في الخمسين من عمري
بين سكون الليل وتلألؤ النجوم في السماء وضوء القمر الساطع الذي يكلل ذلك الأفق البعيد ببصيص من الأمل والفرح الكبيرين ،يضيء ذاك الشريط الذي يرتسم أمامي ليعيد ما مر علي من ذكريات بعضها يترك الأثر الكبير، والأخرى تمر مثل قصيرة تترك أثرا صغيرا ثم تقول وداعا ..............
سار ذاك الشريط الذي يحمل معه ذاك الماضي في مخيلتي ليذهب بي عند بعض الذكريات ،بعضها أضحكني وأسعدني ،وبعضها الآخر جعلني أهدر الدموع وايئس عندها، ولكن تعود ذكرى سعيدة لتحيني من جديد وترويني بمياه السعادة ليفوح عبير الابتسامة ..........
حتى وقفت عند ذاك المريول الأبيض الملطخ بالدم ،نعم اذكره وكأنه الآن هو أمامي اذكره وابكي والدموع ترسم أمامي تفاصيل تلك الذكرى التي كان قدرها أن تكون في عام 2008 قبل 35 عام .
حيث كنت أعيش أنا وعائلتي في مدينتي الغالية غزه كان يحتضننا بيتنا الدافئ يملئنا الحب و الحنان ....اذكر في داك الحين أننا لم نراجع عند طبيب قط و السبب هو أن أخي الأكبر كان طبيبا يعمل في إحدى مشافي غزه وهو من كان يساعدنا ، كنا سعداء تغمرنا الفرحة حتى أتت تلك الليلة الحالكة السواد لتمطر علينا قنابل العدو الصهيوني مثل المطر تحمل معها أوجاعا وآلاما وخوفا وتشردا لتهدم بيوتا كثيرة وتمحو الحنان و الدفء الذي كان فيها،آآآآه كم كانت تلك الأيام صعبه....
كان كل أطفال العالم بأمان وأنا وإخوتي و أصدقائي مهددين بالموت بأي لحظه ،مهددين بقنبلة تقتحم بيتنا دون استئذان دون أن تطرق الباب تدخل بيوتنا بكل وحشيه،اسمع أصوات الصراخ لكن لا أرى أي شيء فقد فرض عدونا الجبان الظلمة في كل مكان ،وكان البرد يسدل ستائره علينا ،فما كان بيدي غير أن أدعو الله أتوسل إليه أن يفك أسرنا...........
وفي هذه اللحظة جاء دور أخي ليساعد الجرحى ويسعفهم فهب
لنجدتهم ،لتتخذ أمي ركنا من زوايا بيتنا المعتم وتجلس فيه لتدعو لأخي أن يعينه الله ويساعده ،كان هناك القليل من سيارات الإسعاف منتشرة في أرجاء غزه وكان أخي ينتقل في إحداها إلى منطقه ما لإسعاف طفل من تحت الأنقاض مازال على قيد الحياة بعد أن مات جميع أفراد عائلته ،وصل أخي ونزل يركض لنجدة ذاك الطفل لكن رآه ذاك الجندي الإسرائيلي الجبان وأطلق رصاصته القذرة على أخي ،ومازال أخي مصرا على انقاد الطفل رغم الاصابه وبعد جهد استطاع أن ينقذه وحمله إلى سيارة الإسعاف وهو يصارع آلامه ،وإذا بذاك الجندي الإسرائيلي يطلق رصاصه تلو الأخرى على صدر أخي حتى فارق الحياة،فما كان ذنبه سوى انه يرتدي ذاك المريول الأبيض ويقوم بعمله الإنساني .......
مات أخي وماتت الفرحة بموته ولكن كما ذكرت سابقا إن الفرحة تعود مع الذكرى السعيدة ،فها أنا الآن في الخمسين من عمري ارث هذا المريول الأبيض من أخي وارتديه مره أخرى أعالج الأطفال ،الشيوخ،الشباب والنساء ، والطفل الذي ساعده أخي هاهو الآن يعيش في بيتنا بعد أن مات جميع افراد عائلته.
الروابط المفضلة