة التبني للأحكام الشرعية ، أو الأحكام الشرعية مطلقاً في حالة عدم التبني ، على من يدينهم القضاء ، ومن لا يدينهم فهو أجير استؤجر بأجر معين على عمل معين .

    هذا بالنسبة للقاضي وللمحتسب . أما بالنسبة لقاضي المظالم فإنه لا يجوز أن يكون امرأة ، فلا يجوز أن تتولى المرأة قضاء المظالم ، لأنه حكم وواقعه واقع الحكم ، وينطبق عليه الحديث . لأنه يرفع المظلمة التي تقع من الحاكم على الناس ، سواء ادعاها أحد ، أو لم يدعها أحد . وهو لا يحتاج إلى دعوة المدعي عليه الحاكم إذا ادعى أحد المظلمة عليه ، بل يجوز له أن يدعوه ليجلس بين يديه ، ويجوز أن لا يدعوه . لأن الموضوع ليس الأخبار بحكم في قضية ، وإنما هو رفع الظلم الذي يقع من الحكام على الناس . فالواقع المتمثل في قضاء المظالم أنه حكم ، ولذلك لا يجوز للمرأة أن تتولاه .

    بقيت مسألة جواز أن تكون المرأة عضواً في مجلس الأمة في حالة وجود مجلس أمة ، أو لا تكون ، فإنها قد تخفى على بعضهم ، فيظنها لا تجوز قياساً منه لمجلس الأمة في الإسلام على المجلس النيابي في الديمقراطية . والحقيقة أن هنالك فرقاً بين مجلس النواب في النظام الديمقراطي ، ومجلس الأمة في الإسلام . فمجلس النواب هو من الحكم ، لأنه في عرف الديمقراطية له صلاحية الحكم ، إذ هو الذي ينتخب رئيس الدولة ويعزله ، وهو الذي يمنح الوزارة الثقة، وينزع منها الثقة فيسقطها من الحكم حالاً . وواقع مجلس النواب أنه يقوم بثلاثة أمور ، أحدها أنه يحاسب الحكومة ويراقبها ، والثاني أنه يسن القوانين ، والثالث أنه يقيم الحكام ويسقطهم . فهو من حيث محاسبة الحكومة ومراقبتها ليس من الحكم ، ولكنه من حيث سن القوانين وعزل الحكام وإقامتهم يعتبر من الحكم ، وهذا بخلاف مجلس الأمة فإن واقعه أنه يحاسب الحاكم ويراقبه ، ويظهر سخطه بما يحتاج إلى إظهار سخط ، كالتقصير في رعاية الشؤون ، وكالتساهل في تطبيق الإسلام ، أو القعود عن حمل الدعوة الإسلامية وما شاكل ذلك . ولكنه لا يسن القوانين ، ولا ينصب حاكماً ، ولا يعزل حاكماً ، فهو غير مجلس النواب ، ولذلك لا يجوز للمرأة أن تكون عضواً في مجلس النواب ما دام يعتبر من الحكم حسب المبدأ الرأسمالي الديمقراطي . ويجوز لها أن تكون عضواً في مجلس الأمة ، لأنه ليس من الحكم . إلا أنه لا يعني عدم جواز المرأة عضواً في مجلس أنه لا يجوز لها أن تنتخب الحاكم . لأن كونها عضواً في مجلس النواب يجعلها من الحكم أي ممن له صلاحية الحكم ، وهذا لا يجوز ، لصريح النهي عن ذلك في قوله عليه السلام : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " وهذا بخلاف انتخابها للحاكم فإنه لا يجعلها من الحكم ، وإنما يجعل لها حق اختيار من يحكمها . وقد أجاز الشرع للمرأة أن تنتخب الحاكم ، وأن تختار أي رجل لأي عمل من أعمال الحكم ، لأنه يجوز لها أن تبايع الخليفة ، وأن تنتخبه . فعن أم عطية قالت : بايعنا النبي r فقرأ علينا أن لا يشركن بالله شيئاً ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها فلم يقل شيئاً فذهبت ثم رجعت " وبيعة النبي r لم تكن على النبوة وإنما كانت على الطاعة للحاكم . فهذا يدل على أن للمرأة أن تبايع الحاكم ، وأن تنتخبه . هذا بالنسبة لمجلس النواب . أما مجلس الأمة فهو على خلاف ذلك لأنه مجلس لأخذ الرأي وإعطاء الرأي ، وليست له صلاحية الحكم ، فهو لا ينتخب الحاكم إلا إذا أنابته الأمة عنها في ذلك ولا يعز الحاكم ، ولا يسن القوانين ، وعمله كله يتعلق بالرأي . فأعمال مجلس الأمة هي أن الدولة ترجع إليه لأخذ رأيه فيما تريد القيام به من أعمال داخلية ، ومحاسبتها على ما قامت به من أعمال داخلية وخارجية ، أو من نفسه يعطيها آراء في الأمور ، داخلية أو خارجية ، ومن أعماله أيضاً إعطاء رأيه فيمن يكونون مرشحين لمنصب الخلافة ، وإظهار تذمرهم من الولاة والمعاونين ، وهو إعطاء رأي أيضاً ، وكلها تدخل تحت إعطاء الرأي الذي يرشد إلى عمل ، ومن عمله الذي هو لمجرد الشورى ، ولا يلزم به الخليفة ، إعطاء رأيه فيما يتبناه الخليفة من أحكام . وهذه كلها آراء وليست حكماً . ولذلك كان عمله يتعلق بالرأي ليس غير .

    وأعضاء مجلس الأمة هو وكلاء عن الناس بالرأي ليس غير ، وليسوا وكلاْ عنهم في الحكم ، لا في نصب الحاكم إلا إذا أنابتهم الأمة عنها في ذلك ولا في عزله . حتى إنهم حين يظهرون تذمرهم من المعاونين والولاة لا يعزلون طبيعياً من رأيهم ، وإنما يعزلهم الخليفة بناء على رأيهم ، بخلاف مجلس النواب فإن الوزارة تعزل في الحال إذا سحب مجلس النواب ثقته منها دون حاجة لعزل رئيس الدولة لها .

    وما دام أعضاء مجلس الأمة هم وكلاء في الرأي فإن للمرأة الحق بان تعطي رأيها في كل ما هو من صلاحيات مجلس الأمة ، فلها أن تعطي رأيها السياسي ، والاقتصادي ، والتشريعي ، وغير ذلك . ولها أن توكل عنها من تشاء لإعطاء الرأي ، وأن تتوكل عمن تشاء بإعطاء هذا الرأي . وقد أعطاها الإسلام حق إعطاء الرأي ، كما أعطى الرجل سواء بسواء ، فالشورى في الإسلام حق للرجل والمرأة على السواء قال تعالى : { وشاورهم في الأمر } وقال : { وأمرهم شورى بينهم } وهو كلام عام يشمل المرأة والرجل . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الرجل والمرأة على السواء قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقال عليه السلام : " من رأى منكم منكراً فليغيره " الحديث ، وهو كلام عام يشمل الرجل والمرأة . ومحاسبة الحكام فرض على الرجل والمرأة ، والنصيحة شرعت للرجل والمرأة فالنبي r حين يقول : : الدين النصيحة ، قيل لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " لم يقتصر إعطاء النصيحة على الرجل ، بل للمسلم أن يعطي النصيحة للأئمة المسلمين وعامتهم ، سواء أكان المعطي رجلاً أم امرأة . وإذا كانت النساء يناقشن الرسول ويسألنه فإن معنى ذلك أن يناقشن الخليفة وغيره ممن بأيديهم الحكم يسألنهم . فقد روي أن الرسول عليه السلام بعد أن وعظ الرجال يوم العيد " مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت لم يا رسول الله ؟ .. الحديث " وهو يدل على أن المرأة ناقشت الرسول وسألته عن سبب ما قاله في حقهن . وقصة خولة بنت ثعلبة التي جاءت الرسول تسأله عن أمر ظهار زوجها لها فقال لها ما عندي في أمرك شيء ، فجادلته ، قصة مشهورة قد أشار إليها الله في القرآن فقال : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركما } وهذا صريح في مناقشة النساء للرسول ، فلا كلام في جواز أن تعطي المرأة رأيها في كل شيء ، وأن تناقش فيه ، ولا شبهة لأحد في ذلك وقد انعقد الاجتماع على هذا .

    أما كون المرأة يجوز لها أن توكل عنها من تشاء في إعطاء هذا الرأي ، وأن تتوكل عمن تشاء في إعطاء الرأي فلا كلام في جوازه أيضاً ، لأن للمرأة أن توكل عنها في النكاح ، والبيع ، والإجارة ، وغير ذلك . ولها أن تتوكل عن غيرها في ذلك . وليس ذلك خاصاً بأشياء دون أشياء ، بل هو عام بكل شيء ومنه الرأي . وعلى ذلك فإنه يجوز للمرأة أن توكل عنها من تشاء في إعطاء الرأي ، وأن تتوكل هي عمن تشاء في إعطاء الرأي .

    ولما كان مجلس الأمة هو مجلساً لإعطاء الرأي ، وكان أعضاؤه وكلاء عن غيرهم في إعطاء الرأي ، فإنه يجوز للمرأة أن تنتخب وتنتخب في مجلس الأمة ، أي يجوز لها أن تكون وكيلاً عن غيرها ، وأن توكل غيرها في إعطاء الرأي . على أن النبي r قدم عليه في السنة الثالثة عشرة من بعثته r أي في السنة التي هاجر فيها ، ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ، هما أم عمارة بنت كلب إحدى نساء بني مازن ، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة . وواعدهم الرسول العقبة . فذهبوا جوف الليل وتسلقوا الشعب جميعاً وتسلقت المرأتان معهم ، وقد قال لهم الرسول " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون به نساءكم وأبناءكم " وقد كانت بيعتهم هذه أن قالوا " بايعنا على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا ، وأن نقول الحق أينما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم " وهذه بيعة سياسية . فإذا جاز للمرأة أن تبايع بيعة سياسية جاز لها أن تنتخب ، وأن تُنتخب ، لأن البيعة والانتخاب من باب واحد هو اختيار الحاكم وطاعته ، والدليل على أن البيعة والانتخاب من باب واحد هو أن الخليفة إن لم يبايع لا يكون خليفة شرعاً ، فالذي يجعله خليفة هو البيعة ، فهي في حقيقتها اختيار للخليفة ، وعهد بالسمع والطاعة له . ولا يقال إن البيعة هي عهد السمع والطاعة فقط فإنها تكون كذلك للذين لم يبايعوا إلا بعد انعقاد الخلاقة . أما البيعة ابتداء فهي اختيار وعهد على السمع والطاعة . ويشترط فيها الرضا لأنها عقد مراضاة ، ولذلك فهي والانتخاب من باب واحد . واختيار من ينوب عن المرأة في إعطاء الرأي في مجلس الأمة هو من باب أولى ، لأنه إذا جاز لها أن تختار الخليفة ، وهو أعلى منصب في الحكم فجواز اختيار من هو أقل منه من باب أولى . وبذلك يتبين أن انتخاب المرأة لأعضاء مجلس الأمة جائز شرعاً.

    هذا من حيث دلالة بيعة العقبة الثانية على أن يجوز للمرأة أن تنتخب غيرها في مجلس الأمة . أما وجه دلالتها على أن لها أن ينتخبها غيرها عضواً في مجلس الأمة فإن الرسول r بعد أن فرغوا من البيعة قال لهم جميعاً رجالاً ونساء . " أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم كفلاء " وهذا أمر منه للجميع ، بأن ينتخبوا من الجميع . فهو عام ، ولم يخصص فيه الرسول الرجال ، ولم يستثن النساء لا فيمن ينتخب ( بكسر الخاء ) ولا فيمن ينتخب ( بفتح الخاء ) . والعام يجري على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص . وبما أنه لم يخصص فصار شاملاً للرجال والنساء جميعاً سواء من ينتخب أو من ينتخب .

    وعلى هذا فإن جواز أن تكون المرأة عضواً في الأمة ، وأن تنتخب أعضاءه ، ثابت من ناحية كونهاُ وكيلاً عن غيرها في الرأي وكونها توكل غيرها في الرأي . وثابت من حديث بيعة العقبة الثانية .

    ولا توجد آية شبهة عند أحد في أن الشورى حق للرجل والمرأة ، وأن محاسبة الحاكم فرض على الرجل والمرأة ، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الرجل والمرأة ، وأن النصيحة شرعت للرجل والمرأة ، وأن الوكالة بالرأي جائزة للرجل والمرأة ، وأن للمرأة الحق في أن يكون لها رأي ، وأن تعطي هذا الرأي ، لا فرق بين أن يكون هذا الرأي سياسياً ، أو تشريعياً أو غير ذلك من الآراء . ولما كان مجلس الأمة قد حصرت أعماله في الشورى ، ومحاسبة الحاكم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة لأئمة المسلمين ،وكل ما هو متعلق بالرأي ، وليس من أعماله الحكم فإنه يقتضي أن لا تكون هنالك أية شبهة في جواز أن تكون المرأة عضواً في مجلس الأمة وجواز أن تنتخب المرأة أعضاء مجلس الأمة . غير أن بعضهم اشتبه عليه جواز أن تنتخب المرأة أعضاء مجلس الأمة بأن البيعة عهد على السمع والطاعة وليست انتخاباً فلم يجد فيها دليلاً على جواز الانتخاب . إلا أنه لما ثبت أن مجلس الأمة للرأي ، وأن للمرأة أن توكل من تشاء بالرأي فينبغي أن لا تكون هنالك أي شبهة في جواز أن تنتخب المرأة أعضاء مجلس الأمة ، علاوة على أن البيعة ابتداء عقد مراضاة وهي اختيار للخليفة بالرضا من المتعاقدين وليست عهد طاعة فحسب ، فتكون هي والانتخاب من باب واحد هو اختيار الخليفة . فيكون للمرأة الحق في انتخاب الحاكم واختياره كما يدل على ذلك حديث بيعة النساء الثابت ، فمن باب أولى أن يجوز اختيارها لأعضاء مجلس الأمة . وأيضاً فإن بعضهم يشتبه في جواز أن تكون المرأة عضواً في مجلس الأمة لاشتباه مجلس الأمة بمجلس النواب إلا أنه لما ثبت أن مجلس الأمة غير مجلس النواب ، إذ أن مجلس الأمة للرأي ، ومجلس النواب للحكم ، فلا يشبه أحدهما الآخر ، فينبغي أن لا تكون هنالك أية شبهة في جواز أن تكون المرأة عضواً في مجلس الأمة لانتفاء اشتباه مجلس الأمة بمجلس النواب . وبذلك لا تبقى شبهة في جواز أن تكون المرأة عضواً في مجلس الأمة ، وأن تختار أعضاء مجلس الأمة إلا عند كل مكابر .

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    الردود
    5
    الجنس

    تتمه

    الجماعة الإسلامية

    قد يبدو لبعضهم أن يسأل : كيف يتأتى للمرأة أن تقوم بأعمالها التي أباحها لها الشرع ؟ مثل كونها موظفة في الدولة ، وقاضياً لفصل الخصومات ، وعضواً في مجلس الأمة تناقش الحكام وتحاسبهم ، مع هذه القيود التي وضعها عليها من عدم الخلوة ، وعدم التبرج ، ومن عيشها في حياة خاصة مع النساء والمحارم .

    وقد يبدو للبعض الآخر أن يسأل كيف يصان الخلق ؟ ويحافظ على الفضيلة ؟ إذا أبيح للمرأة أن تغشى الأسواق ، وأن تناقش الرجال ، وتقوم بالأعمال في الحياة العامة وفي المجتمع .

    وهذان السؤالان وأمثالهما من الأسئلة التشكيكية ، كثيراً ما تبدوا لأولئك وهؤلاء ، حين تعرض عليهم أحكام الشرع في النظام الاجتماعي ، لأنهم يرون واقع الحياة التي يعيشونها تحت حكم النظام الرأسمالي ، وفي ظل راية الكفر فيصعب عليهم تصور تطبيق الإسلام .

    والجواب على هذه الأسئلة هو : أن النظام الاجتماعي في الإسلام أحكام شرعية متعددة ، أخذ بعضها برقاب بعض ، ولا يعني طلب التقيد في حكم منها ترك التقيد في غيره ، بل لا بد من تقيد المسلم والمسلمة في أحكام الشرع جميعها ، حتى لا يحصل التناقض في الشخص الواحد ، فيبدو التناقض في الأحكام . فالإسلام لا يعني في إباحة الأعمال للمرأة أن تذهب إلى دائرة الدولة تعمل فيها موظفة ولو ممرضة في مستشفى ، بعد أن تكون قد أخذت زينتها ، وأعدت نفسها كأنها ستزف وهو عروس ، وتذهب تتبدى للرجال بهذه الزينة المغرية ، تهتف بهم أن تهفو شهواتهم نحوها . ولا يعنى أن تذهب إلى المتجر في مثل هذه الزينة ، تباشر البيع في حال من التطري والإغراء ، وبأسلوب من الحديث يغري المشتري أن يتمتع بمساقطتها الحديث أثناء هذه المساومة ، في سبيل أن تغلي عليه ثمن السلعة ، أو تغريه بالشراء ، ولا يعني الإسلام أن تشتغل كاتبة عند محام ، أو سكرتيرة لصاحب أعمال ، وتترك تختلي به كلما احتاج العمل إلى الخلوة ، وتلبس له من الثياب ما يكشف شعرها وصدرها ، وظهرها ، وذراعيها ، وساقيها ، وتبدي له ما يشتهي من جسمها العاري .

    كلا لا يعني الإسلام شيئاً من ذلك ، ولا أمثاله مما يحصل في هذه الجماعة التي تعيش في مجتمع غير إسلامي ، تسيطر عليه طريقة الغرب في الحياة ، وإنما يعنى الإسلام أن يطبق المسلم أحكام كلها على نفسه . فحين أباح الإسلام للمرأة أن تباشر البيع والشراء في السوق منعها من أن تخرج إليه متبرجة ، وأمرها أن تأخذ بالحكمين معاً . فالاعتقاد بالإسلام يحتم على المسلم تطبيق جميع أحكامه على نفسه . فقد شرع الإسلام أحكاماً تشتمل على القيام بأعمال إيجابية ، وأعمال سلبية ، تحفظ المسلم رجلاً كان أو امرأة من الخروج عن جادة الفضيلة ، وتكون وقاية من الانزلاق إلى النظرة الجنسية ، حين يكون في الجماعة .

    وهذه الأحكام كثيرة ، فمن الأحكام التي تشتمل على القيام بأعمال إيجابية ما يلي :

    1 - إنه قد أمر كلا من الرجل والمرأة أن يغضوا من أبصارهم ، وأن يحفظوا فروجهم ، فقال تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } وغض البصر من كل من الرجل والمرأة هو الحصانة الحقيقة لكل منهما . تلك الحصانة الذاتية التي تحول بينه وبين الوقوع في المحرمات ، لأن البصر هو الوسيلة الفعالة لذلك . ومتى غض البصر فقد منع المنكر .

    2 - أمر الرجل والمرأة بتقوى الله ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً } وقال : {واتقين الله إن الله على كل شيء شهيد} . وقال : { والعاقبة للتقوى } ، ومتى اتصف المسلم بتقوى الله ، فخاف عذابه ، أو طمع في جنته ونوال رضوانه ، فإن هذه التقوى تصرفه عن المنكر ، وتصده عن معصية الله . وهذا هو الرادع الذاتي الذي ما بعده رادع . وإذا اتصف المسلم بتقوى الله فقد اتصف بأعلى صفات الكمال .

    3 - أمر الرجل والمرأة أن يبتعدا عن مواطن الشبهات وأن يحتاطا من ذلك حتى لا يقعا في معصية الله ، وأن لا يغشيا أي مكان ، ولا يأتيا أي عمل ، ولا يتلبسا بأية حالة ، فيها شبهة حتى لا يقعا في الحرام . قال رسول الله r : " إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه . ألا وإن لكل حمى وإن حمى الله محارمه " والشبهة هنا تقع على ثلاثة أضرب :

    أحدها : أن يشتبه في الشيء هل هو حرام أو مباح ، أو في الفعل هل هو فرض أو حرام أو مكروه أو مندوب أو مباح . ووجود هذه الشبهة في وصف الشيء ، أو في حكم الفعل ، لا يجيز له أن يقدم عليه حتى يتبين حكم الله فيها ، فيقدم مطمئناً إلى ما غلب على ظنه أنه حكم الله فيه ، سواء أكان ذلك بعد اجتهاد له ، أم بعد معرفته حكم الله فيها ، إما من مجتهد ، أو من عالم بالحكم ، ولو كان مقلداً أو عامياً ، ما دام واثقاً بتقواه وعلمه في الحكم لا علمه مطلقاً .

    والثاني : أن يشتبه عليه أن يقع بالحرام من فعله المباح لمجاورته للحرام . ولكونه مظنة أن يؤدي إليه ، كوضعه مالاً أمانة في مصرف يتعامل بالربا ، أو بيعه عنباً لتاجر يملك معامل خمر ، أو تدريس فتاة درساً رتيباً أسبوعياً أو يومياً ، أو ما شاكل ذلك . فإن مثل هذه الأعمال مباحة وتجوز له أن يفعلها ولكن الأولى أن لا يفعلها تنزهاً من قبيل الورع .



    والثالث : هو اشتباه الناس بعمل مباح أنه عمل ممنوع ، فيبتعد المرء عن العمل المباح خشية أن يظن به الناس الظنون ، وذلك كمن يمر من مكان مشبوه بالفساد ، فيظن الناس به أنه فاسد ، فخشية أن يقول الناس عنه ذلك يبتعد عن المباح ، وكمن يتشدد في أن تستر زوجته أو محارمه وجوههن ، وهو يرى أن الوجه ليس بعورة ، ولكنه يتشدد خشية أن يقول الناس إن زوجة فلان أو أخته سافرة ، وهذا المعنى فيه ناحيتان :

    أحدهما : أن يكون الشيء الذي يشتبه الناس به أنه حرام أو مكروه هو بالفعل حراماً أو مكروهاً شرعاً . ومن قيام الشخص بالعمل المباح يفهم الناس أنه قام بالعمل الممنوع . ففي هذه الحالة يتقي الشخص العمل المباح خشية أن يظن الناس به ، أو يفسره لهم . " عن علي بن الحسين أن صفية بنت حيي زوج النبي r أخبرته أنها جاءت رسول الله تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة من العشاء ثم قامت تنقلب فقام معها النبي يقلبها ، حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي r مر بهما رجلان من الأنصار ، فسلما على رسول الله r ثم نفذا ، فقال لهما رسول الله r : " على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي " . قالا . سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما ما قال . قال : إن الشيطان يجري من ابن مبلغ الدم . وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما " ومعنى يقلبها يرجعها . ويفهم من هذا الحديث أن الرسول دفع الشبهة التي قد توجد عند صاحبه مع أنه عليه السلام فوق الشبهات .

    ثانيتهما : أن يكون الشيء الذي يشتبه الناس به أنه ممنوع هو في الحقيقة غير ممنوع ، ولكنه خشية أن يقول الناس عنه إنه فعل الممنوع ، يبتعد عنه لقول الناس لا لأنه ممنوع . ومثل هذا النوع من الشبهة لا يجوز الابتعاد عنه ، بل يقوم به على الوجه الذي أمر به الشرع ، ولا يحسب حساباً للناس . وقد عاتب الله الرسول على ذلك فقال تعالى : {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} مما يدل على أن المسلم إذا رأى أن الشرع لا يمنع الشيء فليفعله ولو قال الناس جميعاً إنه ممنوع .

    فهذه الشبهات التي نهى الشرع عنها إذا اتقاها الرجل والمرأة صانتهما من المعصية وجعلتهما يتصفان بالفضيلة .

    4 - حث على التبكير في الزواج حتى يبدأ حصر الصلة الجنسية للرجل والمرأة بالزواج في سن مبكرة . فينشأ على ذلك وحتى يحتاط في حصر هذه النظرة الجنسية بالزواج ، منذ بدء فوران هذه الغريزة الجنسية . قال عليه الصلاة والسلام : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " وقد سهل في أمر الزواج تسهيلاً كلياً بان حض على تقليل المهور ، قال عليه الصلاة والسلام : "أقلكن صداقاً أكثركن بركة " .

    5 - أمر أولئك الذين لم تمكنهم ظروف خاصة من الزواج أن يتصفوا بالعفة وضبط النفس قال تعالى : {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله} وأمرهم أن يصوموا علاجاً لغريزة الجنس حتى يستعان بعبادة الصوم على التغلب عليها ، وإشغال النفس فيما هو أسمى وأرفع ، وهو تقوية صلة الإنسان بالله بالطاعات ، قال عليه الصلاة وسلام : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض البصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء " وليس الصوم لكبت الغريزة الجنسية ، وإنما هو لإيجاد مفاهيم تتعلق بغريزة التدين يشغل بها الإنسان عن مفاهيم غريزة النوع ، فلا تفور حتى لا تزعجه وتؤلمه . وليس المراد من الصوم إضعاف الجسم لأن الأكل في الليل وأخذ الكمية المغذية تغني عن الأكل في النهار ، فالأضعاف في الصوم غير محقق ، ولكن المحقق هو وجود المفاهيم الروحية من صوم التطوع .

    6 - أمر النساء بالحشمة وبارتداء اللباس الكامل في الحياة العامة ، وجعل الحياة الخاصة مقصورة على النساء وعلى المحارم . ولا شك أن ظهور المرأة محتشمة جدية يحول بينها وبين النظرات المريبة ، ممن لا يتقون الله . وقد وصف القرآن هذا اللباس وصفاً دقيقاً كاملاً شاملاً . والمرأة حين تلبس هذا اللبس الكامل وتضرب بخمارها على جيبها فتلوي غطاء رأسها على عنقها وصدرها ، وحين تدني عليها جلبابها فترخي ملاءتها أو ملحفتها إلى أسفل كي تستر جميع جسمها حتى قدميها ، تكون قد لبست اللباس الكامل ، واحتاطت في لبسها ، وظهرت حشمتها ، وبهذا اللباس الكامل يمكنها أن تنزل إلى الحياة العامة لتباشر أعمالها فيها ، وهي في منتهى الحشمة والوقار ، مما يحول بينها وبين النظرات المريبة ممن لا يتقون الله .

    هذه هي الأحكام الشرعية التي تشتمل على القيام بأعمال إيجابية ، أما الأحكام الشرعية التي تشتمل على أعمال سلبية منها ما يلي :

    1 - منع كلاً من الرجل والمرأة من الخلوة بالآخر ، والخلوة هي أن يجتمع الرجل والمرأة في مكان لا يمكن أحداّ من الدخول عليهما إلا بإذنهما ، كاجتماعهما في بيت ، أو في خلاء بعيد عن الطريق والناس .

    قال في القاموس المحيط " واستخلى الملك فأخلاه وبه واستخلى به وخلا به وإليه ومعه خلواً وخلاء وخلوة سأله أن يجتمع به في خلوة ففعل " فالخلوة هي الاجتماع بين اثنين على انفراد ، يأمنان فيه وجود غيرهما معهما . وهذه الخلوة هي الفساد بعينه ولذلك منع الإسلام منعاً باتاً كل خلوة بين رجل وامرأة غير محرمين ، مهما كان هذا الشخصان ، ومهما كانت هذه الخلوة . قال عليه الصلاة والسلام : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم ، فإن ثالثهما الشيطان " . ويمنع الخلوة اتخذ الشرع الوقاية بين الرجل والمرأة . وواقع الخلوة أنها هي التي تجعل الرجل لا يعرف في المرأة غير الأنثى ، وهي التي تجعل المرأة لا تعرف في الرجل غير الذكر ، وبمنع هذه الخلوة الفردية تحسم أساب الفساد ، لأن الخلوة من الوسائل المباشرة للفساد .

    2 - منع المرأة من التبرج حين نهى عنه ، قال تعالى : { والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة } فنهى القواعد من النساء عن التبرج حين شرط عليهن في وضع الثياب التي سمح بوضعها ، أي بخلعها عنهن ، أن يكون ذلك على غير تبرج ، ومفهومه نهي عن التبرج . وإذا كانت القواعد قد نهيت عن التبرج فإن غيرهن من النساء من باب أولى . وقال تعالى : { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } فإن مثل هذا يعتبر تبرجاً . والتبرج هو إظهار الزينة والمحاسن للأجانب يقال تبرجت المرأة : أظهرت زينتها ومحاسنها للأجانب . وقد وردت عدة أحاديث في النهي عما يعتبر من التبرج . فعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله r : " أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية " أي هي كالزانية في الإثم . وقال عليه الصلاة والسلام : " صنفان من الناس لم أرهما ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات ، رؤوسهن كأسمنة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا " فهذه الأدلة كلها صريحة في النهي عن التبرج . ولذلك كان التبرج حراماً . وعليه فكل زينة غير عادية تلفت نظر الرجال ، وتظهر محاسن المرأة تكون من التبرج إذا ظهرت بها المرأة في الحياة العامة ، أو ظهرت بها في الحياة الخاصة أمام الرجال الأجانب . كالتعطر ووضع الأصباغ على الوجه ، ولبس الباروكة على الرأس دون خمار .

    وواقع التبرج أنه يدعو إلى إذكاء العواطف وإثارة غريزة النوع للاجتماع الجنسي عند الرجل والمرأة على السواء . وهو يدعو إلى تحرش الرجال بالنساء تحرشاً يجعل التقريب بينهما على أساس الذكورة والأنوثة ، ويجعل الصلة بينهما صلة جنسية ، ويفسد التعاون بينهما إفساداً يجعله تعاوناً على هدم كيان الجماعة ، لا على بنائها ، ويحول هذا التبرج بين التقريب الحقيقي الذي أساسه الطهارة والتقوى . وهذا التبرج يملأ فراغ الحياة بإشباب العواطف ، وإثارة غريزة النوع ، وما يكون للحياة إلا أن تملأ بالتبعات الجسام ، والأمور العظام ، والهموم الكبار ، لا أن تصرف إلى إشباع جوعات الجسد ، بما يثيره التبرج من هذه الجوعات ، ويحول بها بين المسلم رجلاً كان أو امرأة وبين أداء رسالته في الحياة ، وهي حمل الدعوة الإسلامية ، والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله . ولهذا كان لا بد من تقدير خطر التبرج على الجماعة الإسلامية ، وتقدير ما في التبرج تتبدى فيه الأنثى للذكر تهيجه وتهتف به ، من خطر على الجماعة وعلى صلاتها ، هذا هو التبرج الذي حرمه الإسلام ، وهذا هو واقعه ، وما فيه من خطر على الجماعة الإسلامية . أما إظهار المحاسن والزانية في البيت وفي الحياة الخاصة فلا يعتبر تبرجاً ولا ينطبق عليه لفظ التبرج .

    3 - منع الإسلام كلاً من الرجل والمرأة من مباشرة أي عمل فيه خطر على الأخلاق ، أو فساد للجماعة . فتمنع المرأة من الاشتغال في كل عمل يقصد منه استغلال أنوثتها . فعن رافع بن رفاعة قال : " نهانا r عن كسب الأمة إلا ما عملت بيديها . وقال : هكذا بأصابعه نحو الخبر والغزل والنقش " فتمنع المرأة من الاشتغال في المتاجر لجلب الزبائن ، والاشتغال بالسفارات والقنصليات وأمثاله بقصد الاستعانة بأنوثتها على الوصول إلى أهداف سياسية ، وتمنع من أن تشتغل مضيفة في طائرة ، وما شاكل ذلك من الأعمال التي تعمل فيها المرأة بقصد استخدام أنوثتها .

    4 - نهى الإسلام عن قذف المحصنات ، أي عن رميهن بالزنا ، قال تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ، وأولئك هم الفاسقون } . وقال : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم } . وقال رسول الله r : " اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " والمراد من المحصنات هنا العفائف فكل عفيفة يحرم قذفها . وفي هذا النهي عن رمي المحصنات يسكت الشرع الألسن التي تعودت أن تتحرك بالسوء ، وأن تلغ في أغراض الناس ، حتى لا تشيع قالة السوء في الجماعة الإسلامية ولا يشبع الاتهام بالباطل . وفي هذا صيانة للجماعة الإسلامية .

    فهذه الأحكام الشرعية التي تشتمل على القيام بأعمال سلبية تجعل الجماعة الإسلامية مهما حصل بينها من تعاون سائرة في هذا التعاون في حدود الطهارة والتقوى .

    وبهذا كله يمكن أن يتصور الإنسان الجماعة الإسلامية ما هي ، ويمكن أن يدرك المرأة المسلمة ما هي ، ويمكنه أن يرى أن قيام المرأة في الحياة العامة بالأعمال التي أباحها الشرع لا ينتج عنه أي فساد ، ولا يؤدي إلى أي ضرر بل هو ضروري للحياة العامة ولرقي الجماعة . ولهذا كان لا بد للمسلمين من أن يتقيدوا بأحكام الشرع ، سواء أكانوا في دار إسلام ، أم في دار كفر ، في بلاد إسلامية ، أو في بلاد غير إسلامية ، بين جماعة المسلمين أو غيرهم ، وأن يقدموا على الأعمال التي أباح الشرع للمرأة أن تقوم بها ، ولا يخشون من ذلك بأساً ، فإن في العمل بأحكام الشرع صيانة للمرأة ، وترقية للجماعة ، وإطاعة لأوامر الله ونواهيه ، فالشرع أعلم بما يصلح الإنسان فرداً أو جماعة في الحياة الخاصة والعامة .

    هذه خلاصة النظام الذي عالج به الإسلام الاجتماع الذي تنشأ عنه مشاكل ، وهو اجتماع الرجال بالنساء . ومن هذا النظام يتبين أن الأحكام الشرعية التي جاء بها كفيله في منع الفساد ، الذي قد ينشأ من هذا الاجتماع ، وفي جلب الصلاح الذي تتوفر فيه الطهارة والتقوى والجد والعمل . وهو يضمن حياة خاصة يسكن إليها الإنسان . وتهدأ نفسه ويرتاح من العناء ، ويضمن حياة عامة تكون جدية منتجة ، موفرة للجماعة ما تحتاجه في حياته من سعادة ورفاهية . وهذه الأحكام جزء من النظام الاجتماعي ، لأنها تنظم الاجتماع بين الرجل والمرأة . أما ما ينشأ عن هذه الاجتماع من علاقات ، وما يتفرع عنه من مشاكل ، فإنه جزء آخر من النظام الاجتماعي ، وهو الزواج ، والطلاق ، والبنوة ، والنفقة ، وما شاكلها . وإنه وإن كانت تلك الأحكام - أحكام الزواج والطلاق وما شاكلها - هي من أنظمة المجتمع ، لأنها تنظم علاقة الفرد بالفرد ، إلا أنها من حيث أصلها قد نشأت عن الاجتماع الذي يحصل بين المرأة والرجل ، ولذلك تبحث من حيث أصولها ونشأتها في النظام الاجتماعي . أما من حيث تفصيلاتها وتفرعاتها فإنها جزء من أنظمة المجتمع ، وتبحث في باب المعاملات .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    الردود
    5
    الجنس

    تتمه

    الزواج

    تنشأ عن اجتماع النساء والرجال علاقات تتعلق بمصالحهم ومصالح الجماعة التي يعيشعون بينها ، وهي غير المشاكل التي تنشأ من الاجتماع في المجتمع للبيع والإجارة والوكالة ونحوها . وقد يتبادر للذهن أن هذه العلاقات هي الزواج وحده ، والحقيقة أن الزواج واحد منها ، وأنها تشمل غير الزواج ، ولذلك كان الاجتماع الجنسي ليس هو المظهر الوحيد لغريزة النوع ، بل هو واحد من مظاهرها . إذ هناك مظاهر أخرى غير الاجتماع الجنسي . فالأمومة والأبوة ، والأخوة ، والبنوة ، والخؤولة ، والعمومة كلها مظاهر لغريزة النوع . ومن هنا كانت العلاقات التي تنشأ من اجتماع الرجال والنساء تشمل الأمومة والأبوة إلخ . كما تشمل الزواج . والنظام الاجتماعي يشملها كما يشمل الزواج . وقد وجاء الشرع بأحكام البنوة والأبوة والأمومة كما جاء بأحكام الزواج .

    إلا أن الزواج هو أصل هذه العلاقات وكلها تتفرع عنه ، فإذا لم يحصل الزواج لا تحصل أبوة ولا بنوة ولا أمومة ولا غيرها . ومن هنا كان الزواج أصلها ، وكانت كلها تتفرع عنه من حيث التنظيم ، وإن كان الشعور بالحاجة يندفع طبيعياً لإشباع هذه الحاجة كما يندفع الشعور بالحاجة إلى الاجتماع الجنسي . وكانت الغريزة تتطلب إشباعاً يتحرك بتحرك مظهر الأمومة أو البنوة ، كما تتطلب الإشباع بتحرك مظهر الاجتماع الجنسي سواء بسواء . لأن الزواج والأمومة إلخ .... كلها مظاهر لغريزة النوع ، ومشاعرها كلها مشاعر النوع ، ويتكون الميل من واقعها مع المفهوم في كل واحد منها ، كما يتكون الميل الآخر .

    والزواج هو تنظيم صلات الذكورة والأنوثة ، أي الاجتماع الجنسي بين الرجل والمرأة بنظام خاص . وهذا النظام الخاص هو الذي يجب أن ينظم صلات الذكورة والأنوثة بشكل معين ، وهو الذي يجب أن ينتج التناسل عنه وحده ، وهو الذي يحصل به التكاثر في النوع الإنساني . وبه توجد الأسرة وعلى أساسه يجري تنظيم الحياة الخاصة .

    وقد حث الإسلام على الزواج وأمر به ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " قال رسول الله r : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض البصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء " وعن قتادة عن الحسن عن سمرة : " أن النبي r نهى عن التبتل " ، وقرأ قتادة : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك ، وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } . ومعنى التبتل الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة . وعن أبي هريرة عن النبي r أنه قال : " ثلاثة حق على الله إعانتهن ، المجاهد في سبيل الله ، والناكح يريد أن يستعف ، والمكاتب يريد الأداء " . وقال عليه السلام " لا رهبانية في الإسلام " ، والرهبانية والتبتل هو الانقطاع عن النساء ، وترك النكاح اشتغالاً بعبادة الله تعالى . وقد جاء القرآن صريحاً في الأمر بالزواج قال تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } وقال : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } .

    وقد حث الإسلام على الزواج بالمرأة البكر ، وبالولود ، وبذات الدين . عن أنس أن النبي r كان يأمر بالباءة ونهى عن التبتل نهياً شديداً ، يقول : " تزوجوا الولود ، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة " وعن معقل بن سيار قال : " جاء رجل إلى النبي فقال : إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال ، وإنها لا تلد ، فأتزوجها ؟ قال : لا . ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة فقال : " تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم " . وعن جابر أن النبي r قال له : " يا جابر تزوجت بكراً أم ثيباً ؟ قال ثيباً ، فقال : " هلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك " وعن أبي هريرة عن النبي r قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك " فيندب للرجل أن يختار من النساء البكر ، والمعروفة أنها ولود من معرفة أمها وخالاتها وعماتها ، وأن يختار ذات الدين ، وأن يختارها جميلة لتعف نفسه ، وأن تكون ذات حسب ونسب ، يعني عريقة في الفضل والتقوى والمجد ، ولكن ليس معنى ذلك أن هذا شرط ، وإنما هو استحباب وأفضلية ، وإلا فللرجل أن يختار الزوجة التي يرضاها ، وللمرأة أن تختار الزوج الذي ترضاه .

    وأما الكفاءة بين الزوج والزوجة فلا أصل لها في الشرع ، ولم ترد إلا في الأحاديث المكذوبة . والقرآن الكريم يعارضها ، وكذلك الأحاديث الصحيحة . فكل مسلمة كفء لأي مسلم ، وكل مسلم كفء لآية مسلم ، ولا قيمة للفوارق بين المرأة والرجل في المال ، أو الصنعة ، أو الحسب أو غير ذلك . فأبن الزبال كفء لبنت أمير المؤمنين ، وبنت الحلاق كفء لابن الأمير ، وهكذا يكون المسلمين أكفاء لبعض . قال الله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } . وقد زوج النبي r بنت عمته زينب بنت جحش التي هي من ذؤابة قريش إلى زيد بن حارثة وهو مولى قد أعتق . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : " جاءت فتاة إلى رسول الله r فقالت : إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته . قال فجعل الأمر إليها فقالت قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء : . ومعنى قولها ليرفع بي خسيسته يعني أنه ليرفع شأن ابن أخيه لتزويجه مني . وهذا يعني أنه تزوجها على غير رضاها ، لأنها لا تراه أهلاً لزواجها ، لا لأنه غير كفء فهو ابن عمها بل لعدم رضاها . وعن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله r " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . قالوا يا رسول الله وإن كان فيه ؟ قال :" إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه ثلاث مرات " . وقد أخرج الترمذي أيضاً هذا الحديث من حديث أبي هريرة ولفظه قال : قال رسول الله r : " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه . إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " . وروي من طرق أخرى أيضاً . وعن أبي هريرة أن أبا هند حجم النبي r في اليافوخ ، فقال النبي r : " يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه " وعن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن أمه قالت : " رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال " . فهذه الأدلة كلها صريحة بأن الكفاءة بين الزوجين غير معتبرة ولا قيمة لها ، فكل من رضيت رجلاً بعلاً لها فإنها تزوجه برضاها ، وكل من رضي امرأة زوجة له فإنه يتزوجها برضاه ، دون نظر إلى اعتبار الكفاءة . وأما ما روي عن ابن عمر أن النبي r قال : " العرب أكفاء بعضهم لبعض قبيلة لقبيلة ، وحي لحي ، ورجل لرجل ، إلا حائك وحجام " فهذا الحديث كذب لا أصل له وهو باطل قال ابن أبي حاتم سألت أبي عن هذا الحديث فقال : منكر . وقال ابن عبد البر هذا الحديث منكر موضوع . وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ " العرب بعضهم أكفاء بعض ، والموالي بعضهم أكفاء بعض " فإسناده ضعيف . وأما حديث بريرة وهو " أن النبي r قال لبريرة لما عتقت قد عتق بعضك معك فاختاري " فإنه لا يدل على الكفاءة . لأن زوجها كان عبداً ، والأمة المتزوجة من عبد إذا أصبحت حرة تخير بن بقائها على ذمة العبد ، أو أن تفسخ نكاحها . ولا دلالة فيه على الكفاءة . والدليل على أن زوج بريرة كان عبداً ما روي عن القاسم عن عائشة أن بريرة كانت تحت عبد فلما أعتقتها قال لها رسول الله r " اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد ، وإن شئت أن تفارقيه " . وما روي في مسلم عن عروة عن عائشة " أن بريرة أعتقت وكان زوجها عبداً فخيرها رسول الله r ولو كان حراً لم يخيرها . وأما ما روي أن النبي r قال : " لا تنكحوا النساء إلا من الأكفاء ، ولا تزوجوهن إلا من الأولياء : " فهو ضعيف لا اصل له .

    وبهذا يتبين أنه لا يوجد نص يدل على الكفاءة ، وأن النصوص التي استدل بها من قال بالكفاءة نصوص باطلة ، أو لا وجه الاستدلال بها . واشتراط الكفاءة يعارض قول الرسول r " " لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى " ويعارض نص القرآن القطعي { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .

    وأما اختلاف الدين فليس هو بحث كفاءة ، وإنما هو بحث في تزوج المسلمين من غير المسلمين ، وهو بحث آخر . وبيانه أن الله سبحانه وتعالى أجاز للمسلم أن يتزوج المرأة الكتابية : يهودية ، أو نصرانية ، لأن الله تعالى يقول : { اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وطعامكم حل لهم ، والمحصنات من المؤمنات ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } فالآية صريحة في أن المحصنات من الذين أوتوا الكتاب حلال للمسلمين ، وأجورهن مهورهن ، ويجوز للرجل المسلم أن يتزوج المرأة الكتابية ، عملاً بهذه الآية . إذ ذكرت أن المحصنات من الذين أوتوا الكتاب حل للمسلمين ، أي زواجهن حل لكم . وأما تزوج المسلمة من الرجل الكتابي فحرام شرعاً ، ولا يجوز مطلقاً ، وإذا حصل فهو نكاح باطل لا ينعقد . وتحريم تزوج المسلمة بالرجل الكتابي ثابت بصريح القرآن قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ، ولا هم يحلون لهن } وهذا نص لا يحتمل إلا معنى واحداً ليس غير ، وهو أن المسلمة لا تحل للكفار ، وأن الكفار لا يحلون للمسلمات . وأن كفر الزوج لا يجعل النكاح ينعقد بينه وبين المرأة المسلمة ، قال تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ، ولا هم يحلون لهن } وعبر بكلمة الكفار ، ولم يعبر بكلمة المشركين ، للتعميم على كل كافر ، سواء أكان مشركاً أم من أهل الكتاب . وأما كون أهل الكتاب النصارى واليهود كفاراً فهو ثابت بنص القرآن ، قال تعالى : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ، ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } ومن هنا للبيان وليست للتبعيض . وقال تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ، ويقولون نؤمن ببعض ، ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً ، أولئك هم الكافرون حقاً ، وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناُ } وأهل الكتاب لا يؤمنون برسالة محمد r فهم كفار . وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } ، وقال : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } وقال : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } ومن هنا للبيان ولست للتبعيض وقال : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } ومن أيضاً للبيان وليست للتبعيض . وقال : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } وقال : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } وبهذه الآيات يظهر أن أهل الكتاب كفار بصريح القرآن ، وأن كلمة كفار تشملهم . وعلى ذلك فيكن قوله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } صريح في أنه لا يجوز للمسلمة أن تتزوج رجلاً من أهل الكتاب مطلقاً ، لأن أهل الكتاب من الكفار إطلاقاً .

    وأما المشركون وهم غير أهل الكتاب ، كالمجوس والصابئة والبوذيين والوثنيين وأمثالهم ، فإنه لا يجوز التزوج منهم إطلاقاً ، فلا يجوز للمسلم أن يتزوج مشركة مطلقاً ، ولا يجوز للمسلمة أن تتزوج مشركاً مطلقاً ، وهذا وارد في صريح نص القرآن القطعي قال تعالى : { ولا تكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم . ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } ولا تحتمل هذه الآية إلا معنى واحداً هو تحريم نكاح المشركة على المسلم ، والمشرك على المسلمة تحريماً قاطعاً ، وإذا وقع مثل هذا النكاح يكون باطلاً لا ينعقد . عن الحسن بن محمد قال : " كتب رسول الله r إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام فمن أسلم قبل منه ، ومن لا ضربت عليه الجزية في أن لا تؤكل ذبيحة ولا تنكح له امرأة " .

    وبهذا يكون الشرع لم يكتف بالحث على الزواج والترغيب فيه بل من يجوز للمعلم أن يتزوجها وبين من يجوز للمسلمة أن تتزوجه ، ومن يحرم عليهما تزوجه ، وبين الصفات التي يستحسن لمن يريد الزواج أن يبحث عنها في زوجه ، إلا أنه يشترط أن لا تكون المرأة زوجة لغيره ، أو معتدة له ، لأن شرط الزواج خلو الزوجة من الزواج والعدة .

    أما المخطوبة التي لم يجر عقد نكاحها بعد ، فإنه ينظر فيها ، فإن كانت قد أجابت الخاطب إلى خطبته هي أو وليها ، أو أذنت لوليها في إجابته أو تزويجه ، سواء أكان ذلك صراحة أم تعريضاً ، فهذه يحرم على غير خاطبها خطبتها ، لما روي عن عقبة بن عامر أن رسول الله r قال : " المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر " . وعن أبي هريرة عن النبي r قال : " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك " . أما إذا كانت المخطوبة قد ردت الخاطب أو لم تجبه بعد ، أو أخذت تبحث عنه ، فإنه يجوز حينئذ للرجل أن يخطبها ، ولا تعتبر مخطوبة لأحد ، لما روت فاطمة بنت قيس أنها أتت النبي r فذكرت أن معاوية وأبا جهم خطباها فقال رسول الله r : " أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، انكحي أسامة بن زيد " فخطبها النبي r لأسامة بعد إخبارها إياه بخطبة معاوية وأبي جهم لها .

    وإذا خطبت المرأة فإن له وحدها الحق في قبول الزواج أو فضه ، وليس لأحد من أوليائها ، ولا من غيرهم تزويجها بغير إذنها ، ولا منعها من الزواج . فقد روي عن ابن عباس قال : قال رسول الله r " الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها " أي سكوتها . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله r : " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا البكر حتى تستأذن ، قالوا يا رسول الله وكيف أذنها قال : " أن تسكت " ، وعن ابن عباس " إن جارية بكراً أتت رسول الله r فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي r " . وعن خنساء بنت خذام الأنصارية " أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت النبي r فرد نكاحها " فهذه الأحاديث صريحة بأن المرأة إذا لم تأذن بزواجها لا يتم الزواج ، وإذا رفضت هذا الزواج أو زوجت كرهاً عنها فسخ العقد إلا إذا عادت ورضيت .

    وأما النهي عن منع المرأة من التزوج إذا جاءها خاطب فهو ثابت بالقرآن قال تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } . وثابت بالحديث الصحيح عن معقل بن يسار قال : " زوجت أختاً لي من رجل فطلقها ، حتى إذا انتقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له : زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ، ثم جئت تخطبها ، لا والله لا تعود إليك أبداً ، وكان رجلاً لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه . فأنزل الله تعالى هذه الآية : {فلا تعضلوهن} فقلت الآن أفعل يا رسول الله قال فزوجها إياه " وفي رواية قال : " فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه " . ومعنى العضل منع المرأة من التزويج إذا طلبت ذلك ، وهو حرام وفاعله فاسق ، فكل من يمنع امرأة من الزواج يفسق بعمله هذا . وقد نص الفقهاء على أن الرجل يفسق بالعضل . ومتى خطبت المرأة للزواج ، أو طلبت الزواج فإن لها وحدها أن تتصرف وأن توافق أو ترفض .

    ومتى تم الاتفاق بين الرجل والمرأة على الزواج فإن عليهما أن يجريا عقد الزواج فلا يتم الزواج إلا بعقد شرعي . وهذا الزواج لا يكون زواجاً إلا بعقد شرعي قد جرى وفق الأحكام الشرعية حتى يحل لأحدهما التمتع بالآخر ، وحتى تترتب عليه الأحكام التي تترتب على الزواج . وما لم يحصل هذا العقد لا يكون زواجاً ، ولو تعاشر الرجل والمرأة مدة طويلة . ومن هنا كان اجتماع الخليلين كما يجتمع الزوجان لا يعتبر زواجاً . وإنما يعتبر زنا وكان اجتماع الرجلين باتفاق على المعاشرة لا يعتبر زواجاً ، وإنما يعتبر لواطاً .

    أما الزواج المدني فإنه اتفاقية تعقد بين رجل وامرأة على المعاشرة ، وعلى الطلاق ، وعلى ما يترتب على ذلك من نفقة وتصرف ، وخروج من البيت ، وطاعتها له وطاعته لها ، وما شابه ذلك ، ومن بنوة ، ولمن يكون الابن ، ولمن تكون البنت ، وما شاكل ذلك ، ومن إرث ونسب ، وغير ذلك مما يترتب على المعاشرة ، أو ترك المعاشرة . حسب شروط يتفقان عليها ويلتزمان بالتزامها . فالزواج المدني ليس اتفاقية زواج فحسب ، بل هي اتفاقية شاملة للزواج ، وما يترتب على هذا الزواج من نسب ونفقة وإرث ، وغير ذلك ، وشاملة للحالات التي يجوز لهما أو لأي منهما ترك الآخر ، أي شاملة للطلاق وفوق ذلك ، فهو يطلق لكل رجل أن يتزوج أي امرأة ، ولأي امرأة أن تتزوج أي رجل ، حسب الاتفاقية التي يتراضيان عليها في كل شيء يريدانه حسب اتفاقهما . ومن هنا كان هذا الزواج المدني غير جائز شرعاً ، ولا ينظر إليه بوصفه اتفاقية زواج مطلقاً ، ولا يعتبر عقد نكاح ، لأنه لا قيمة له شرعاً .

    وإذا حصل عقد زواج مدني بين مسلم ومسلمة ، أو بين مسلم وكتابية ، فإنه ينظر إلى الألفاظ التي حصلت بين الرجل والمرأة شفاهاً أو كتابة ، فإن وجدت بينهما ألفاظ التزويج والانكاح ، ووجد الإيجاب والقبول منهما ، واستوفى ما يجب في الإيجاب والقبول شرعاً ، ووجد الولي ووجد الشاهدان على حصول كان زواجاً ، بهذه الألفاظ على هذا الوجه ، لأنه عقد يستكمل صفات العقد الشرعي وشروطه . فهو زواج بالعقد الشرعي ، لا بالاتفاق المدني . وإن لم يوجد بينهما جميع ما يجب وجوده في عقد الزواج الشرعي لا يعتبر زواجاً . وأما الشروط التي تتضمنها اتفاقية الزواج المدني فلا قيمة لها مطلقاً حتى ولو وافقت الشرع . لأن وجوب العمل بالأحكام التي جاء بها الشرع لا يأتي من الاتفاق عليها بين الرجل والمرأة ، بل يأتي من عقد الزواج ، ومن حكم الشرع الذي بينه . ولذلك لا تعتبر الشروط التي تتضمنها الاتفاقية المدنية للزواج . وأما إن كانت مخالفة للشرع فبطلانها ظاهر . وإذا كانت هذه الشروط مما أجاز الشرع لأحد الزوجين اشتراطها بأن لم تكن مخالفة للشرع ولا منافية لمقتضى العقد ، فإنها تكون معتبرة إذا اعتبر عقد الزواج بينهما ، أما إن حصل عقد زواج مدني بين مسلم ومشركة ، أو من تعامل معاملة المشركين ، أو حصل بين مسلمة وغير مسلم ، فإن الزواج حينئذ يكون باطلاً ولا ينعقد . ومن ذلك يتبين أنه يجب أن يتم الزواج بعقد نكاح صحيح شرعي مستوف جميع شرائطه الشرعية ، فإن لم يتم بذلك لا يكون زواجاً مطلقاً .

    وينعقد الزواج بإيجاب وقبول شرعيين . فالإيجاب هو ما صدر أولاً من كلام أحد العاقدين ، والقبول ما صدر ثانياً من كلام العاقد الآخر . كأن تقول المخطوبة للخاطب زوجتك نفسي . فيقول الخاطب : قبلت . أو كأن يقول العكس . وكما يكون الإيجاب والقبول بين الخاطبين مباشرة يصح أن يكون بين وكيليهما ، أو بين أحدهما ووكيل الآخر . ويشترط في الإيجاب أن يكون بلفظ التزويج والانكاح ، ولا يشترط ذلك في القبول ، بل الشرط رضا الآخر بهذا الإيجاب ، بأي لفظ يشعر بالرضا والقبول بالزواج ، ولا بد أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ الماضي ، كزوجت وقبلت ، أو أحدهما بلفظ الماضي والآخر بلفظ المستقبل ، لأن الزواج عقد ، فلا بد أن يستعمل فيه لفظ ينبئ عن الثبوت وهو الماضي . ويشترط لانعقاد أربعة شروط :

    الأول - اتحاد مجلس الإيجاب والقبول ، بأن يكون المجلس الذي صدر فيه الإيجاب هو بعينه المجلس الذي صدر فيه القبول . هذا إذا كان العاقدان حاضرين ، فإن كان أحدهما في بلد والآخر في بلد آخر ، وكتب أحدهما كتاباً للآخر موجباً الزواج ، فقبل المكتوب إليه ، انعقد الزواج . ولكن يشترط في هذه الحالة أن تقرأ أو تقرئ الكتاب على الشاهدين ، وتسمعهما عبارته ، أو تقول لهما فلان بعث إلى يخطبني ، وتشهدهما في المجلس أنها زوجت نفسها منه .

    والشرط الثاني من شروط الانعقاد أن يسمع كل من العاقدين كلام الآخر ، وأن يفهمه ، بأن يعلم أنه يريد عقد الزواج بهذه العبارة . فإن لم يعلم ذلك بأن لم يسمع أو لم يفهم ، كما إذا لقن رجل امرأة معنى زوجتك نفسي بالفرنسية مثلاً ، وهي لا تفهمها ، وقالت اللفظ الذي لقنته لها دون أن تفهمه وقبل هو ، دون أن تعلم أن الغرض مما تقول عقد الزواج ، فإنه لا ينعقد الزواج . وإن كانت تعلم أن الغرض مما تقول عقد الزواج فقد صح .

    الشرط الثالث - عدم مخالفة القبول للإيجاب سواء أكانت المخالفة في كل الإيجاب أو بعضه .

    الشرط الرابع - أن يكون الشرع قد أباح تزوج أحد العاقدين بالآخر ، بأن كانت المرأة مسلمة أو كتابية ، وكان الرجل مسلماً ليس غير .

    فإذا استكمل العقد هذه الشروط الأربعة انعقد الزواج ، وإذا لم يستكمل واحداً منها لم ينعقد الزواج ، وكان باطلاً من أساسه . وإذا انعقد الزواج فلا بد لصحة الزواج أن يستكمل شروط صحته . وهي ثلاثة شروط :

    الأول : أن تكون المرأة محلاً لعقد الزواج .

    والثاني : أن النكاح لا يصح إلا بولي ، فلا تملك المرأة أن تزوج نفسها ، ولا أن تزوج غيرها ، كما أنها لا تملك توكيل غير وليها في تزويجها ، فإن فعلت لم يصح نكاحها .

    والثالث : حضور شاهدين مسلمين بالغين عاقلين سامعين لكلام العاقدين فاهمين أن الغرض من الكلام الذي حصل به الإيجاب والقبول هو عقد الزواج . فإذا استكمل العقد هذه الشروط كان صحيحاً ، وإن نقص واحداً منها كان نكاحاً فاسداً . إلا أنه لا يشترط في عقد الزواج أن يكون مكتوباً ، أو أن تسجل به وثيقة ، بل مجرد حصول الإيجاب والقبول من الرجل والمرأة شفاهاً أو كتابة مستوفياً جميع الشروط يجعل عقد الزواج صحيحاً سواء كتب أو لم يكتب . أما كون الزواج لا يتم إلا بإيجاب وقبول فلأنه عقد بين اثنين .

    وواقع العقد أنه لا يتم ولا يكون عقداً إلا بالإيجاب والقبول ، وأما كونه يشترط في الإيجاب لفظ الزواج والانكاح فلأن النص ورد في ذلك ، قال تعالى : { زوجناكها } وقال : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } ولأن إجماع الصحابة انعقد على ذلك . أما اشتراط اتحاد مجلس الإيجاب والقبول فلأن حكم المجلس حكم حالة العقد ، فإن تفرقا قبل القبول بطل الإيجاب ، إذ أنه لا يوجد معنى القبول ، فإن الأعراض قد وجد من جهته بالتفرق ، فلا يكون قبولاً . وكذلك إن تشاغلا عنه بما يقطعه ، لأنه معرض عن العقد أيضاً بالاشتغال عن قبوله . وأما شرط سماع أحد العاقدين كلام الآخر ، وفهمه له أي علمه بأنه يريد عقد الزواج بهذه العبارة ، فلأن ذلك هو الذي يجعل القبول جواباً للإيجاب ، ولأن الإيجاب خطاب من أحد العاقدين لقبول الآخر ، فإذا لم يعلمه لم يحصل خطاب له ، ولم يحصل قبول على الخطاب ، فيكون واقعه ليس إيجاباً ولا قبولاً . وأما عدم مخالفة الإيجاب للقبول فإنه لا يكون قبولاً إلا إذا كان دالاً على التسليم بجميع الإيجاب ، فإذا اختلف كان غير مسلم بما ورد في الإيجاب ، فلا يكون قبولاً . وأما كون الشرع لا بد من أن يكون قد أباح تزوج أحد العاقدين بالآخر ، فلأنه إذا ورد نهي من الشرع عن عقد لم تجز مباشرة ذلك العقد .

    هذا بالنسبة لانعقاد العقد ، أما بالنسبة لصحته فإن الشرع إذا لم يرد به نهي عن العقد تم العقد ، ولكن إذا ورد نهي عن إجراء العقد على معين فسد العقد عليه ، ولم يبطل . وأما اشتراط كون المرأة محلاً لعقد الزواج فلأن الشرع قد حرم زواج بعض النساء وحرم الجمع بين بعض النساء ، فإذا ورد العقد على من حرم من إجراء العقد عليها ، لم يصح العقد ، وأما كون النكاح لا يصح إلا بولي فلما روى أبو موسى عن النبي r قوله : " لا نكاح إلا بولي " وأما كون المرأة لا تملك تزويج نفسها ، ولا غيرها ، ولا تملك توكيل غير وليها في تزويجها فلما روي عن عائشة أن النبي r قال : " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل " ولما روى أبو هريرة عن النبي r قال : " لا تزوج المرأة المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " وأما اشتراط وجود شاهدين مسلمين فلأن القرآن قد شرط الشاهدين المسلمين في إرجاع المطلقة طلاقاً رجعياً إلى زوجية زوجها ، قال تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم } قال الحسن : أي مسلمين . فإذا كانت الرجعة وهي استدامة عقد النكاح يشترط فيها شاهدان مسلمان ، فإن إنشاء الزوجية أي إنشاء عقد النكاح أولى أن يشترط فيه شاهدان ، فوق كون عقد النكاح واستدامة عقد النكاح هما من باب واحد فهما كالحكم الواحد .




    المحرمات من النساء

    والمحرمات نكاحهن من النساء قد ذكر تحريمهن صراحة في الكتاب والسنة . والأصل في ذلك الكتاب والسنة ، فأما الكتاب فقول الله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } وقال : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً ، والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلك }. وأما السنة فروى أبو هريرة عن رسول الله r أنه قال : " لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها ، ولا بينها وبين خالتها " وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها . قالت قال رسول الله r " إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " .

    فيحرم نكاح الأمهات مطلقاً ، وهن كل من انتسبت إليها بولادة ، سواء وقع عليها اسم الأم حقيقة وهي التي ولدتك ، أو مجازاً وهي التي ولدت من ولدك وإن علت . من ذلك جدتاك أم أمك وأم أبيك ، وجدتا أمك وجدتا أبيك ، وجدات جدتك وجدات أجدادك وإن علوا ، وارثات كن أو غير وارثات كلهن أمهات محرمات .

    ويحرم نكاح البنات مطلقاً وهي كل أنثى انتسبت إليك بولادتك ، كابنة الصلب ، وبنات البنين والبنات وإن نزلت درجتهن ، وارثات أو غير وارثات كلهن بنات محرمات .

    ويحرم نكاح الأخوات مطلقاً من الجهات الثلاث من الأبوين ، أو من الأب ، أو من الأم .

    ويحرم نكاح العمات أخوات لأب من الجهات الثلاث ، وأخوات الأجداد من قبل الأب ومن قبل الأم ، قريباً كان الجد أو بعيداً ، وارثاً أو غير وارث .

    ويحرم نكاح الخالات أخوات الأم من الجهات الثلاث ، وأخوات الجدات وإن علون ، لأن كل جدة أم فكذلك كل أخت لجدة خالة محرمة .

    ويحرم نكاح بنات الأخ ، وكل امرأة انتسبت إلى أخ بولادة فهي بنت أخ محرمة ، من آية جهة كان الأخ ، وبنات الأخت كذلك أيضاً محرمات .

    ويحرم نكاح الأمهات المرضعات ، وهن اللاتي أرضعنك ، وأمهاتهن وجداتهن وإن علت درجتهن ، على حسب ما ذكر في النسب . وكل امرأة أرضعتك أمها ، أو أرضعتها أمك ، أو أرضعتك وإياها امرأة واحدة ، أو ارتضعت أنت وإياها من لبن رجل واحد ، ولو تعددت المرضعة ، فهي أختك محرمة عليك .

    ويحرم نكاح أمهات النساء ، فمن تزوج امرأة حرم عليه كل أم لها من نسب أو رضاع ، قريبة أو بعيدة ، بمجرد العقد ، سواء دخل بها ، أو لم يدخل لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي r قال : " من تزوج امرأة فطلقها قبل أن دخل بها لا بأس أن يتزوج ربيبته ولا يحل له أن يتزوج أمها " .

    ويحرم نكاح بنات النساء اللاتي دخل بهن ، وهن الربائب فلا يحرمن إلا بالدخول بأمهاتهن ، وهن كل بنت للزوجة من نسب أو رضاع ، أو قريبة أو بعيدة ، وارثة أو غير وارثة على حسب ما ذكر في البنات ، إذا دخل بالأم حرمت عليه سواء أكانت في حجره أم لم تكن . لأن ذكر { اللاتي في حجوركم } وصف لها بغالب حالها ، ولم تخرج مخرج الشرط ، أما ذكر { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } فإنها تخرج مخرج الشرط لصريح ما جاء بعدها { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } ، ولذلك إن لم يدخل بالمرأة فلا يحرم نكاح بنتها .

    ويحرم نكاح أزواج الأبناء مطلقاً ، أي يحرم على الرجل أزواج أبنائه ، وأبناء بناته من نسب أو رضاع ، قريباً كان أو بعيداً بمجرد العقد سواء دخل بها أم لم يدخل .

    ويحرم نكاح زوجات الأب ، فتحرم على الرجل زوجة أبيه قريباً كان أو بعيداً ، وارثاً أو غير وارث من نسب أو رضاع . فقد روى النسائي أن البراء بن عازب قال : " لقيت خالي ومعه الراية فقلت أين تريد قال : " أرسلني رسول الله r إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن اضرب عنقه أو أقتله " .

    ويحرم الجمع بين الأختين ، سواء أكانتا من نسب أو رضاع ، من أبوين كانتا أو من أب أو أم ، سواء في هذا ما قبل الدخول أو بعده ، فإن تزوجهما في عقد واحد فسد العقد .

    ويحرم الجمع بين المرأة وبين عمتها ، وبين المرأة وبين خالتها ، لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله r : " لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها ، ولا بين المرأة وخالتها " . وفي رواية أبي داود : " لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا العمة على بنت أخيها ، ولا المرة على خالتها ، ولا الخالة على بنت أختها ، لا تنكح الكبرى على الصغرى ، ولا الصغرى على الكبرى " .

    ويحرم نكاح ذوات الأزواج ، وسماهن الله المحصنات لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج .

    ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، فكل امرأة حرمت من النسب حرم مثلها من الرضاع ، وهن الأمهات والبنات ، والأخوات والعمات والخالات ، وبنات الأخت على الوجه المبني في تحريم النسب ، لقول النبي r : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وفي رواية مسلم " الرضاع يحرم ما تحرم الولادة " ، وروت عائشة رضي الله عنها : " إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما نزل الحجاب ، فقلت والله لا أذن له حتى استأذن رسول الله r ، فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فدخل علي رسول الله r فقلت : يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأته قال : آذني له فإنه عمك تربت يمينك " والمحرم في الرضاع إنما هو اللبن ، فصاحب اللبن الذي رضعه الشخص يصبح حراماً هو ومن رضع منه ، سواء أكان صاحب اللبن رجلاً أو امرأة وسواء أكان من رضع منه إبناً لم أرضعه ، أو لم يكن إبناً له ، ومن هنا يحل للشخص أخت أخيه من الرضاع ، ولا يحل له أخوه من الرضاع ، ولا أخته من الرضاع ، فلو كان رضع من امرأة شخص فإن هذه المرأة أصبحت أمه من الرضاع ، وزوجها أبوه من الرضاع ، وأولادهما أخوته من الرضاع ، ولكن أخوات الشخص الذي وضع ليس أخوة لأخواته من الرضاع ، فيجوز لهم أن يتزوجوا أخوات أخيهم من الرضاع . فالمحرم هو اللبن ليس غير .

    هذه هي النساء التي يحرم نكاحهن ، وما عدا ذلك فلا يحرم نكاحهن لقوله تعالى : { وأحل لكم ما رواء ذلكم } إلا ما سبق بيان تحريمه من المشركات والمتزوجات .




    تعدد الزوجات

    قال الله تعالى في كتابه العزيز : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا } . نزلت هذه الآية على النبي r في السنة الثامنة للهجرة . وكان نزولها لتحديد عدد الزوجات بأربع ، وقد كان إلى حين نزولها لا حد له . ومن تلاوتها وتفهمها يتبين أنها نزلت لتحديد عدد الزوجات بأربع . ومعنى الآية تزوجوا ما حل لكم ولذ من النساء ، اثنتين وثلاثاً وأربعاً . ومثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة ، أي فانكحوا الطيبات لكم من معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً وأربعاً ، والخطاب للجميع ، ولذلك وجب التكرير ليصب كل ناكح يريد أن يتزوج عدة نساء ما أراده من العدد ، على شرط أن يكون الجمع من الذي يريده ، محصوراً في هذا العدد . أي ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له ، كما نقول للجماعة اقتسموا هذا المال ، وليكن ألف دينار مثلاً . نقول اقتسموا دينارين دينارين ، وثلاثة دنانير ، ثلاثة دنانير ، وأربعة دنانير وأربعة دنانير ، ولو أفردت قولك هذا لم يكن له معنى ، فكان التعبير بمثنى وثلاث ورباع حتمياً حتى يصيب كل واحد ما يريد من العدد المعين في التعبير . فالله تعالى يقول يتزوج كل منكم الطيبات لكم من النساء ، ثنتين وثلاثاً وأربعاً . وهذا يعني تزوجوا كلكم ثنتين ثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً . أي يتزوج كل واحد منكم ثنتين ، وثلاثاً ، وأربعاً ، وأما معنى قوله { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } هو إن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد فاختاروا واحدة ، وذروا الجمع رأساً ، فإن الأمر كله يدور مع العدل . فأينما وجدتم العدل فعليكم به ، وكونكم تختارون واحدة هو أقرب لعدم الجور . فمعنى أدنى ألا تعولوا أي أقرب أن لا تجوروا ، لأن العول هنا الجور ، يقال عال الحاكم إذا جار ، وروت عائشة رضي عنها عن النبي r " أن لا تعولوا : أن لا تجوروا " .

    والآية تبيح تعدد الزوجات وتحدده بأربع ، ولكنها تأمر بالعدل بينهن ، وترغب في الاقتصار على الواحدة في حالة الخوف من عدم العدل ، لأن الاقتصار على الواحدة في حالة الخوف من عدم العدل ، أقرب إلى عدم الجور ، وهو ما يجب أن يتصف به السلم .

    إلا أنه يجب أن يعلم أن العدل هنا ليس شرطاً في إباحة تعدد الزوجات وإنما هو حكم لوضع الرجل الذي يتزوج عدداً من النساء ، في ما يجب أن يكون عليه في حالة التعدد ، وترغيب في الاقتصار على الواحدة في حالة الخوف من عدم العدل ، وذلك أن معنى الجملة قد تم في الآية في قوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } وهذا معناه جواز حصول التعدد مطلقاً ، وقد انتهى معنى الجملة ثم استأنف جملة أخرى ، وكلاما آخر فقال : { فإن خفتم } ولا يتأتى أن يكون { فإن خفتم } شرطاً لأنها لم تتصل بالجملة الأولى اتصال الشرط . بل هي كلام مستأنف ، ولو أراد أن تكون شرطاً لقال فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع إن عدلتم . وذلك لم يكن فثبت أن العدل ليس شرطاً ، وإنما هو حكم شرعي آخر غير الحكم الأول . فإنه أولاً أباح تعدد الزوجات بأربع ثم جاء بحكم آخر وهو أن الأولى الاقتصار على واحدة إذا رأى أن تزوجه بأكثر من واحدة يجعله لا يعدل بينهن .

    ومن ذلك يتبين أن الله تعالى أباح التعدد دون قيد ولا شرط ، ودون أي تعليل ، بل لكل مسلم أن يتزوج اثنتين ، وثلاثاً وأربعاً ، مما يطيب له من النساء ، ولهذا نجد الله يقول : { ما طاب لكم } أي ما وجدتموه من الطيبات لكم ، ويتبين أن الله قد أمرنا بالعدل بين النساء ، ورغبنا في حالة خوف الوقوع في الجور بين النساء أن نقتصر على واحدة ، لأن الاقتصار على واحدة أقرب إلى عدم الجور .

    أما ما هو العدل المطلوب بين الزوجات فإنه ليس العدل المطلق ، وإنما هو العدل في الزوجية بين النساء الذي يدخل في طوق البشر أن يقوموا به ، لأن الله لا يكلف الإنسان إلا ما يطيق ، قال تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ثم إن كلمة تعدلوا وردت في الآية عامة فقال : { فإن خفتم ألا تعدلوا } فهو يعم كل عدل ، ولكن هذا التعميم خصص فيما يستطيعه الإنسان بآية أخرى فقال تعالى : { ولن تستطيوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ، فلا تميلوا كل الميل ، فتذروها كالمعلقة } فإن الله بين في الآية أنه محال أن تستطيع العدل بين النساء والتسوية ، حتى لا يقع ميل البتة ، ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن ، فرفع لذلك عنكم تمام العدل وغايته ، وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون ، شرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم ، لأن تكليف ما لا يستطاع داخل في حدود الظلم { ولا يظلم ربك أحداً } وقوله تعالى : { فلا تميلوا كل الميل } تعليقاً على قوله : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا } وتعقيباً عليه ، دليل على أن معناه لن تستطيعوا أن تعدلوا في المحبة ، ومفهومه استطاعة العدل في غير المحبة ، وهو ما يجب في الآية السابقة فيكون خصص العدل المطلوب في غير المحبة واستثنيت من العدل المحبة والجماع ، إنه لا يجب فيهما العدل . لأن الإنسان لا يستطيع أن يعدل في محبته ، ويؤيد هذا المعنى ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " كان رسول الله r يقسم فيعدل ويقول : اللهم إن هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ، يعني قلبه . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } قال في الحب والجماع . وقد أمر الله تعالى اجتناب كل الميل ، ومعنى ذلك أنه أباح الميل ، لأن مفهوم النهي عن كل الميل إباحة الميل . كالنهي عن كل البسط في قوله تعالى : { ولا تبسطها كل البسط } معناه إباحة البسط . وعلى ذلك يكون الله قد أباح للزوج الميل لبعض نسائه دون البعض ، ولكنه نهاه أن يكون هذا الميل شاملاً كل شيء ، بل يكون ميلاً فيما هو منطبق عليه الميل ، وهو المحبة والاشتهاء . فيكون معنى الآية اجتنبوا كل الميل ، لأن الميل كل الميل إذا حصل منكم يجعل المرأة كالمعلقة ، التي هي ليست ذات بعل ولا مطلقة . وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r أنه قال : " من كانت له امرأتان يميل لأحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطاً أو مائلاً " .

    وعلى هذا يكون العدل الواجب على الزوج هو التسوية بين زوجاته فيما يقدر عليه ، من المبيت ليلاً ، ومن الطعام والكسوة ، والسكنى ، وما شاكل ذلك . وأما ما هو داخل في معنى الميل وهو الحب ، والاشتهاء فإنه لا يجب العدل فيه لأنه غير مستطاع ، وهو مستثنى بنص القرآن .

    هذا هو موضوع تعدد الزوجات كما وردت به النصوص الشرعية ، وبدراسة هذه النصوص ، والوقوف عند حد معانيها اللغوية والشرعية ، وما تدل عليه ويستنبط منها ، يتبين أن الله تعالى أباح تعدد النساء إباحة عامة ، دون قيد أو شرط ، وورد النص فيها غير معلل بأية علة ، بل عبر الله تعالى بما يدل على نفي التعليل فقال : { ما طاب لكم من النساء } ولهذا يجب أن نقف عند حد النص الشرعي ، وعندما يستنبط من أحكام شرعية ، ولا يجوز تعليل هذا الحكم بآية علية ، لا تعليله بالعدل ، ولا بالحاجة ، ولا بغير ذلك ، لأن النص لم يعلل الحكم ، ولم ترد له علة في أي نص شرعي . وعلة الحكم يجب أن تكون شرعية ، أي يجب أن يكون قد ورد بها النص حتى يصح أن يكون الحكم المستنبط بواسطتها حكماً شرعياً ، وإذا كانت الععلة عقلية ، أو لم يرد بها نص شرعي ، لا يكون الحكم المستنبط بواستطها حكماً شرعياً ، وإنما يكون حكما وضعياً ، يحرم الأخذ به ، ولا يجوز تطبيقه . لأنه يكون حكم كفر . إذ كل حكم غير شرعي هو حكم كفر . على أن تعريف الحكم الشرعي بأنه " خطاب الشارع " يحتم أن يكن الحكم مأخوذاً من خطاب الشارع ، إما نصاً ، أو مفهوماً ، أو دلالة ، وإما بوجود أمارة في هذا النص يدل على الحكم الشرعي ، بحيث يصبح كل حكم وجدت فيه هذه الأمارة حكماً شرعياً . وهذه الأمارة هي العلة الشرعية التي تكون واردة في النص ، إما صراحة ، أو دلالة ، أو استنباطاً ، أو قياساً . وإذا لم ترد هذه الأمارة ، أي هذه العلة في النص فلا قيمة لها . ومن هنا يتبين أنه لا يجوز تعليل تعدد الزوجات بأية علة ، لأنه لم يرد في خطاب الشارع أية علة له ، ولا قيمة لأية علة في جعل الحكم حكماً شرعياً إلا إذا وردت في خطاب الشارع .

    إلا أن عدم تعليل الحكم الشرعي بعلة لا يعني عدم جواز شرح واقع ما يحصل من أثر لهذا الحكم الشرعي ، وواقع ما يعالج من مشاكل . ولكن هذا يكون شرحاً لواقع ، وليس تعليلاً لحكم . والفرق بين شرح الواقع وتعليل الحكم ، هو أن تعليل الحكم بعلة يجب أن تكون دائمية فيه ، وأن يقاس عليه غيره من كل ما وجدت فيه . أما شرح الواقع فإنه بيان لما عليه هذا الواقع عند شرحه ، وقد لا يستمر ما هو عليه فيه ، ولا يصح أن يقاس عليه غيره . وبناء على ذلك فإنه تبين من أثر تعدد الزوجات أن الجماعة التي يباح فيها تعدد الزوجات لا يحصل فيها تعدد الخليلات ، والجماعة التي يمنع فيها تعدد الزوجات يحصل فيها تعدد الخليلات . وعلاوة على ذلك فإن تعدد الزوجات يعالج الكثير من المشاكل التي تحصل في الجماعة الإنسانية بوصفها جماعة إنسانية ، وتحتاج إلى أن يعالجها تعدد الزوجات . وهاكم أمثلة من هذه المشاكل :

    1 - توجد طبائع غير عادية في بعض الرجال ، لا تستطيع أن تكتفي بواحدة ، فهم إما أن يرهقوا هذه الزوجة ويضروها ، وإما أن يتطلعوا إلى أخرى وأخرى ، إذا وجدوا الباب موصداً أمامهم بالزواج بثانية وثالثة ورابعة . وفي ذلك من الضرر ما فيه من شيوع الفاحشة بين الناس ، وإثارة الظنون والشكوك في أعضاء الأسرة . ولذلك كان لزاماً أن يجد مثل صاحب هذه الطبيعة المجال أمامه مفتوحاً لأن يسد جوعة جسمه القوية ، من الحلال الذي شرعه الله .

    2 - قد تكون المرأة عاقراً لا تلد ، ولكن لها من الحب في قلب زوجها ، وله من الحب في قلبها ، وما يجعلهما حريصين على بقاء الحياة الزوجية بينهما هنيئة ، وتكون عند الزوج رغبة في النسل ، وحب الأولاد ، فإذا لم يبيح له أن يتزوج أخرى ، ووجد المجال أمامه ضيقاً ، كان عليه إما أن يطلق زوجته الأولى ، وفي ذلك هدم للبيت وهنائه ، وقضاء على حياة زوجية هنيئة ، وإما أن يحرم من أن يتمتع بنسل وأولاد ، وفي هذا كبت لمظهر الأبوة من غريزة النوع . ولهذا كان لزاماً أن يجد مثل هذا الزواج المجال فسيحاً أمامه أن يتزوج زوجة أخرى معها ، حتى يكون له النسل الذي يطلبه .

    3 - قد تكون الزوجة مريضة مرضاً يتعذر معه الاجتماع الجنسي ، أو القيام بخدمة البيت والزوج والأولاد . وتكون عزيزة على زوجها محبوبة منه ، ولا يريد طلاقها ولا تستقيم حياته معها وحدها دون زوجة أخرى . فمن اللازم في هذه الحال أن يفتح له باب الزواج بأكثر من واحدة .

    4 - قد تحصل حروب أو ثورات تحصد الآلاف بل الملايين من الرجال ويختل التوازن بين عدد الرجال والنساء ، كما حصل في الحرب العالمية الأولى والثانية بالفعل في العالم ، ولا سيما في أوروبا . فإذا كان الرجل لا يستطيع أن يتزوج بأكثر من واحدة ، فماذا تصنع الكثرة الباقية من النساء ، إنها تعيش محرومة من حياة الأسرة ، وهناءة البيت وراحة الزوجية . وهذا فضلاً عما يمكن أن تحدثه غريزة النوع إذا ثارت ، من خطر على الأخلاق .

    5 - قد يكون التناسل في أمة أو شعب أو قطر لا يتساوى فيه الذكور والإناث ، وقد يكون عدد الإناث أكثر من عدد الذكور ، فينعدم التوازن بين الرجال والنساء ، ويكاد يكون هذا هو الواقع في كثير من الشعوب والأمم . وفي هذه الحال لا يوجد هنالك حل يعالج هذه المشكلة إلا إباحة تعدد الزوجات .

    هذه مشاكل واقعية في الجماعة الإنسانية في الشعوب والأمم . فإذا منع تعدد الزوجات بقيت هذه المشاكل دون علاج ، إذ لا علاج لها إلا بتعدد الزوجات . ومن هنا وجب أن يكون تعدد الزوجات مباحاً حتى تعالج المشاكل التي تحصل للإنسان . وقد جاء الإسلام يبيح تعدد الزوجات ، ولم يأت بوجوبه . وإباحة التعدد أمر لا بد منه . إلا أنه يجب أن يعلم أن هذه الحالات وأمثالها مما قد يحصل للإنسان وللجماعة الإنسانية هي مشاكل واقعية تحصل ، وليست هي علة لتعدد الزوجات ، ولا شرطاً في جواز التعدد . بل يجوز للرجل أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة مطلقاً ، سواء حصلت مشاكل تحتاج إلى التعدد أو لم تحصل ، لأن الله يقول : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } فقال : { ما طاب } وعمم ذلك دون أي قيد أو شرط . أما الاقتصار على واحدة فقد رغب الشرع فيه في حالة واحدة فقط ، وهي حالة الخوف من عدم العدل ، وما عداها فإنه لم يرد أي ترغيب في الواحدة ، ولا في نص من النصوص . ومع أن تعدد الزوجات حكم شرعي ورد في نص القرآن الصريح ، فإن الثقافة الرأسمالية والدعاية الغربية ضد الإسلام بالذات دون سائر الأديان ، قد صورت حكم تعدد الزوجات تصويراً بشعاً ، وجعلته منقصة وطعناً في الدين ، وكان الدافع إلى ذلك ليس لعيب أو لوحظ في أحكام الله وإما هو للطعن في الإسلام ، ولا دافع لهم غير ذلك . وقد أثرت هذه الدعاية على المسلمين ، ولا سيما الفئة الحاكمة ، والشباب المتعلم ، مما حمل الكثيرين من الذين لا زالت مشاعر الإسلام تتحرك عندهم ، على الدفاع عن الإسلام . وجعلهم يحاولون التأويل الباطل لمنع التعدد . جرياً منهم وراء ما تأثروا به من الدعاية الباطلة التي روجها أعداء الإسلام . ولهذا لا بد من تنبيه المسلمين إلى أن الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع . وأن ما أباحه الشرع فهو من الحسن ، وما حرمه الشرع هو من القبيح . وأن تعدد الزوجات سواء أكان له أثر ملموس حسنه ، أم لم يكن ، وسواء أعالج مشاكل وقعت ، أم لم يعالج ، فإن الشرع قد أباحه ، والقرآن قد نص على ذلك فهو فعل حسن ، ومنع التعدد هو القبيح ، لأنه من حكم الكفر . ولا بد أن يكون واضحاً أن الإسلام لم يجعل تعدد الزوجات فرضاً على المسلمين ولا مندوباً لهم ، بل جعله من المباحات ، التي يجوز لهم أن يفعلوها إذا رأوا ذلك . وكونه جعله مباحاً يعني أنه وضع في أيدي الناس علاجاً يستعملونه كلما لزم أن يستعملوه . وأباح لهم أن لا يحرموا أنفسهم مما طاب لهم من النساء إذا ما لوا لذلك في نظرتهم . فإباحة تعدد الزوجات وعدم وجوبه هو الذي يجعل تعدد الزوجات علاجاً من أنجح العلاجات للجماعة والمجتمع لدى بني الإنسان .




    زواج النبي r

    نزل قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } في أواخر السنة الثامنة للهجرة ، بعد أن كان الرسول r قد بنى بأزواجه جميعاً ، وكان الرسول عليه السلام حين نزلت متزوجاً بأكثر من أربع ، ولكنه لم يترك واحدة منهن ، بل ظل متزوجاً جميع أزواجه . وذلك لأن من خصوصياته r التزوج بأكثر من أربع دون المسلمين . ويتبين أنها من خصوصياته من كونه تزوج أكثر من أربع واحتفظ بهن بعد نزول الآية بتحديد الزوجات بأربع . لأن النبي لا يخالف فعله الذي يقوم به القول الذي يقوله ، فإذا حصلت مخالفة كان الفعل من خصوصياته والقول عام للأمة . لما تقرر في الأصول أن فعله r لا يعارض القول الخاص بالأمة ، بل يكون مختصاً به ، لأن أمره r للأمة أمراً خاصاً بهم هو أخص من أدلة التأسي القاضية باتباعه في أقواله وأفعاله ، فيبنى العام على الخاص ، ولذلك لا يجوز التأسي به في هذا الفعل الذي ورد أمر الأمة بخلافة . على أن زواجه r بأكثر من أربعة وبالهبة وغير ذلك قد دلت عليه آيات القرآن الكريم ، فقال تعالى : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ، وما ملكت يمينك مما أفاء الله ، وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، إن أراد النبي أن يستنكحها ، خالصة لك من دون المؤمنين . قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج } فهذه الآية تقول { خالصة لك من دون المؤمنين} وخالصة مصدر مؤكد لكل ما سبقها أي خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة ، والدليل على أنه وردت شاملة كل ما قبلها ، مخصوصة برسول الله r ، كونها وردت بعد الإحلالات الأربع ، وهي حل الأزواج ، وملك اليمين من الفيء مباشرة ، وبنات أقاربه الذين ذكروا ممن هاجرن معه ، والهبة مباشرة من المرأة ، وكونها وردت على سبيل التوكيد . ويؤيد هذا بكونه جاء بعد تمام هذا المعنى وبعد قوله { من دون المؤمنين } جاء قوله { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم } فمعناه أن هذا غير ما فرضنا عليهم ، ولذلك قال بعد ذلك كله { لكيلا يكون عليك حرج } أي حتى لا يكون ضيق عليك .

    وعلى هذا فلا يتخذ زواج النبي r قدوة في العمل ، ولا محلاً للبحث التشريعي لأنه من خصوصياته r . على واقع زواجه r يدل على أنه كان زواج نبي ، ولم يكن زواج رجل يتزوج للاجتماع الجنسي ، وإشباع غريزة النوع من ناحية صلة الذكورة والأنوثة . فإنه بالرجوع إلى الواقع التاريخي نجد أنه r تزوج خديجة وهو في الثالثة والعشرين من عمره ، وظلت خديجة وحدها زوجاً ثمانيا وعشرين سنة ، فقد ماتت في السنة الحادية عشرة بعد البعثة ، أي قبل الهجرة بسنتين ، بعد نقض الصحيفة ببضعة شهور وقبيل خروجه إلى الطائف وذلك سنة 620 ميلادية ، وكان عمره خمسين سنة . ولم يفكر منذ تزوجه بخديجة حتى وفاتها بالزواج بأكثر من واحدة ، في حين كان تعدد الزوجات أمراً شائعاً بين العرب في ذلك الوقت . وقد أمضى مع خديجة سبعة عشر عاماً قبل أن يبعث بالرسالة في حياة هادئة ناعمة ، ومكث معها ما يقرب من أحد عشر عاماً بعد البعثة في حياة دعوة ، وحياة كفاح لأفكار الكفر ، ومع ذلك لم يفكر بالزواج ، ولم يعرف عنه r في حياة خديجة ، ولم يعرف عنه قبل زواجه منها ، أنه كان ممن تغريهم مفاتن النساء ، في وقت كان فيه تبرج الجاهلية مغرياً للناس . فمن غير الطبيعي أن نراه وقد تخطى الخمسين ينقلب فجأة هذا الانقلاب الذي لا يجعله يكتفي بواحدة بل يتزوج ، ويتزوج حتى يأخذ إحدى عشر امرأة فيجمع في خمس سنوات من العقد السادس من عمره أكثر من سبع زوجات ويجمع في سبع سنوات من بقية العقد السادس وأوائل العقد السابع من عمره تسع زوجات . وهل يمكن أن يكون ذلك في هذه السن ناجماً عن الرغبة في النساء ، وعن دوافع الإشباع لغريزة النوع في مظهر الاجتماع الجنسي ؟ أم يكون عن دوافع أخرى كان يقتضيها واقع الحياة التي كان يخوضها عليه السلام ، وهي حياة الرسالة التي أمر أن يبلغها للناس ؟ ولأجل أن تفهم ذلك نستعرض حوادث زواجه عليه السلام .

    في السنة الحادية عشرة للبعثة أي في السنة التي توفيت فيها خديجة رضي الله عنها فكر عليه السلام في أن يتزوج ، وكانت سنه في الخمسين . فخطب عائشة بنت أبي بكر ، صديقه وأول من آمن به من الرجال ، ولما كانت لا تزال طفلة في السادسة من عمرها عقد عليها ولم يبن بها إلا بعد ثلاث سنوات وذلك بعد الهجرة حين بلغت سنها التاسعة ، ولكنه في الوقت الذي عقد فيه على عائشة تزوج من سودة بنت زمعة . وكانت سودة هذه أرملة السكران بن عمرو بن عبد شمس أحد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة ، وعادوا إلى مكة ، وماتوا بها . وكانت سودة قد أسلمت مع زوجها وهاجرت معه ، وعانت من المشاق ما عانى ، ولقيت من الأذى ما لقي . وبعد وفاة زوجها تزوجها عليه السلام . ولم يرو أن سودة هذه كانت من الجمال ، أو من الثروة ، أو من المكانة ، مما يجعل لمطمع من مطامع الدنيا أثراً في زواجه منها . فإذا تزوجها رسول الله بعد وفاة زوجها ، فإنما يفهم من ذلك أنه تزوجها ليعولها ، وليرتفع بمكانتها إلى أمومة المؤمنين . ثم إنه حين هاجر جعل مسكن سودة في جوار المسجد ، وهو أول مسكن بناه لزوجة من زوجاته .

    ثم في السنة الأولى للهجرة بعد أن أتم أمر المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين بنى الرسول عليه الصلاة والسلام بعائشة وأسكنها بمسكنها إلى جانب مسكن سودة في جوار المسجد . وجعل لوزيره وصديقه أبي بكر أن يأتيه إلى بيته عند ابنته .

    ثم إنه في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد تزوج من حفصة بنت عمر بن الخطاب ، وكانت حفصة من قبله زوج حنيش أحد السابقين إلى الإسلام ، وقد مات عنها قبل زواج الرسول بها بسبعة أشهر ، وبزواج حفصة جعل لوزيره الثاني صاحبه عمر بن الخطاب أن يأتيه إلى بيته عند ابنته فكان زواج عائشة وحفصة زواجاً بابنتي وزيريه ومعاونيه ، بناتي صاحبيه الملازمين له في الدعوة والحكم والقتال وغير ذلك . فهو ليس من أجل مجرد الزواج . وإذا كانت عائشة جميلة محببة للرسول عليه الصلاة والسلام ، فإن هذا المعنى غير موجود في حفصة . مما يدل على أن زواجه بهما لغاية غير غاية الإشباع الجنسي .

    ثم إنه في السنة الخامسة للهجرة في غزوة بني المصطلق تزوج من جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، وحديث زواجه منها كان لتقريب أبيها ولرفع مكانتها ، فإن جويرية هذه كانت من سبايا بني المصطلق ، وقد وقعت في سهم أحد الأنصار ، وكانت بنت سيد بني المصطلق . فأرادت أن تفتدي نفسها من سيدها التي أصبحت أمة له ، فأغلى الفداء عليها علماً منه بأنها ابنة زعيم بني المصطلق . فجاء أبوها إلى النبي بفداء إبنته ، ففداها ، ثم أسلم بعد أن آمن برسالة النبي . ثم أخذ ابنته جويرية إلى النبي فأسلمت كما أسلم أبوها ، فخطبها النبي إلى أبيها فزوجه إياها فكان زواجه لها زواجاً لبنت سيد قبيلة قد أخضعها فأراد جلب ود زعيمها بزواجه بنته .

    ثم إنه في السنة السابعة للهجرة بعد الانتصار على خيبر تزوج صفية بنت حيي بن أخطب أحد زعماء اليهود . وحديث زواجها أنها أخذت مع السبايا اللاتي أخذهن المسلمون من حصون خيبر ، فقال بعض المسلمين للنبي r : صفية سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك . فأعتقها رسول الله r وتزوجها ، وفي هذا حفظ لها ، وتخليص لها من رق الأسر ، ورفع لمكانتها . وقد وري أن أبا أيوب خالد الأنصاري خشي أن تتحرك في نفسها الضغينة على الرسول الذي قتل أباها وزوجها وقومها ، لذلك بات حول الخيمة التي أعرس فيها الرسول بصفية في طريق عودته من خيبر ، متوشحاً سيفه ، فلما أصبح الرسول رآه وسأله . مالك ؟ قال : خفت عليك من هذه المرأة ، وقد قتلت أباها وزوجها وقومها وقد كانت حديثة عهد بكفر فطمأنه الرسول وظلت صفية عند الرسول على الوفاء له حتى قبضه الله إليه.

    ثم إنه في السنة الثامنة للهجرة تزوج من ميمونة أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب ، وكان زواجه بها في آخر عمرة القضاء . وحديث زواجه إياها هو أن ميمونة كانت في السادسة والعشرين من عمرها وكانت موكلة أختها أم الفضل في تزويجها . فلما رأت ميمونة ما رأت من أمر المسلمين في عمرة القضاء هفت إلى الإسلام نفسها ، فخاطب العباس ابن أخيه سيدنا محمداً في أمرها ، وعرض عليه أن يتزوجها ، وقبل الرسول زواجها ، وكانت الأيام الثلاثة التي نص عليها عهد الحديبية قد انقضت ، لكن الرسول أراد أن يتخذ من زواجه ميمونة وسيلة لزيادة في التفاهم بينه وبين قريش ، فلما جاءه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى من قبل قريش ، يقولان لمحمد إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا ، قال لهما ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم ، وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه ، فكان جوابهما لا حاجة بنا إلى طعامك فأخرج عنا ، فلم يتردد الرسول فخرج والمسلمون من وارئه .

    وأما زواجه بزينب بنت خزيمة ، وأم سلمة ، فقد كان زواجاً لزوجتي رجلين من أصحابه استشهدوا في معارك القتال . فقد كانت زينب زوجة لعبيدة بن الحارث بن المطلب ، الذي استشهد يوم بدر ، ولم تكن ذات جمال . وإنما عرفت بطيبتها وإحسانها حتى لقبت بأم المساكين ، وكانت قد تخطت الشباب ، فتزوجها رسول الله r في السنة الثانية للهجرة ، بعد معركة بدر ، وبعد استشهاد زوجها . ولم تمكث عنده سوى سنتين ثم قبضها الله إليه ، فكانت بعد خديجة الوحيدة التي توفيه قبله . أما أم سلمة فكانت زوجاً لأبي سلمة ، وكان لها منه أبناء عدة ، وقد جرح أبو سلمة في أحد ، ثم برئ جرحه فعقد له النبي لحرب بني أسد ، فشتتهم وعاد إلى المدينة بما غنم ثم نغر عليه جرح أحد ، وما زال به حتى قضى عليه ، وقد حضره النبي وهو على فراش موته ، وظل إلى جانبه يدعو له بخير حتى مات فأسبل عينه . وبعد أربعة أشهر من وفاته خطب الرسول أم سلمة إلى نفسها ، فاعتذرت بكثرة العيال ، وبأنها تخطت الشباب فما زال بها حتى تزوج منها ، وحتى أخذ نفسه بالعناية بتنشئة أبنائها . فهاتان الزوجتان إنما تزوجهما الرسول ، إعالة لأهل صاحبيه بعد وفاتهما .

    وأما زواجه r بأم حبيبة بنت أبي سفيان فقد كان زواجاً لمؤمنة هاجرت إلى الحبشة فراراً بدينها ثم صبرت في سبيل إسلامها بعد أن ارتد زوجها . ذلك أن أم حبيبة هذه هي رملة بنت أبي سفيان زعيم مكة وقائد المشركين . وقد كانت زوجة لابن عمة رسول الله عبيد الله بن جحش الأسدي . وقد أسلم عبيد الله وأسلمت معه رملة ، وأبوها على الكفر ، وقد خشيت أذى أبيها فهاجرت مع زوجها إلى الحبشة وهي مثقلة بحملها . وهناك في المهجر وضعت رملة بنتها حبيبة بنت عبيد الله التي كنيت بها فصارت تدعى أم حبيبة غير أن عبيد الله بن جحش زوجها ما لبث أن ارتد عن الإسلام واعتنق النصرانية دين الأحباش وحاول أن يرد زوجته رملة عن الإسلام فصبرت على دينها . ثم أرسل النبي إلى النجاشي يوكله بزواج أم حبيبة من رسول الله فأخبر النجاشي أم حبيبة بذلك فوكلت خالداً بن سعيد بن العاص عنها بالزواج وجرى عقد زواجها من الرسول ، وتولى خالد العقد بوكالته عنها ، وتولى النجاشي العقد عن رسول الله . ثم إنه لما رجع مهاجرو الحبشة إلى المدينة بعد غزوة خيبر رجعت أم حبيبة معهم ، ودخلت بيت رسول الله ، واحتفلت المدينة بعرس الرسول من أم حبيبة وأقامت في بيته .

    أما زواجه r بزينب بنت جحش فكان تشريعاً لعدة أمور ، كان تشريعاً لهدم ما يسمى بالكفاءة بين الرجل والمرأة في تزويجه ابنة عمته وهي من ذؤابة قريش لمولى كان عبداً وأعتق ، وكان تشريعاً لهدم ما تركز عندهم من أن تبنى ولداً كان كابنه لا يتزوج امرأته ، فتزوج امرأة مولاه الذي أعتقه بعد طلاقها منه لهدم هذه العادات . وحديث زواج الرسول بزينب بنت جحش هو أن زينب بنت جحش هذه هي ابنة أميمة بنت عبد المطلب ، عمة الرسول r وأنها ربيت بعينه وعنايته ، وأنها كانت لذلك منه بمقام البنت أو الأخت الصغرى . وأنه كان يعرفها ويعرف أهي ذات مفاتن أم ليست كذلك ، قبل أن تتزوج زيداً ن وأنه شهدها في نموها تحبو من الطفولة إلى الصبا ، إلى الشباب ، فلم تكن مجهولة للرسول ، بل كانت بمقام بنته . وقد خطبها عليه الصلاة والسلام لتتزوج من مولاه زيد فأبى أخوها عبد الله بن جحش أن تكون أخته وهي قرشية هاشمية ، وهي فوق ذلك ابنة عمة رسول الله ، تحت عبد رق اشترته خديجة ، ثم أعتقه محمد ، ورأى في ذلك على زينب عاراً كبيراً . وكان ذلك عاراً حقاً عند العرب كبيراً ، فلم تكن بنات الأشراف الشريفات ليتزوجن من موال ، وإن أعتقوا . لكن محمداً يريد أن تزول مثل هذه الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبية وحدها وأن يدرك الناس جميعاً أن لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، وأن يفهموا قوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وهو لا يرى أن يستكره بذلك امرأة من غير أهله ، فلتكن زينت بنت جحش بنت عمته هي التي تحتمل هذا الخروج على تقاليد العرب ، وهذا الهدم لعاداتها ، معرضة في ذلك عما يقول الناس عنها مما تخشى سماعه وليكن زيد مولاه الذي تبنى ، والذي أصبح بكم عادات العرب وتقاليدها صاحب حق في أن يرثه كسائر أبنائه سواء ، هو الذي يتزوجها . فيكون مستعداً للتضحية التي أعدها الشارع الحكيم للأدعياء الذين اتخذوا أبناء . وقد أصر الرسول على أن تقبل زينب ويقبل أخوها ، عبد الله ، زيداً مولاه زوجاً لها ولكن زينب أصرت على الرفض وأصر أخوها عبد الله كذلك على الرفض . فأنزل الله تعالى قوله { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } فلم يبق حينئذ أمام عبد الله وأمام زينب إلا الإذعان ، فقالا : " رضينا يا رسول الله ، وبنى زيد بزينب بعد أن ساق النبي إليها عنه مهرها . إلا أن الحياة الزوجية بين زيد وزينب لم تسر على ما يرام ، بل بدأت مضطربة منغصة ، وظلت مضطربة منغصة . فلم تأخذ زينب نفسها بالرضا من هذا الزواج بعد أن وقع بالرغم من أنه أمر من الله ورسوله . فلم يسلس قيادها لزوجها ، ولا لأن له إباؤها ، بل كانت تفخر على زيد بأنها لم يجر عليها رق ، وتنغص عليه عيشه ، وقد شكاها زيد إلى النبي r عدة مرات ، وشرح له سوء معاملتها له . واستأذنه عدة مرات أن يطلقها ، فكان النبي يجيبه أمسك عليك زوجك . وقد أوحى الله للرسول r أن زينب هذه ستكون بعد من أزواجه ، فعظم ذلك على الرسول r خشية أن يقول الناس إن محمداً تزوج امرأة ابنه ، وأن يعيبوا عليه ذلك ، وكان عليه السلام قد تبنى زيداً . ومن أجل ذلك كان لا يريد من زيد أن يطلقها ، ولكن زيداً ألح على الرسول بطلاقها ، وبالرغم من معرفة الرسول أنها ستكون من أزواجه كما أعلمه الله تعالى بذلك عن طريق الوحي ، فإنه قال لزيد : { أمسك عليك زوجك واتق الله } . فعاتبه الله على ذلك ، إذ قال له إني أخبرتك أني مزوجكها ، وتخفي في نفسك ما الله يبديه ، ، وهذا معنى قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } والذي كان يخفيه هو معرفته أنها ستكون زوجته بالرغم من أنها امرأة من تبناه ، وهذا هو الذي أبداه الله فيما بعد ، وهو زواجه بمطلقة من تبناه . وسبب إخفاء الرسول هذا الزواج الذي أبداه الله فيما بعد ، هو أن العرب كان ما عاداتها التصاق الأدعياء بالبيوت ، واتصالهم بأنسابها ، وكانوا يعطون الدعي أي الشخص المتبنى جميع حقوق الابن ، ويجرون عليه أحكام الابن ، حتى في الميراث وحرمة النسب ، فحينما أعلم الله الرسول بأن زينب زوجة مولاه الذي تبناه ، ستكون زوجته فيما بعد ، كان يخفي هذه المعرفة ويشدد على زيد أن يمسك عليه زوجه ، وأن لا يطلقها ، بالرغم من إلحاح زيد ، وشكواه منها ، وعدم ائتلافهما ، وعدم انسجام الحياة الزوجية بينهما منذ أن تزوجها . ولكن زيداً أصر على أن يطلقها فأذن له الرسول بطلاقها فطلقها دون أن يعلم زيد أن الرسول سيتزوجها ، ودون أن تعلم زينب أن الرسول سيتزوجها . بدليل ما رواه أحمد ومسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال : " لما انقضت عدة زينب ، قال رسول الله r لزيد اذكرها علي ، قال فانطلقت فقلت يا زينب أبشري ، أرسل رسول الله يذكرك . فقالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أو أمر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن وجاء رسول الله r حتى دخل عليها بغير إذن ، حين أنزل الله تعالى قوله : { فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم } ولو كانت تعلم أو كان زيد يعلم لما قال لها أبشري ، ولما قالت أو أمر ربي ، استخيره في هذا الزواج . وعلة زواجه هو أن لا يكون على المؤمنين حرج في أن يتزوجوا زوجة من تبنوه .

    هذه قصة زاج الرسول بنسائه . وكل واحدة منهن يتبين من حديث زواجها أنه كان لغاية غير غاية مجرد الزواج . وبذلك يظهر معنى زواجه r بأكثر من أربع ، ومعنى خصوصيته r بهذا العدد دون أمته . وأن هذا المعنى ليس فوران غريزة النوع لدى رجل قد جاوز الخمسين من عمره ، ورجل مشغول بالدعوة ، وبالدولة ، مشغول برسالة ربه يبلغها للعالم ، ينهض بها شعباً ليجعله أمة ، غايتها من الحياة حمل رسالة الله إلى العالم ، ويبني مجتمعاً بناءً جديداً ، بعد أن ينقض بناؤه السابق ، ويقيم دولة تدفع الدنيا أمامها لتحمل الناس دعوة الإسلام ، وكل من يشغل ذهنه إنهاض أمة وإقامة دولة ، وبناء مجتمع ، وحمل رسالة للعالم ، لا يمكنه أن تشغله النساء ، فينصرف لهن ، يتزوج كل سنة واحدة وإنما يحمل هم دعوته ، ويتمتع بالحياة الزوجية عادياً كما يتمتع أي إنسان .




    الحياة الزوجية

    ليست الزوجة شريكة الحياة للزوج ، وإنما هي صاحبته ، فالعشرة بينهما ليست عشرة شركاء ، وليسوا مجبرين عليها طوال الحياة ، وإنما العشرة بينهم عشرة صحبة ، يصحب أحدهما الآخر صحابة تامة من جميع الوجوه ، صحبة يطمئن فيها أحدهما للآخر ، إذ جعل الله هذه الزوجة محل اطمئنان للزوجين . قال تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها وزجها ليسكن إليها } . وقال تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ، وجعل بينكم مودة ورحمة } ، والسكن هو الاطمئنان ، أي ليطمئن الزوج إلى زوجته والزوجة إلى زوجها ، ويميل كل منهما للآخر ولا ينفر منه . فالأصل في الزواج الاطمئنان . والأصل في الحياة الزوجية الطمأنينة ، وحتى تكون هذه الصحبة بين الزوجين صحبة هناء وطمأنينة بين الشرع ، ما للزوجة من حقوق على الزوج ، وما للزوج من حقوق على الزوجة . وجاءت الآيات والأحاديث صريحة في هذا الباب . قال الله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } أي للنساء من الحقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن . ولهذا قال ابن عباس : " إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي وأحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي ، لأن الله تعالى قال : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } أي زينة من غير مأثم " ، وعنه أيضاً : " لهن من حسن الصحبة والعشرة مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن " .

    وقد أوصى الله تعالى بحسن العشرة بين الزوجين قال تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } وقال : { فإمساك بمعروف } . والعشرة المخالطة والممازجة وعاشره معاشرة وتعاشر القوم واعتشروا . فأمر الله سبحانه وتعالى بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون الخلطة ما بينهم وصحبتهم مع بعضهم على الكمال ، فإنه أهدأ للنفس ، وأهنأ للعيش ، ومعاشرة الرجال للنساء تكون زيادة على وجوب إبقائها حقها من المهر والنفقة أن لا يعبس في وجهها بغير ذنب ، وأن يكون منطلقاً في القول ، لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها .

    وقد وصى الرسول الرجال بالنساء فروى مسلم في صحيحه عن جابر أن رسول الله r قال في خطبته في حجة الوداع " فاتقوا الله في النساء فأنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يطأن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن في ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " . وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " . وروي عنه عليه السلام أنه جميل العشرة يداعب أهله . ويتلطف بهم ، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك . قالت سابقني رسول الله r فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني فقال : " هذه بتلك " . وكان r إذا صلى العشاء يدخل منزله ، ويسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤانسهم بذلك . وروى ابن ماجة أن النبي r قال : " خياركم خياركم لنسائهم " .

    وهذا كله يدل على أن على الأزواج أن يحسنوا عشرة أزواجهم . ولما كانت الحياة الزوجية قد يحصل فيها ما يعكر صفوها ، فقد جعل الله قيادة البيت للزوج على الزوجة ، فجعله قواماً عليها . قال تعالى : { الرجال قوامون على النساء } وقال : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وللرجال عليهن درجة } ووصى المرأة بطاعة زوجها . قال r : " إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع " وقال عليه السلام لامرأة : " أذات زوج أنت ؟ قالت : نعم ، قال " فإنه جنتك ونارك " . وروى البخاري أن النبي عليه السلام قال : " لا يحل لامرأة أن تصوم وزجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ، وما أنفقت من نفقة من غير إذنه فإنه يرد ليه شطرة " .

    وروى ابن بطة في أحكام النساء عن أنس أن رجلاً سافر ومنع زوجته من الخروج . فمرض أبوها ، فاستأذنت رسول الله r في عيادة أبيها ، فقال رسول الله r : " إتقي الله ولا تخالفي زوجك " فمات أبوها فاستأذنت رسول الله r في حضور جنازته فقال لها : " اتقي الله ، ولا تخالفي زوجك " فأوحى الله إلى النبي r : " إني قد غفرت لها بطاعة زوجها " . فجعل الشرع للزوج الحق في منع زوجته من الخروج من منزله سواء أرادت عيادة والديها أو زيارتهما ، أو أرادت الخروج إلى ما لا بد منه أو للنزهة ، ولا يجوز لها أن تخرج من المنزل إلا بإذنه ، لكن لا ينبغي للزوج منعها من عيادة والديها وزيارتهما لأن في ذلك قطيعة لهما ، وحملاً لزوجته على مخالفته ، وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف ، وليس منعها من عيادة والديها وزيارتهما من المعاشرة بالمعروف وليس للزوج أن يمنع زوجته من الخروج إلى المساجد . لما روي عن النبي r أنه قال : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وإذا تمردت المرأة على زوجها فقد جعل الله له حق تأديبها قال تعالى : { واللاتي تخافوهن نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } والضرب هنا يجب أن يكون ضرباً خفيفاً ، أي ضرباً غير مبرح . كما فسر ذلك الرسول في خطبته في حجة الوداع حيث قال : " فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح " . وإنما أعطي الزوج صلاحية معاقبة الزوجة إذا أذنبت لأنه القوام على إدارة ورعاية شؤون البيت ، وما عدا مخالفتها لما أمرها الشرع بالقيام به فإنه لا يجوز للزوج أن يزعجها بشيء مطلقاً . قال تعالى : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} بل يجب أن يكون رفيقاً معها ، لطيفاً في طلب أي شيء منها حتى لو أرادها ينبغى عليه أن يحسن اختيار الأوضاع والحالات المناسبة لها . قال عليه السلام " لا تطرقوا النساء ليلاً حتى تمتشط المشعثة ، وتستحد المغيبة " . وليس معنى قوامة الزوج على المرأة ، وقيادته للبيت أن المتسلط فيه ، الحاكم له بحيث لا يرد له أمر ، بل معنى قيادة الزوج للبيت هي رعاية شؤونه وإدارته ، وليس السلطة أو الحكم فيه ، ولذلك فإن للمرأة أن ترد على زوجها كلامه ، وأن تناقشه فيه ، وأن تراجعه فيما يقول ، لأنهما صاحبان وليسا أميراً ومأموراً ، أو حاكماً ومحكوماً ، بل هما صاحبان جعلت القيادة لأحدهما من حيث إدارة بيتهما ، ورعاية شؤون هذا البيت . وقد كان رسول الله r في بيته كذلك صاحباً لزوجاته ، وليس أميراً متسلطاً عليهن رغم كونه رئيس دولة ، ورغم كونه نبياً ، قال عمر بن الخطاب في حديث له " والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل ، وقسم لهن ما قسم فبينما أنا في أمر أأتمره إذ قالت لي امرأتي لو صنعت كذا وكذا . فقلت لها وما لك أنت ولما ها هنا ، وما تكلفك في أمر أريده ، فقالت لي عجباً لك يا ابن الخطاب ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله r حتى يظل يومه غضبان . قال عمر فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة فقلت لها يا بنية إنك لتراجعين رسول الله r حتى يظل يومه غضبان . فقالت حفصة والله إنا لنراجعه فقلت تعلمين أني أحذرك عقوبة الله ، وغضب رسوله يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها ، وحب رسول الله r إياها . ثم خرجت حتى أدخل على أم سلمة لقرابتي منها ، فكلمتها . فقالت لي أم سلمة عجباً لك يا ابن الخطاب ، قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله r وأزواجه . قال عمر فأخذتني أخذاً كسرتني به عن بعض ما كنت أجد ، فخرجت من عندها " . وروى مسلم في صحيحه أن أبا بكر استأذن على النبي ، ودخل بعد أن أذن له ثم استأذن عمر ودخل بعد الإذن ، فوجد النبي جالساً وحوله نساؤه واجماً ساكناً فقال عمر : لأقولن شيئاً أضحك النبي r ثم قال : يا رسول الله . لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله r : " هن حولي يسألنني النفقة " . ومن ذلك يتبين أن معنى قوامة الرجل على المرأة هو أن يكون الأمر له ، ولكن أمر صحبة لا أمر تسلط وسيطرة ، فتراجعه وتناقشه .

    هذا من ناحية العشرة وأما من ناحية القيام بأعمال البيت ، فإنه يجب على المرأة خدمة زوجها من العجن ، والخبز والطبخ ، ومسح الدار وتنظيفها ، ويجب عليها أن تسقيه إذا طلب أن يشرب ، وأن تضع له الطعام ليأكل ، وأن تقوم بخدمته في كل ما يلزمه في البيت . وكذلك ما يلزم لخدمة البيت مما تستدعيه أمور المعيشة في المنزل من كل شيء دون تحديد . ويجب عليه أن يحضر لها ما تحتاجه مما هو خارج البيت من إحضار الماء ، وكل ما يلزمها لإزالة الوسخ ، وتقليم الأظافر ، وللتزين له مما تتزين به أمثالها ، وغير ذلك .

    والخلاصة أن كل عمل يلزم القيام به داخل البيت فيجب على المرأة أن تقوم به ، أيا كان نوع العمل . وكل عمل يلزم القيام به خارج البيت فيجب على الرجل أن يقوم به . لما روي عن النبي r في قصة علي وفاطمة رضي الله عنهما " قضى على ابنته فاطمة بخدمة البيت ، وعلى علي ما كان خارجاً عن البيت من عمل " وقد كان رسول الله r يأمر نساءه بخدمته فقال : " يا عائشة اسقينا يا عائشة أطعمينا يا عائشة هلمي الشفرة ، واشحذيها بحجر " وقد روي " أن فاطمة أتت رسول الله r تشكو إليه ما تلقى من الرحى ، وسألته خادماً يكفيها ذلك " وهذا كله يدل على أن القيام بخدمة الرجل في البيت ، وبخدمة البيت واجب من واجبات الزوجة يجب أن تقوم به . إلا أن قيامها به إنما يكون بقدر طاقتها فإذا كانت الأعمال كثيرة بحيث تجلب لها المشقة كان على الزوج أن يأتي لها بخادم يكفيها القيام بالأعمال ، وكان لها أن تطالبه بذلك ، وإن كانت الأعمال غير كثيرة ، وهي قادرة على القيام بها فلا يجب عليه خادم لها بل يجب عليها أن تقوم هي بالخدمة بدليل ما قضى به رسول الله r على ابنته فاطمة بخدمة البيت . وهكذا يجب على الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف . ويجب على الزوجة مثل ما يجب لها بالمعروف ، حتى تكون الحياة الزوجية حياة طمأنينة ، يتحقق فيها قوله تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } .




    العزل

    العزل هو أن ينزع الرجل إذا قرب من الإنزال لينزل خارجاً من الفرج . والعزل جائز شرعاً ، فيجوز للرجل إذا جامع امرأته ، وقرب من الإنزال ، أن ينزل ماءه خارج الفرج ، فقد روى البخاري عن عطاء عن جابر قال : " كنا نعزل على عهد رسول اللهr والقرآن ينزل " وروي أيضاً عن عطاء أن سمع جابراً رضي الله عنه يقول : " كنا نعزل والقرآن ينزل " ولمسلم " كنا نعزل على عهد رسول الله r فبلغه ذلك فلم ينهنا " وهذا تقرير من رسول الله على العزل ، فيدل على جوازه ، لأنه لو كان العزل حراماً لم يسكت عنه . على أن حكم العزل هذا أضيف من الصحابي إلى زمن النبي r ، والصحابي إذا أضاف الحكم إلى زمن النبي عليه السلام كان له حكم الرفع ، لأن الظاهر أن النبي r أطلع على ذلك وأقره ، لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام . وقد وردت في جواز العزل عدة أحاديث صحيحة . فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر " أن رجلاً آتى النبي r فقال : إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال : اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها " وروى مسلم عن أبي سعيد قال : " خرجنا مع رسول الله في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبباً من العرب فاشتهينا النساء ، واشتدت علينا العزبة ، وأحببنا العزل فسألنا عن ذلك رسول الله r فقال : ما عليكم ألا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة " وروى أبو داود عن جابر قال : " جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله r : " إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال : " أعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها " والعزل جائز مطلقاً مهما كان قصد العازل ، سواء قصد من ذلك عدم النسل ، أو تقليل الأولاد ، أو قصد الشفقة على الزوجة لضعفها من الحمل والولادة ، أو قصد عدم إرهاقها حتى تظل شابة يتمتع بها ، أو أي قصد آخر فإن للزوج أن يعزل مهما كان قصده ، وذلك لأن الأدلة التي وردت في ذلك مطلقة ، ولم تقيد بحال من الأحوال ، وعامة لم يرد لها أي تخصيص ، فتبقى على إطلاقها وعمومها . ولا يقال إن العزل قتل للولد قبل خلقه ، فقد وردت أحاديث صريحة ترد على ذلك . فقد روى أبو داود عن أبي سعيد " أن رجلاً قال : " يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال : " كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه " وقد ورد النص بجواز العزل بقصد عدم الأولاد . فقد روى أحمد ومسلم عن أسامة بن زيد " أن رجلاً جاء إلى النبي r فقال إني أعزل عن امرأتي فقال له لم تفعل ذلك ؟ فقال له الرجل أشفق على ولدها ، أو على أولادها فقال رسول الله r : لو كان ضاراً ضر فارس والروم " فهنا قال له الرسول : " لم تفعل " ولم يقل له لا تفعل . ويفهم من الحديث أنه أقره ولكنه أخبره أن مجيء الأولاد بعد الأولاد لا يضر بدليل ما وقع عند مسلم في حديث أسامة بن زيد ، جاء رجل إلى رسول الله r فقال : " إني أعزل عن امرأتي شفقة على ولدها فقال رسول الله r إن كان كذلك فلا ، ما ضر ذلك فارس ولا الروم " . وعند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد " خشية أن يضر الحمل بالولد الرضيع " ، وإذا كان الرسول أقر العزل لأجل عدم الحمل حتى لا يتضرر الولد الرضيع فهو يصدق على العزل لأجل عدم الحمل فراراً من كثرة العيال ، أو فراراً من حصولهم من الأصل ، أو غير ذلك . لأن الله إذا علم أن الولد سيأتي فلا بد أن يأتي سواء عزل أو لم يعزل . ولذلك روى ابن حبان من حديث أنس أن رجلاً سأل عن العزل فقال النبي r : " لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج منها ولداً " ولا يقال إن تقليل النسل يخالف ما حث به r من كثرة النسل حين قال: " تناكحوا تناسلوا تكثروا " وقال : " سوداء ولود خير من حسناء عقيم " ، لا يقال ذلك لأن إباحة العزل لا تخالف الحث على تكثير النسل ، فذاك ترغيب في تكثير النسل ، وهذا إباحة للعزل . وأما ما رواه أحمد عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت : " حضرت رسول الله r في أناس وهو يقول : " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئاً ، ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله r ذلك الوأد الخفي وهي : وإذا الموءودة سئلت " فإن هذا الحديث يعارض الأحاديث الصحيحة الصريحة في جواز العزل ، وإذا تعارض حديث مع أحاديث أخرى أكثر منه طرقاً رجحت الأحاديث التي أكثر طرقاً ورد الحديث . وبناء على ذلك يرد هذا الحديث لمعارضته ما هو أقوى منه وأكثر طرقاً في الرواية .

    ولا يقال أن الجمع بين هذا الحديث وأحاديث جواز العزل هو أن يحمل هذا الحديث على كراهة العزل ، لأن ذلك ممكن لو لم يكن هنالك تصادم في نفي الرسول في حديث آخر لنفس المعنى الذي جاء به هذا الحديث . فالحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد " وإن اليهود تحدث أن العزل المؤودة الصغرى قال : " كذبت يهود " . وحديث جذيمة يقول : " ذلك الوأد الخفي وهي : " وإذا الموءودة سئلت " فلا يمكن الجمع بين هذين الحديثين ، فإما أن يكون أحدهما منسوخاً ، أو أن يكون أحدهما أقوى من الآخر فيرد الأضعف ، وبما أن تاريخ الحديثين غير معروف ، وحديث أبي سعيد مؤيد بأحاديث عديدة ، ومن طرق عديدة . وحديث جذيمة جاء منفرداً ، ولم يؤيد بشيء ، فيرد ويرجح ما هو أقوى منه . وعلى ذلك يكون العزل جائزاً مطلقاً دون أي كراهة ، مهما كان قصد العازل من العزل لعموم الأدلة . ولا يحتاج الرجل حتى يعزل إلى إذن زوجته لأن الأمر متعلق به وليس بها ، ولا يقال إن الجماع حقها فصار الماء حقها فلا يريقه خارج فرجها إلى بإذنها ، لأن هذا تعليل عقلي ، وليس بشرعي ولا قيمة له ، فضلاً عن أنه منقوض بأن حقها هو الجماع ، وليس إنزال الماء ، بدليل أن العنين إذا وصل إلى المرأة ولم ينزل فيعتبر قد انتهى حقها بهذا الوصول ، فلا يكون حينئذ لها حق الفسخ . وأما ما رواه ابن ماجة عن عمر بن الخطاب قال : " نهى رسول الله r أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها " فإنه حديث ضعيف وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال . وبذلك تبقى الأحاديث مطلقة في جواز العزل .

    وحكم العزل هذا ينطبق على استعمال الدواء ، واستعمال الكيس أو استعمال اللولب لمنع الحمل ، فإنها كلها من باب واحد ، لأن أدلة جواز العزل منطبقة عليها تمام الانطباق ، وهي مسألة من مسائلها ، إذ الحكم هو جواز أن يقوم الرجل بعمل يمنع الحمل ، سواء أكان عزلاً أم غيره ، وما جاز للرجل جاز للمرأة ، لأن الحكم هو جواز منع الحمل بأي وسيلة من الوسائل .

    وهذا الجواز لمنع الحمل هو خاص بمنع الحمل المؤقت . أما منع الحمل الدائم وإيجاد العقم فإنه حرام ، فاستعمال الأدوية التي تمنع الحمل نهائياً وتقطع النسل ، وإجراء العمليات الجراحية التي تمنع الحمل نهائياً وتقطع النسل حرام ، لا يجوز القيام به ، لأن ذلك نوع من الخصاء ، وداخل تحته ، ويأخذ حكمه ، لأن هذه الاستعمالات تقطع النسل ، كما يقطعه الخصاء ، وقد ورد النهي الصريح عن الخصاء . عن سعد بن أبي وقاص قال : " رد رسول الله r على عثمان بن مظعون التبتل ، ولو أذن له لاختصينا " وكان عثمان بن مظعون قد جاء إلى النبي r فقال : " يا رسول الله إن رجل يشق علي العزوبة فأذن لي بالاختصاء ، قال : لا ولكن عليك بالصيام " وفي لفظ آخر قال : " يا رسول الله أتأذن لي في الاختصاء ؟ قال : إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة " وعن أنس قال : " كان النبي r يأمرنا بالباءة ، وينهى عن التبتل نهياً شديداً ، ويقول : تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة " .

    كما أن قطع النسل الدائم يتناقض مع حمل الشارع النسل والإنجاب هو الأصل من الزواج لذلك قال تعالى في معرض المنة على الناس { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } وقد جعل الشارع تكثير الأولاد مندوباً ، وحض عليه ، ومدح فاعله . فعن أنس أن النبي r قال : " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة " وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله r قال : " انكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة " وعن معقل بن يسار قال : " جاء رجل إلى رسول الله r فقال " إني أحببت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها ؟ فقال لا ، ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة فقال : تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم " .

    إن جواز منع الحمل المؤقت بالعزل وغيره من وسائل منع الحمل ، لا يعني جواز إسقاط الجنين ، فإسقاط الجنين إذا نفخت فيه الروح يكون حراماً ، سواء كان الإسقاط بشرب دواء أو بحركات عنيفة ، أو بعملية طبية ، وسواء حصل من الأم أو من الأب ، أو من الطبيب ، لأنه تعدٍ على نفس إنسانية معصومة الدم . وهو جناية توجب الدية ، ومقدارها غرة عبد أو أمة ، وقيمتها عشر دية الإنسان الكامل . قال تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : " قضى رسول الله r في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة " وأقل ما يكون به السقط جنيناً فيه غرة أن يتبين من خلفه شيء من خلق الآدمي ، من أصبع أو يد أو رجل أو رأس أو عين أو ظفر .

    أما إن كان إسقاط الجنين قبل أن تنفخ فيه الروح ، فإن حصل الإسقاط بعد مرور أربعين يوماً من ابتداء الحمل ، وعند بدء التخلق للجنين فإنه يكون حراماً كذلك ، ويأخذ حكم إسقاط الجنين بعد نفخ الروح فيه من الحرمة ، ووجوب الدية فيه التي هي غرة عبد أو أمة . وذلك أنه إذا بدأ تخلق الجنين ، وظهرت بعض الأعضاء فيه فإنه يتأكد عندها أنه جنين حي في طريقه إلى أن يصبح إنساناً سوياً . وبذلك يكون الاعتداء عليه اعتداء على حياة إنسانية معصومة الدم ، ويكون وأداً لها ، وقد حرم الله ذلك . قال تعالى : { وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت } .

    وبذلك يحرم على الأم وعلى الأب وعلى الطبيب إسقاط الجنين بعد مرور أربعين يوماً من ابتداء الحمل ، ومن يقوم به يكون مرتكباً جناية وإثماً ، وتلزمه دية الجنين المسقط ، وهي غرة عبد أو أمة كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم .

    ولا يباح إسقاط الجنين سواء كان في دور التخلق أو بعد نفخ الروح فيه إلا إذا قرر الأطباء العدول أن بقاء الجنين في بطن أمه سيؤدي إلى موت الأم ، وموت الجنين معها . ففي هذه الحالة يجوز إسقاط الجنين لحفظ حياة الأم .




    الطلاق

    كما شرع الله الزواج شرع أيضاً الطلاق . والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع الصحابة . أما الكتاب فقد قال الله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وقال : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } . وأما السنة فقد روي عن عمر بن الخطاب : " أن النبي r طلق حفصة ثم راجعها " وروي عن عبد الله بن عمر قال : " كانت تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي r فقال : " يا عبد الله طلق امرأتك " . وقد أجمع الصحابة على مشروعية الطلاق .

    والطلاق حل قيد النكاح ، أي حل عقدة التزويج ، وليس لجواز الطلاق أية علة شرعية ، فإن النصوص التي وردت في حله لم تتضمن أية علة ، لا نصوص القرآن ولا نصوص الحديث . فهو حلال لأن الشرع أحله وليس لأي سبب آخر . والتطليق الشرعي ثلاث تطليقات ، تطليقه بعد تطليقة فإن طلق واحدة فقد أوقع تطليقة واحدة ، وجاز له أن يرجعها أثناء العدة دون عقد جديد ، وإن طلقها طلقة ثانية فقد أوقع تطليقتين اثنتين ، وجاز له أن يراجعها أثناء العدة دون عقد جديد . فإن انقضت العدة في هاتين الحالتين ولم يراجعها فإنها أصبحت بائنة منه بينونة صغرى ، ولا يحل له أن يرجعها إلا بعقد ومهر جديدين . فإن طلقها ثالثة فقد أوقع ثلاث تطليقات ، وبانت منه بينونة كبرى ، لا يجوز له أن يراجعها إلا بعد أن تتزوج شخصاً آخر ويدخل بها وتنقضي عدتها منه قال الله تعالى : { الطلاق مرتان ، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما اقتدت به ، تلك حدود الله فلا تعتدوها ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون . فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ، فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ، وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } ، فالله تعالى علم المسلمين في الآية كيف يطلقون ، فقال : { الطلاق مرتان} ثم خيرهم بعد أن علمهم بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن ، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي عليهم . ثم قال : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ، أي فإن طلقها ثالثة بعد المرتين السابقتين فلا تحل له من ذلك التطليق حتى تتزوج غيره ، ثم قال : { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا } ، أي فإن طلقها الزوج الثاني فيجوز حينئذ للزوج الأول أن يراجعها له بعقد ومهر جديدين . وفاعل كلمة طلقها الثاني يعود على أقرب مذكور وهو كلمة { زوجاً غيره } أي الزوج الثاني ، وفاعل يتراجعا يعود على الزوج الأول . أي لا مانع من أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج . وعلى ذلك فإن الرجل يملك على المرأة ثلاث تطليقات ، منها اثنتان يجوز له أن يراجعها فيهما ، والثالثة لا يجوز أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره .

    والطلاق بيد الرجل وليس بيد المرأة وهو الذي يملكه وليست هي . أما لماذا يكون بيد الرجل فلأن الله تعالى قد جعله بيده ، ولم يرد من الشرع تعليل لذلك ، فلا يعلل . نعم إن التبصر في واقع الزواج والطلاق يري أنه لما كان الزواج ابتداء حياة زوجية جديدة كان الرجل والمرأة متعاونين في اختيار كل منهما زوجه الذي يريده ، وكان لكل منهما التزوج بمن يشاء ، ورفض الزواج بمن يشاء ، ولكن لما حصل الزواج بالفعل ، وأعطيت قيادة الأسرة للزوج ، وجعلت له القوامة عليها ، كان من المحتم أن يكون الطلاق بيد الرجل ، وأن يكون من حقه ، لأنه رئيس العائلة ورب الأسرة . فعليه وحده ألقيت مسئولية البيت وتكاليفه . فيجب أن تكون له وحده صلاحية حل عقدة التزويج . فالصلاحية بقدر المسئولية ، والتفريق بين الزوجين بيد القوام منهما على الآخر ، ولكن هذا وصف لواقع موجود ، وليس تعليلاً لحكم شرعي ، لأن علة الحكم الشرعي لا يجوز أن تكون إلا علة شرعية قد وردت في نص شرعي .

    غير أنه ليس معنى كون الطلاق بيد الرجل ، وله وحده ، أنه لا يجوز لها أن تطلق نفسها وتحدث فرقة بينها وبينه ، بل إن الصلاحية له وحده أصلاً ، وإطلاقاً ، دون أي تقييد بحالة من الحالات ، بل له أن يطلق حتى ولو كان ذلك لغير سبب . ولكن الزوجة لها أن تطلق نفسها ، وتوقع الفرقة بينها وبين الرجل في حالات معينة ، نص عليها الشرع . فقد أباح لها الشرع أن تفسخ عقد النكاح في الأحوال الآتية :

    1 - إذا جعل الزوج أمر طلاقها بيدها . فإن لها أن تطلق نفسها حسب ما ملكها إياه . فتقول طلقت نفسي من زوجي فلان ، أو تخاطبه قائلة طلقت نفسي منك . ولا تقول طلقتك ، أو أنت طالق ، لأن الطلاق يقع على المرأة لا على الرجل ، حتى لو صدر الطلاق منها . وإنما جاز أن يجعل الزوج أمر الطلاق بيد الزوجة لأن الرسول r خير نساءه ولإجماع الصحابة على ذلك .

    2 - إذا علمت أن في الزوج علة تحول دون الدخول ، كالعنة ، والخصاء إذا كانت سالمة من مثلها . فإن لها في مثل هذه الحالة أن تطلب فسخ نكاحها منه ، فإذا تحقق الحاكم وجود العيب أجله سنة فإنه لم يصبها أجيب طلبها وفسخ النكاح . فقد روي أن ابن منذر تزوج امرأة وهو خصي فقال له عمر أعلمتها قال لا . قال أعلمها ثم خيرها . وروي أن عمر أجل العنين سنة . وإذا وجدت المرأة زوجها مجبوباً أو مشلول الذكر ثبت لها الخيار في الحال ، ولا يضرب لها أجل ، لأن الوطء ميئوس منه ولا معنى لانتظاره .

    3 - إذا ظهر للزوجة قبل الدخول أو بعده أن الزوج مصاب بمرض من الأمراض التي لا يمكن الإقامة بها معه بلا ضرر ، كالجذام والبرص ، والزهري والسل ، أو طرأ عليه مثل هذه الأمراض ، فإن لها أن تراجع القاضي وتطلب التفريق بينها وبي نزوجها ، ويجاب طلبها إذا ثبت وجود هذا المرض ، وعدم إمكان البرء منه في مدة معينة . وخيارها دائم وليس بمؤقت ، وذلك لما ورد في الموطأ عن مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب أنه قال : " أيما رجل تزوج امرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخير فإن شاءت قرت ، ون شاءت فارقت " .

    4 - إذا جن الزوج بعد عقد النكاح ، فللزوجة أن تراجع القاضي وأن تطلب تفريقها منه . والقاضي يؤجل التفريق مدة سنة . فإذا لم تزل الجنة في هذه المدة ، وأصرت الزوجة ، يحكم القاضي بالتفريق وذلك لحديث الموطأ السابق .

    5 - إذا سافر الزوج إلى مكان ، بعد أو قرب ، ثم غاب وانقطعت أخباره وتعذر عليها تحصيل النفقة ، فإن لها أن تطلب التفريق منه بعد بذل الجهد في البحث والتحري عليه وذلك لقول الرسول r عن الزوجة تقول لزوجها " أطعمني وإلا فارقني " فجعل عدم الإطعام علة للفراق .

    6 - إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته وهو موسر ، وتعذر عليها الوصول إلى ماله للإنفاق بأي وجه من الوجوه فإن لها أن تطلب التطليق وعلى القاضي أن يطلق عليه في الحال دون إمهال ، لأن الرسول يقول : " امرأتك ممن تعول تقول أطعمني وإلا فارقني " ولأن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا ، وقد عرف الصحابة ذلك ولم ينكروا عليه فكان إجماعاً .

    7 - إذا ظهر بين الزوجين نزاع وشقاق ، فإن لها أن تطلب التفريق ، وعلى القاضي أن يعين حكماً من أهل الزوجة ، وحكماً من أهل الزوج ، والمجلس العائلي هذا يصغي إلى شكاوي الطرفين ، ويبذل جهده للإصلاح ، وإن لم يمكن التوفيق بينهما يفرق هذا المجلس بينهما على الوجه الذي يراه ، مما يظهر له من التحقيق . قال تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } .

    ففي هذه الحالات أعطى الشرع للمرأة حق تطليق نفسها في الحالة الأولى ، وحق طلب التفريق بينهما وبين زوجها في الحالات الباقية . وواقع هذه الحالات يري أن الشارع نظر إلى أن المرأة صاحبة الزوج في هذه الحياة الزوجية ، وكل كدر ومقت يحصل في البيت يصيبها كما يصيب الزوج ، فكان لا بد من أن يضمن لها أن تتلخص من الشقاء إذا أصابها في البيت ، بحل عقدة الزواج من قبلها ، ولذلك لم يتركها الشارع مجبرة على البقاء مع الزوج إذا تعذرت الهناءة الزوجية . فأباح لها الشرع أن تفسخ عقد النكاح في الأحوال التي يتحقق معها عدم إمكانية العشرة ،أو عدم توفر الهناءة الزوجية .

    وبهذا يبين أن الله قد جعل الطلاق بيد الرجل ، لأنه هو القوام على المرأة ، والمسئول عن البيت وجعل للمرأة حق الفسخ للنكاح ، حتى لا تشقى في زوجها ، ولا يصبح البيت الذي هو محل هناء واستقرار موطن شقاء وقلق لها .

    أما ما هي العلة في مشروعية الطلاق فقد قلنا إن النصوص الشرعية لم تعلل الطلاق فلا علة له ولكنه يمكن بيان واقع تشريع الطلاق ، والكيفية التي وردت فيها مشروعيته بالنسبة للزواج ، ولما يترتب عليها . فإن واقع الزواج يدل على أنه وجد من أجل تكوين الأسرة ، وتوفير الهناء لهذه الأسرة . فإذا حدث في هذه الحياة الزوجية ما يهدد هذا الهناء ، ووصل الحال إلى حد تتعذر فيه الحياة الزوجية فلا بد أن تكون هنالك طريقة يستعملها الزوجان للانفكاك من بعضهما . ولا يجوز أن يرغما على بقاء هذه الرابطة على كره منهما ، أو من أحدهما . وقد شرع الله الطلاق . قال تعالى : {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} حتى لا يظل الشقاء في البيت ، وحتى تظل الهناءة الزوجية قائمة بين الناس . فإن تعذر قيامها بين اثنين لعدم توافق طباعهما ، أو لأنه طرأ ما أفسد عليهما حياتهما كان لهما أن يعطيا فرصة ليعمل كل منهما على إيجاد الهناءة الزوجية مع آخر . إلا أن الإسلام لم يجعل مجرد التذمر والكراهة سبباً للطلاق . بل أمر الزوجين بالعشرة بالمعروف ، وحث على تحمل الكراهة فلعل فيها خيراً . قال تعالى : { وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . وأمر الرجال باستعمال الوسائل التي بها يخففون من حدة النساء من نشوزهن . فقال تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن } وهكذا أمر باتخاذ كافة الأسباب اللينة ، وغير اللينة ، لمعالجة المشاكل التي تحصل بين الزوجين ، معالجة تحول بينهما وبين الطلاق . حتى إذا لم تنفع العشرة بالمعروف ، ولم ينفع غيرها من الوسائل الشديدة ، وتجاوز الأمر الكراهة والتذمر والنشوز ، إلى النزاع والشقاق ، فإن الإسلام لم يجعل الخطوة الثانية هي الطلاق ، بالرغم من شدة الأزمة بينهما . بل أمر أن يحال الأمر إلى غير الزوجين من أهليهما ،ليقوما بمحاولة الإصلاح مرة أخرى ، فقال تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً } ، فإن لم يستطع هذان الحكمان أن يوفقا بين الزوجين فحينئذ لا مجال لإبقاء الحياة الزوجية بينهما بعد كل هذه المحاولات . إذ تكون العقدة النفسية عندهما غير قابلة للحل إلا بالتفريق بينهما . فكان لابد من الطلاق لعلهما يجدان الهناءة الزوجية ، أو لعل هذه العقدة تحل بهذا الطلاق ، قال تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً } .

    إلا أن هذا الطلاق قد تركت فيه كذلك الفرصة للزوجين ولم يكن فراقاً حاسماً بينهما ، بل جعل لهما حق المراجعة للمرة الأولى ، والثانية . إذ قد يثير بينهما الطلاق الأول أو الثاني في نفس الزوجين رغبة جديدة لمعاودة الحياة الزوجية بينهما مرة ثانية بعد الطلقة الأولى ، ومرة ثالثة بعد الطلقة الثانية ، ومن هنا نجد أن الشرع جعل الطلاق ثلاث مرات ، فقال تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } حتى يترك للزوجين أن يراجع كل منهما نفسه ، وأن يرجع إلى تقوى الله المتركز في صدره ، فلعلهما يحاولان إعادة تجربة الحياة الزوجية مرة أخرى ، فينالان الهناءة الزوجية أو الراحة والطمأنينة التي لم يكونا ينالانها من قبل . ومن هنا نجد أن الإسلام أباح للزوج أن يراجع زوجته بعد الطلقة الأولى والثانية . كما أنه جعل ما يساعد الزوجين على مراجعة نفسهما ، وإعادة التفكير في الأمر ، والنظر إليه نظرة جدية أكثر مما كانا ينظران إليه . إذ جعل فترة العدة بعد الطلاق ثلاث حيضات ، وهي تقرب من ثلاثة أشهر ، أو وضع الحمل ، وجعل على الزوج واجب الإنفاق على هذه المطلقة وإسكانها طوال مدة العدة ، ومنع الزوج من إخراج معتدته حتى تستوفي عدتها ، وذلك تأليفاً للقلوب ، وتصفية للنفوس . وإفساحاً للطريق التي بها يرجعان إلى بعضهما ، ويستأنفان الحياة الصافية الجديدة ، ووصى من هذه الناحية توصيات صريحة في القرآن قال تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } فإن لم تؤثر هذه المعاملات ، أو أثرت بعد الطلقة الأولى والثانية ثم حصلت الثالثة رغم كل ذلك فإن المسألة حينئذ تكون أعمق جذوراً ، وأكثر تعقيداً وأشد شقاقاً ، ولا فائدة حينئذ من المراجعة ، فضلاً عن بقاء الزواج . فكان لا بد من الفراق التام واستئناف عشرة أخرى حتماً . دون إعادة التجربة الفاشلة لنفس العشرة ، قبل تجربة عشرة أخرى . ولذلك جعل الطلاق الثالث حاسماً ، فقال تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ومنع مراجعة الزوج لزوجته مطلقاً بعد الطلقة الثالثة حتى تعاشر زوجاً آخر غيره ، ويدخل بها . " حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها " لتختبر العشرة الزوجية كاملة . فإن جربت عشرة زوجية أخرى مع غيره تجربة طبيعية ، ولم تجد في هذه العشرة الثانية راحتها وطمأنينتها ، وحصل الفراق بينهما وبين زوجها الثاني ، فحينئذ صار بإمكانها أن ترجع إلى العشرة الزوجية مع الزوج الأول ، لأنها تكون قد مرت في تجربة ثانية للعشرة الزوجية مع الزوج الثاني ، ووازنت بينهما . فحين تختار الرجوع تختار عن معرفة . ومن هنا نجد الشارع قد أباح لها الرجوع إلى الزوج الأول الذي طلقها ثلاثاً بعد زواجها من زوج آخر . قال تعالى { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ثم قال بعد ذلك مباشرة في نفس الآية { فإن طلقها } أي الزوج الثاني الذي هو غير الأول { فلا جناح عليهما } أي الزوج الأول ومطلقة الثاني { أن يتراجعا } أي يرجع كل واحدة منهما إلى صاحبة بالزواج .

    هذا هو ما ترشد إليه كيفية تشريع الطلاق ، وبها يظهر ما في تشريع الطلاق وطريقة تشريعه ، وكيفية إيقاعه من الحكمة البالغة ، والنظر الدقيق للحياة الاجتماعية ، ليضمن لها العيش الهنيء . فإن فقدت هذه الهناءة ، ولم يبق أمل في إرجاعها كان لا بد من انفصال الزوجين . ولذلك شرع الله الطلاق على الوجه الذي بيناه .




    النسب

    اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون المرأة هي محل الحمل والولادة ، ولذلك وجب أن تقصر المرأة في التزوج على رجل واحد ، ومنعت من التزوج بأكثر من زوج . وحرم ذلك عليها حتى يمكن كل شخص أن يعرف من انتسب إليه . وقد عني الشرع بثبوت النسب وبين حكمه أتم بيان .

    وأقل مدة الحمل ستة أشهر ، وغالبه تسعة أشهر ، وطوله سنتان ، والزوج إذا ولدت امرأته ولداً يمكن أن يكون منه بأن ولدته لستة أشهر فأكثر من تاريخ زواجه بها فهو ولده ، لقول النبي r " الولد للفراش " . والحاصل : أنه ما دامت المرأة في زوجية الزوج وولدت ولداً بأكثر من ستة أشهر من الزواج فهو ولد الزوج مطلقاً .

    إلا أن الزوج إذا ولدت امرأته ولداً لستة أشهر فأكثر وتحقق أن هذا الولد ليس منه فإنه يجوز له أن ينفيه بشروط لا بد من تحقيقها ، فإذا لم تحقق هذه الشروط لا قيمة لنفيه بل يبقى ولده شاء أو أبى . وهذه الشروط هي :

    أولاً : أن يكون الذي ينفيه منه قد ولد حياً فلا ينفي نسب الولد إذا نزل ميتاً لأنه لا يلحق نفيه حكم شرعي .

    ثانياً : أن لا يكون قد أقر صراحة أو دلالة بأنه ابنه ، فإذا أقر صراحة أو دلالة بأنه ابنه ، فلا يصح أن ينفي نسبه بعد ذلك .

    ثالثاً : أن يكون نفي الولد في أوقت مخصوصة وأحوال مخصوصة ، وهي وقت الولادة ، أو وقت شراء لوازمها ، أو وقت علمه بأن زوجته ولدت أن كان غائباً ، ولا ينتفي نسب الولد إذا نفاه في غير هذه الأوقات والأحوال . فإذا ولدت امرأته ولداً فسكت عن نفيه مع إمكانه ، لزمه نسبه ولم يكن له نفيه بعد ذلك . ويتقدر الخيار بمجلس علمه وبإمكان النفي ، فإن علم بالولد وأمكنه نفيه ولم ينفه ثبت نسبه ، لأن رسول الله r يقول : " الولد للفراش " فإن ادعى أنه لا يعلم بالولادة وأمكن صدقه بأن يكون في موضع يخفى عليه ذلك ، مثل أن يكون في محلة أخرى ، أو في بلد آخر ، فالقول قوله مع يمينه ، لأن الأصل عدم العلم . وإن لم يمكن صدقه كأن يكون معها في الدار لم يقبل لأن ذلك لا يكاد يخفى عليه ، وإن قال علمت ولادته ولم أعلم أن لي نفيه ، أو قال علمت ذلك ولم أعلم أن عليَّ أن أنفيه فوراً ، وكان مما يخفى عليه ذلك كعامة الناس ، قبل منه ، لأن هذا الحكم مما يخفى على العامة فأشبه ما لو كان حديث عهد بالإسلام . وكل حكم كان مما يخفى مثله على مثله يعذر الجهل فيه ، كمن هو حديث عهد بالإسلام . وإن كان مما لا يخفى مثل هذه الحكم على مثل ذلك الرجل لا يعذر الجهل فيه .

    رابعاً : أن يعقب نفي الولد اللعان أو أن يفيه باللعان ولا ينتفي الولد عنه إلا أن ينفيه باللعان التام .

    فإذا تحققت هذه الشروط الأربعة نفي الولد ، والحق بالمرأة ، فقد روى ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله r وانتفى من ولدها ففرق رسول الله بينهما ، والحق الولد بالمرأة . وإذا لم تتحقق شروط نفي الولد فلا ينفى ، ويثبت نسبه من الزوج ، وتجري عليه جميع أحكام البنوة . هذا إذا كان الخلاف على حصول الولادة من الزوج ، إما إذا حصل الخلاف بين الزوجين على حصول الولادة من الزوجة ، بأن ادعت الزوجة أثناء قيام الزوجية بينهما أنها ولدت منه ولداً وجحد الزوج ذلك . بأن قال لم يحصل منك ولادة ، فلها أن تثبت دعواها بشهادة امرأة مسلمة ، وتكفي في هذه الحالة شهادة امرأة واحدة ، لأن النسب ثابت بوجود الفراش . والولادة يصح أن تثبت بشهادة امرأة واحدة مستوفيه شروط الشهادة .




    اللعان

    اللعان مشتق من اللعن ، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً . والأصل فيه قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدراً عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } . وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً فرأى بعينه وسمع بأذنيه فلم يهجه حتى أصبح ، ثم غدا على رسول الله r ، فقال : " يا رسول الله إني جئت أهلي فوجدت عندهم رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله r ما جاء به ، واشتدت عليه فنزلت { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم } الآيتان كلاهما . فسري عن رسول الله r ، فقال : " أبشر يا هلال قد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً . قال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي تبارك وتعالى . فقال رسول الله r أرسلوا إليها . فأرسلوا إليها . فتلاها عليها رسول الله r وذكرهما وأخرهما أن عذاب الآخر أشد من عذاب الدنيا . فقال هلال والله لقد صدقت عليها . فقالت كذب . فقال رسول r : " لاعنوا بينهما " فقيل لهلال : أشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . فلما كانت الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها . فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قيل لها اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فلما كانت الخامسة قيل لها اتقى الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة . أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله r بينهما وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت .

    فإذا قذف رجل زوجته فقال لها زنيت ، أو يا زانية أو رأيتك تزنين ولم يأت ببينة لزمه الحد إن لم يلتعن . فإن التعن هو ولم تلتعن هي عليها الحد لقول الله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات } ، والعذاب الذي يدرأ عنها هو الحد المذكور في قوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } ، لأن هلالاً بن أمية لما قذف امرأته وأتى النبي r فأخبره أرسل إليها فلاعن بينهما . وهذه حالة خاصة من الحالات التي ثبت فيها الزنا وهي حالة ما إذا رمى الزوج زوجته بالزنا فإنه يثبت بلعانه وعدم لعانها ، فإن لاعنت لا يثبت ، فنكولها عن اللعان يثبت الزنا عليها ، ويوجب عليها الحد بلعانه .

    فإذا تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبداً ، وحرمت عليه على التأبيد . لأن النبي r فرق بين المتلاعنين . روى مالك عن نافع عن ابن عمر " أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله r وانتفى من ولدها ففرق الرسول بينهما فألحق الولد بالمرأة " وروى سهل بن سعد قال : " مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً " وهذه الفرقة باللعان فسخ لأنها توجب تحريماً على التأبيد ، فلا تحل له حتى لو أكذب نفسه . إلا أنها إذا عاد وأكذب نفسه فلها عليه الحد ، ويلحقه نسب الولد سواء أكذب نفسه قبل لعانها أو بعده .

    واللعان الذي يبرأ به الزوج من الحد ويوجب الحد على الزوجة إن نكلت عن اللعان هو أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم أشهد بالله لقد زنت ويشير إليها ، وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها حتى يكمل ذلك أربع مرات ثم يوقف عند الخامسة ويقال له اتق الله فإنها الموجبة ، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فإن أبى إلا أن يتم فليقل : ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا . وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب أربع مرات ثم توقف عند الخامسة ، وتخوف كما خوف الرجل ، فإن أبت إلا أن يتم فلتقل : وغضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به من الزنا . فإن كان بينما ولد ذكر الولد في اللعان ، فإذا قال أشهد بالله لقد زنت ، يقول : وما هذا الولد ولدي . وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب ، وهذا الولد ولده .

    هذه هي كيفية الملاعنة وهذه هي ألفاظها وجملها ، ولذلك لو أن المرأة ولدت فقال زوجها ليس هذا الولد مني ، أو قال ليس هذا ولدي ، فلا حد عليه لأن هذا ليس بقذف ولكنه يسأل فإن قال زنت فولدت هذا من الزنا ، فهذا قذف يثبت به اللعان . وإن قال أردت أنه لا يشبهني خلقاً ، أو قال وطئت بشبهة والولد من الواطئ ، أو ما شاكل ذلك فلا حد عليه ، ويلحقه نسب الولد ، لأنه لم يقذفها . ولا لعان في هذه المواضع ، لأن من شرط اللعان القذف .




    ولاية الأب

    لما كان الأب هو رئيس الأسرة ، وهو قائدها والقوام عليها كان لا بد أن تكون له الولاية عليها ، فكان هو الولي على الأولاد . وله الولاية على أولاده الصغار والكبار غير المكلفين ، ذكوراً وإناثاً ، في النفس والمال ، ولو كان الصغار في حضانة الأم أو أقاربها .

    والشخص إما أن يكون صغيراً ، وإما أن يكون كبيراً . والكبير إما أن يكون عاقلاً ، أو غير عاقل . فإن كان كبيراً عاقلاً فلا ولاية لأحد عليه من حيث النفس والمال ، بل هو الذي يتولى أمور نفسه . ولكن يبقى حق الولاية للأب . وإن كان صغيراً أو كبيراً غير عاقل ، بأن كان مجنوناً أو معتوهاً ، فإن ولايته لا تكون لنفسه ، لأنه عاجز عن ذلك ، وإنما تكون الولاية عليه لأبيه . وتستمر هذه الولاية ما دام الوصف الموجب لها موجوداً وهو الصغر ، وعدم العقل . فإن بلغ الولد الصغير ، أو شفي الولد الكبير من الجنون والعته ، انقطعت الولاية عنه . وصار هو ولي أمر نفسه ، وتبقى للأب عليهما ولاية ندب واستحباب . لأن له حق الولاية دائماً .




    كفالة الطفل

    كفالة الطفل فرض لأنه يهلك بتركه ، فهي من قبيل حفظ النفس الذي أوجبه الله ، فيجب حفظه من الهلاك ، وانجاءه من المهالك . إلا أنه مع كون كفالة الطفل فرضاً فإنه يتعلق بها حق قرابته ، لأن فيها استحقاقا للطفل ، فيتعلق بها الحق كما يتعلق بها الواجب . والكفالة حق لكل طفل ، ولكل من أوجب الله عليهم كفالته . وتكون فرضاً على الحاضن إذا تعين هو بعينه . أما حق من أوجب الله عليه الكفالة في أخذ هذه الكفالة فإنه خاص بمن هو أهل لها ، وليس عاماً فلا تثبت الكفالة لمن يضيع الطفل عنده ، فيتعرض تعرضاً حتمياً للهلاك . وعليه فلا تثبت الحضانة لطفل ، ولا معتوه ،لأن كلاً منهما لا يقدر عليها ، وهو نفسه محتاج لمن يكفله ، فكيف يكفل غيره . وكذلك لا تثبت الكفالة لمن يتحقق فيه أن الولد يضيع عنده ، لإهماله له ، أو لانشغاله عنه بأعمال لا تمكنه من حضانته ، أو لاتصافه بصفات كالفسق مثلاً من شأنها أن تنشئ الطفل نشأة فاسدة ، لأن الفساد يعتبر من الهلاك . أما الكافر فلا يتصور أن يكون أباً لولد أمه مسلمه ، لعدم جواز أن تتزوج المسلمة من كافر ، فيتعين إذن أن تكون المستحقة لكفالة الطفل امرأة أماً أو غيرها . وفي هذه الحال ينظر ، فإن كان الطفل كبيراً في سن يعقل فيها الأشياء ، ويدرك الفرق بين معاملة أمه ومعاملة أبيه ، كأن كان فوق سن الفطام فإنه في هذه الحال يخير بين أبويه فأيهما اختاره ضم إليه . لما روى أبو داود عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سنان : " أنه أسلم ، وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي r فقالت : ابنتي وهي فطيم أو شبهه . وقال رافع ابنتي . فقال النبي r : أقعد ناحية . وقال اقعدي ناحية . وقال أدعواها ، فمالت الصبية إلى أمها . فقال النبي r : " اللهم أهدها . فمالت إلى أبيها فأخذها " . وقد روى هذا الحديث أحمد والنسائي بألفاظ أخرى ولكن نفس المعنى الموجود في هذه الرواية .

    وإن كان الطفل صغيراً في سن لا يعقل فيها الأشياء ، ولا يدرك الفرق بين معاملة أمه ، ومعاملة أبيه ، بأن كان في سن الفطام وما دونها أو فوقها . ولكن قريباً منها فإنها لا يخير ، بل يضم إلى أمه . وذلك لمفهوم حديث رافع بن سنان المار . ولأن الثابت أن الأم أحق بحضانة الطفل ، ولم يرد نص يمنعها من حضانته . ولا يقال هنا أن الكفالة ولاية فلا تثبت لكافر على مسلم لأن واقعها أنها حضانة وخدمة ، وليست ولاية فلا تنطبق عليها أحكام الولاية .

    والأم أحق بكفالة الطفل ، والمعتوه إذا طلقت . لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص : " أن النبي قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وثديي له سقاء وحجري له حواء ، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني . فقال رسول الله r أنت أحق به ما لم تنكحي " . وروى ابن أبي شيبة عن عمر أنه طلق أم عاصم ثم أتى عليها ، وفي حجرها عاصم ، فأراد أن يأخذه منها ، فتجاذباه بينهما حتى بكى الغلام ، فانطلقا إلى أبي الصديق فقال " مسحها وحجرها وريحها خير له منك حتى يشب الغلام فيختار لنفسه " . فإن لم تكن الأم من أهل الحضانة لفقدان الشروط التي ذكرت فيها ، أو بعضها كأن كانت متزوجة أو معتوهة ، أو ما شاكل ذلك فهي كالمعدومة ، وتنتقل إلى من يليها في الاستحقاق . ولو كان الأبوان من غير أهل الحضانة انتقلت إلى من يليهما ، لأنهما كالمعدومين . وأولى الكل بالحضانة الأم ، ثم أمهاتها وإن علون يقدم منهن الأقرب فالأقرب ، لأنهن نساء ولادتهن متحققة ، فهي في معنى الأم ، ثم الأب ، ثم أمهاته ثم الجد ، ثم أمهاته ، ثم جد الأب ، ثم أمهاته ، وإن كن غير وارثات ، لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة . فإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات ، وتقدم الأخت لأبوين ، ثم الأخت من الأب ، ثم الأخت من الأم ، وتقدم الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضانة ، فقدمت على من هو في درجتها من الرجال . وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى ، ثم الأخ للأب ، ثم أبناؤهما ، ولا حضانة للأخ للأم . فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات ، فإذا عدمن صارت العمات ، فإذا عدمن صارت الحضانة للعم لأبوين ، ثم للعم للأب ، ولا حضانة للعم من الأم ، فإذا عدموا صارت الحضانة إلى خالات الأم ، ثم إلى خالات الأب ، ثم إلى عمات الأب ، ولا حضانة لعمات الأم لأنهن يدلين باب الأم ولا حضانة له .

    ولا تنتقل الحضانة ممن يستحقها إلى من دونه إلا في حالة عدمه ، أو في حالة عدم أهليته . أما إن ترك من له حق الحضانة حضانة الطفل ، فإنه لا تنتقل الحضانة إلى من يليه إلا إذا كانت كفالة الطفل تتحقق فيه ، لأن الحضانة وإن كانت حقاً للحاضن فهي في نفس الوقت واجب عليه ، وحق للمحضون فلا يتأتى له تركها إلا إذا قام بالواجب من هو أهل للقيام به ، وحينئذ تنتقل الحضانة إلى من يلي الحاضن الذي ترك حضانته على الترتيب السابق . وإذا أراد من أسقط حقه في الحضانة الرجوع إلى استيفاء حقه ، وكانت أهليته للحضانة لا زالت قائمة فإن له ذلك ، ويعود الطفل إليه . وكذلك إذا تزوجت الأم ، وسقط حقها في الحضانة ، ثم طلقت رجعت على حقها من كفالة الطفل ، وكذلك كل قرابة تستحق بها الحضانة ومنع منها مانع إذا زال المانع عاد حقهم من الحضانة لأن سببها قائم .

    وإذا اختصم جماعة في طفل أيهما أحق بحضانته يرجح من يكون من فرع من هو أحق بالحضانة . فعن البراء بن عازب أن ابنة حمزة اختصم فيها على وجعفر وزيد ، فقال علي أنا أحق بها هي ابنة عمي ، وقال جعفر بنت عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد ابن آخى . فقضى بها رسول الله r لخالتها ، وقال : " الخالة بمنزلة الأم " .

    وهذا كله في الطفل الذي يحتاج إلى كفالة من أجل حفظه من الهلاك . أما الطفل الذي بإمكانه أن يستغني عن الكفالة ، فإنه باستغنائه تذهب علة كفالته ، وبذهابها يذهب الحكم ، وهو وجوب كفالته وحق قريبه بالكفالة ، وحينئذ ينظر فإن كان الذي له حق الكفالة كالأم كافراً فإنه يؤخذ منه ويعطى لمن له الولاية عليه ، لأن واقعه صار ولاية لا كفالة . والولاية لا تجوز لكافر لقوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } ، ولقوله r : " الإسلام يعلو ولا يعلى عليه " وهو عام ولم يأت ما يخصصه ، لأن حديث الحضانة المخصص لا ينطبق عليه حينئذ لاستغنائه عن الحضانة . وأما إن كان من له الكفالة ، ومن له الولاية مسلمين ، بأن كان الأب والأم مسلمين فإن الغلام أو الجارية ، أي الصبي أو البنت ، يخير بين أبيه وأمه ، فأيهما اختار ضم إليه . لما روى أحد وابن ماجة والترمذي : " عن أبي هريرة أن النبي r خير غلاماً بين أبيه وأمه " . وفي رواية أبي داود : " أن امرأة جاءت فقالت : يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عنبة ، وقد نفعني ، فقال رسول الله r : استهما عليه فقال زوجها من يحاقني في ولدي ، فقال النبي r : هذا أبوك ، وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به " . وقد أخرج البيهقي عن عمر أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه . وأخرج أيضاً عن علي أنه خير عمارة الجذمي بين أمه وعمته وكان ابن سبع أو ثماني سنين . فهذه الأحاديث صريحة وفيها دليل على أنه إذا تنازع الأب والأم في ابن لهما كان الواجب هو تخييره فمن اختاره ذهب به . أما الاستهام الوارد في رواية أبي داود ، فإنه لم يرد في رواية النسائي ، ولا في باقي الروايات فيحمل على حالة عدم اختيار الولد أحداً منهما . ولا يقيد التخيير بسن معينة ، بل يرجع ذلك إلى الحاكم فيما يراه حسب تقدير الخبراء . فإن قالوا إنه قد استغنى عن الكفالة أي عن الحضانة ، وقنع الحاكم بذلك خيَّره ، وإلا تركه عند من لها حق حضانته . ويختلف ذلك في الأولاد باختلاف حالهم ، فقد يستغني ولد عن الكفالة وسنه خمس سنين ، وقد لا يستغني ولد آخر عنها وسنه تسع سنين . فالعبرة بواقع الولد من حيث استغناؤه عن الكفالة أو عدم استغنائه.




    صلة الرحم

    إن الله سبحانه وتعالى حين نهى عن العصبية الجاهلية إنما نهى عن جعل العصبية القبلية هي الرابطة بين أبناء الأمة الإسلامية ، ونهى عن تحكيمها في علاقات المسلمين . ولكنه أمر بصلة الأقارب وبرهم . روي أن رجلاً سأل النبي r من أبر ، قال : " أمك وأباك وأختك وأخاك " وفي لفظ " ومولاك الذي هو أدناك ، حقاً وواجباً ، ورحماً موصولاً " وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : " أتتني أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذا عاهدوا النبي مع ابنها فاستفتيت النبي r فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة . قال نعم صلي أمك " .

    وقد جعل الإسلام الأقارب قسمين أحدهما الأقارب الذين يمكن أن يرثوا الشخص إذا مات والثاني أولو الأرحام . أما الذين لهم حق الإرث فهم أصحاب الفروض والعصبات ، أما ذوو الأرحام فهم غير هؤلاء ، وهم من لا سهم له في الميراث وليس بعصبة . وهم عشرة أصناف : الخال والخالة ، والجد لأم ، وولد البنت وولد الأخت ، وبنت الأخ ، وبنت العم ، والعمة ، والعم لأم ، وابن الأخ لأم ومن أدلى بأحد منهم . وهؤلاء لم يجعل الله لهم نصيباً في ميراث الشخص مطلقاً ولا تجب نفقة أي منهم على الشخص . ولكن الله أمر بالصلة والبر بالأقارب جميعاً . فعن جابر رضي الله عنه عن النبي r قال : " إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه فإن كان له فضل فعلى عياله فإن كان له فضل فعلى قرابته " . وعن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال : " يا رسول الله . أخبرني بعمل يدخلني الجنة . فقال القوم ما له ، ما له ؟ فقال رسول الله r : أرب ما ، له . فقال النبي : " تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم " . فأمر بصلة الرحم ، ولم يبين هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي وردت بصلة الرحم هل المقصود هم ذوو الأرحام فحسب ، أم هم كل من انتسب إلى رحم الشخص . والظاهر من الأحاديث العموم ، فهو يشمل صلة كل واحد من الأرحام ، سواء أكان رحماً محرما أم رحماً غير محرم من العصبة أو ذوي الأرحام ، فإنهم كلهم يصدق عليهم أنهم ذوو أرحام ، وقد وردت عدة أحاديث في صلة الرحم فقد قال عليه الصلاة والسلام : " لا يدخل الجنة قاطع رحم " . وعن أنس بن مالك أن رسول الله r قال : " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " ، وينسأ له في أثره أي يؤخر أجله . وعن أبي هريرة عن النبي r قال : " إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ؟ قال : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى ، قال : فذلك لك ، ثم قال رسول الله r : فاقرؤوا إن شئتم { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} ، وقال عليه السلام : " ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " . وهذا كله يدل على الحث على صلة الرحم . وصلة الرحم تدل على مبلغ ما شرعه الله من الصلة والود بين الجماعة الإسلامية ، في صلة الأقارب بعضهم مع بعض ، والتعاون بينهم ، وعلى مبلغ عناية الشرع في تنظيم اجتماع المرأة بالرجل ، وتنظيم ما ينشأ عن هذا الاجتماع من علاقات ، وما يتفرع عنه ، فكان الشرع الإسلامي بالأحكام التي شرعت للناحية الاجتماعية في المجتمع خير نظام اجتماعي للإنسان .

مواضيع مشابهه

  1. إن الدين هو الإسلام -نشيد رائع-
    بواسطة فله الجزائريه في ركن الصوتيات والمرئيات
    الردود: 0
    اخر موضوع: 19-12-2009, 09:36 PM
  2. ضـــــروري بحث عن النظام المالي والإقتصادي في الإسلام
    بواسطة حلوه باخلاقي في ركن الجامعات والدراسات العليا
    الردود: 2
    اخر موضوع: 06-02-2009, 06:56 AM
  3. الردود: 15
    اخر موضوع: 30-04-2006, 05:48 PM
  4. الردود: 2
    اخر موضوع: 16-06-2003, 07:35 AM
  5. إن الدين عند الله الإسلام
    بواسطة الغيورة على الدين في الملتقى الحواري
    الردود: 6
    اخر موضوع: 22-02-2003, 08:19 PM

أعضاء قرؤوا هذا الموضوع: 0

There are no members to list at the moment.

الروابط المفضلة

الروابط المفضلة
لكِ | مطبخ لكِ