يكفينا شرفا وفخرا وعزا أن نبينا وصف بكريم الأخلاق من رب العالمين , نبي يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما .
فما أسمى صفة الحلم وأحبها إلى القلوب , وكم هي عظيمة تلك الصفة حتى جعلها الله عز وجل من علامات النبوة وبراهينها وما أروع الموقف الذي يتجلى فيه حلم النبوة فيهتدي به العقلاء إلى دين الله هداية قناعة ويقين ومحبة .
فالحلم هو ضبط النفس، وكظم الغيظ، والبعد عن الغضب، ومقابلة السيئة بالحسنة.
ولا يعني أن يرضي الإنسان بالذل أو يقبل الهوان، وإنما هو الترفع عن شتم الناس، وتنزيه النفس عن سبهم وعيبهم.
حلم الله
الحلم صفة من صفات الله - تعالى - فالله سبحانه هو الحليم، يرى معصية العاصين ومخالفتهم لأوامره فيمهلهم، ولا يسارع بالانتقام منهم.
قال تعالى: { واعلموا أن الله غفور حليم } [البقرة: 235].
حلم الأنبياء
الحلم خلق من أخلاق الأنبياء، قال تعالى عن إبراهيم: {إن إبراهيم لأواه حليم} [التوبة: 114]، وقال عن إسماعيل: {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أحلم الناس، فلا يضيق صدره بما يصدر عن بعض المسلمين من أخطاء، وكان يعلم أصحابه ضبط النفس وكظم الغيظ.الحلم صفة يحبها الله -عز وجل-، قال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) [مسلم]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهْ، دعاه الله -عز وجل- على رءوس الخلائق يوم القيامة، يخيره من الحور العين ما شاء) [أبو داود والترمذي].
والحلم دليل على قوة إرادة صاحبه، وتحكمه في انفعالاته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصُّرْعَة - مغالبة الناس وضربهم - إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) [مسلم]
حلم الرسول صلى الله عليه وسلم
امتدح الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على أخلاقه كلها ، ومنها خلق الحلم , تلك الصفة التي تحلى بها نبينا عليه الصلاة السلام لتكون شامة في أخلاقه , فلقد نال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - السِبابَ من كافة طبقات المجتمع
فقد هجاه الشعراء , وسخر منه سادة قريش , ونال منه السفهاء بالضرب بالحجارة , وقالوا عنه ساحر ومجنون وغير ذلك من صور الأذى
وكانت تأتيه التسلية من الله الرؤوف الرحيم يخبره أنه ما أتي رسول من قبلك بما جئت به إلا وصفه قومه بالسحر أو الجنون
قال تعالى : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ( 52 ) أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) (الذاريات 53 )
وكان يتقبلها رسول الله بسعة صدر وعفو وحلم وتسامح ودعاء لمن آذاه بالمغفرة والرحمة , لأنه نبي الرحمة والعفو والتسامح والصبر والحلم , فقد أتى ليتمم مكارم الأخلاق .
قال النبي : { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } رواه أحمد والطبراني .
وقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة دليل على انتداحه لصفة الحلم: { إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة } رواه مسلم .
وما أجمل ما قال الشافعي رحمه الله:
يخاطبني السفيه بكل قبح**** فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما**** كعود زاده الإحراق طيبا
إذا نطق السفيه فلا تجبه**** فخير من إجابته السكوت
صور من حلمه صلى الله عليه وسلم وعفوه
عن أنس بن مالك قال : { بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مه مه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه دعوه فتركوه حتى بال
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر ، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن ،
أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. } رواه مسلم .
عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أدركه أعرابي فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة حتى نظر إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقد أثرت فيه حاشية الرداء من شدة جبذته
ثم قال: { يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فضحك وأمر له بعطاء. } رواه البخاري
وفي غزوة أحد شُجت وجنتاه, وكُسرت رباعيته, ودخلت حلقات من المغفر في وجهه - صلى الله عليه وسلم- فقال : { اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون } رواه البخاري .
ولما كسرت رباعيته وشج وجهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم غزوة أحد، شق ذلك على أصحابه ، وقالوا : لو دعوت عليهم ، فقال : ( إني لم أبعث لعانا ، ولكني بعثت داعيا رحمة لهم ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون }(مسلم).
قال القاضي عياض في كتابه الشفا
" قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان وحسن الخلق وكرم النفس وغاية الصبر والحلم ، إذ لم يقتصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم فقال : اغفر أو اهد ، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله لقومي ، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال : فإنهم لا يعلمون .." .
ولما خرج ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قبيلة ثقيف لدعوتهم إلى الله، وطلباً للحماية مما ناله من أذى قومه، ماشيا على قدميه في مرارة ومعاناة ، واجتمع مع هذه المشقة والمعاناة سوء مقابلة وسفاهة وإيذاء ، ولمَّا أمكنه الله منهم ظهر وعلا حلمه وعفوه عنهم ..
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: " هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟
قال: لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كُلاَل ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي
فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب ـ وهو المسمى بقَرْنِ المنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني
فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم .
فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال : يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين(الجبلين)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا " رواه البخاري .
حلمه مع أبي سفيان
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحلم الناس ، يتجاوز عن المسيء ، فيشرق ويضيء قلبه بالإسلام .. كما حدث مع أبي سفيان يوم جيء به إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له ـ مع شدة إيذائه له ـ : ( ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ ، قال : بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك )(الطبراني) ..
حلمه عن هند بنت عتبة
لما قتل وحشي حمزة جاءت هند إلى حمزة و قد فارق الحياة، فشقت بطنه و نزعت كبده، و مضغتها ثم لفظتها .
و أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دَمَهَا ولكنه من شدة عفوه وحلمه صفح عنها بعد إسلامها .
عن عائشة رضي الله عنها قالت: { قالت هند بنت عتبة يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يذلّوا من أهل خبائك , ثمّ أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحبّ إليّ أن يعزّوا من أهل خبائك } رواه البخاري ومسلم .
الخباء ما يعمل من وبر أو صوف أو شعر للسكن
حلمه عن عكرمة بن أبي جهل
كان عكرمة بن أبي جهل للإسلام مناوئا، وله محارباً، وقد شهد بدراً وما بعدها مع قومه، وكان على يقين أنه لن ينال عفو النبي- صلى الله عليه وسلم - ولن ينجو من سيوف المسلمين لو ظفروا به
فولى هارباً إلى اليمن، فلما رأت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام عفو النبي- صلى الله عليه وسلم- عن أمثاله
أتته فاستأمنت له من النبي صلى الله عليه وسلم فأمنه، فلحقت بزوجها عكرمة إلى اليمن، فجاءت به فأسلم وحسن إسلامه.
وعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - لعكرمة صدق إسلامه، وعلو منزلته في قريش، فرحمه وأعلى قدره، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يسبوا أباه وقال عليه الصلاة والسلام قبل أن يقدم عليه عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه:{ يأتيكم عكرمة مؤمنا مهاجرا فلا تسبّوا أباه فإنّ سبّ الميت يؤذي الحيّ ولا يلحق الميتَ }. رواه بن عساكر
فما أحوجنا إلى الاقتداء به ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حلمه وعفوه ، بل في أخلاقه كلها ، وفي ذلك سعادة الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }(الأحزاب: من الآية21) ..
الروابط المفضلة