(13)
أصبح الذهاب للعمل أمراً شاقاً علىّ .. لقد كنت أحظى بالسلام فى مكتبى الصغير أمام حاسوبى المهذب .. الآن أنا أذهب لساحة حرب يديرها عقلى وقلبى وأفكارى ومشاعرى كلهم يتصارعون معاً بلا توقف
هذا بخلاف أن هناك توتر ما .. هناك أجواء مشحونة فى شركتنا .. المدير الجديد يضعنا جميعاً تحت المجهر .. يبدو أنه لا يتهاون فى العمل .. وأنه يقيّم الموظفين بلا مجاملة لأحد .. لقد أنذر البعض لتأخرهم عن موعد العمل الرسمى .. لفت نظر البعض لأخطاء ما فى أدائهم .. لقد خصم من رواتب الآخرين لإهمالهم .. وهناك موظفين اختفوا فعلياً من الشركة .. الحق أن القلق قد أصاب الجميع ومن الطبيعى أن ينتقل إلىّ .. صحيح أننى موظفة ملتزمة بل حصلت على لقب الموظفة المثالية العام الماضى .. ولم يحدث أننى تأخرت عن عملى يوماً ما ولا كان هناك أى تقصير فى أدائى .. والحمد لله أننى لم أرتكب أخطاء جسيمة امممم بخلاف ذلك الموقف الذى تتذكرونه ولا شك أن مديرنا الكبير يذكره أيضاً
كنت أعمل على الملفات الموضوعة على مكتبى بنصف عقل والنصف الآخر منشغل بالتفكير فى أمور معقدة ومتشابكة لدرجة مرعبة .. كيف يكون هذا المدير هو ذاته من يزورنى فى أحلامى منذ سنوات .. هل قابلته من قبل ولا أذكر .. لكنه يزورنى فى أحلامى من قبل أن ألتحق بوظيفتى فى تلك الشركة .. لا شىء منطقى هنا .. لا إجابة واحدة مقنعة .. كل الطرق فى تفسيرهذا الأمر تؤدى للجنون
قاطع أفكارى صوت يخبرنى أن المدير ينتظرنى بمكتبه .. نظرت ببلاهة له حتى انصرف صاحب الصوت .. هل جاء دورى إذن .. ترى ماذا سيكون مصيرى .. لا أشعر بالتفاؤل .. بل بالخوف .. الخوف من المدير اللامع كالشمس .. الخوف الذى لم أشعره يوماً معه فى أحلامى .. بل كان هناك الأمان والسعادة و....
قررت أن أكف عن التفكير فى السخافات وأن أتوجه لمكتب المدير فوراً .. ليكن قراره ما يكون .. سأتقبله بشجاعة .. لكنى لا أضمن ألا تفر منى تلك الشجاعة حين ألتقيه من جديد .. متى سينتهى هذا العذاب؟
طرقت باب المدير بيد مرتعشة .. نعم لقد فرت تلك الشجاعة المزعومة .. لقد تخلت عنى حتى قبل أن أدخل مكتبه .. سمعت صوت يدعونى للدخول .. خطوت للداخل وعينىّ تمسح الأرض شبراً شبرا حتى وقفت بمواجهة المكتب وأخذت نفس متقطع وأنا أرفع عينىّ نحوه
لم يكن هو هناك
لقد طالعنى وجه مديرى الوحيد الذى أعرفه منذ سنوات
وبقدر ما شعرت بالراحة لذلك بقدر ما شعرت بالحزن فقد كان جزء منى يتمنى رؤيته حقاً
- كيف حالكِ يا فاتن؟
هززت رأسى وأنا أتمتم بهمهمات غير مفهومة
أسند ظهره للمكتب وهو ينظر لبضعة أوراق أمامه ثم نظر نحوى
- تعرفين يا فاتن كم نقدر مجهودك وأدائكِ المتميز طوال فترة عملك فى الشركة
نظرت نحوه فى عدم فهم .. تلك المقدمة غير مريحة بالمرة
- حقاً يا فاتن أنتِ موظفة مجتهدة ولا تثيرين المشاكل و .....
قاطعته بصوت مرتجف
- ماذا هناك يا سيدى .. هل قررت الشركة الأم شىء ما بخصوصى .. هل مثلاً ...
- لا يا فاتن .. لا يذهب عقلكِ بعيداً .. هل يمكن لشركة ما أن تتخلى عن موظفيها المخلصين
تنهدت بارتياح قبل أن يقول
- ولكن هناك بعض التعديلات
- تعديلات؟
- نعم يا فاتن .. هناك قرار بنقلك إلى فرع شركتنا فى ...
- ماذا؟ نقلى أنا .. لماذا؟
- هذا ليس عقاباً يا فاتن بالعكس لقد تم نقلكِ لكونكِ موظفة ملتزمة وكفؤ بل وقرروا زيادة راتبكِ أيضاً
- لا أريد زيادة راتب .. ولا أريد ترك وظيفتى هنا .. أرجوك يا سيدى لا أريد تنفيذ قرار النقل هذا
- لا يمكنكِ الاعتراض يا فاتن .. القرار جاء من الشركة الأم ويجب عليكِ تنفيذ النقل خلال أسبوع واحد
- .........
- أرجو أن ترتبى أمورك وأنا متأكد أن الفرع الجديد سيكسب وجودك به وسيفخر بكِ كما فعلنا نحن
- يا سيدى أنا ..
- إنها ترقية يا فاتن .. لا تخسريها .. بل اثبتى وجودك هناك .. لا تخافى .. التغيير سنة الحياة .. ولا تعلمى ما الذى ينتظرك هناك .. ربما هو أفضل بكثير من بقائكِ هنا
هززت رأسى باستسلام وأنا أتسلم قرار نقلى ثم توجهت بخطوات بطيئة نحو الباب
- فاتن
التفت نحوه فابتسم فى وجهى
- سنفتقدكِ حقاً
بادلته ابتسامة باهتة وغادرته وأنا أشعر بالضياع
هذا ما منحنى إياه المدير القادم من الحلم .. صك طرد من عملى ومكتبى الصغير وكل الوجوه التى ألفتها واعتادت علىّ .. وقذف بى نحو مكان غريب ووجوه لا أعرفها بل وبلد آخر!
كيف يمكننى ترك هذا المكان .. كيف يمكننى التخلى عن كل ما ارتبطت به هنا .. مكتبى .. حاسوبى .. زملائى .. حتى مايا لقد شعرت فجأة أننى أفتقدها بشدة .. كيف يمكننى ترك كل هذا ورائى وأن أبدأ من جديد فى مكان مختلف .. أنا أكره التغيير بشدة وبل وأخافه أيضاً .. لا أملك روح المغامرة ولا حب التجديد ولست حتى ممن يشعرون بالملل حتى لو قمت بنفس الروتين لما تبقى فى عمرى مادمت أحب ما أعمله .. ثم كيف يمكننى مفارقة أمى وهى التى ليس لها سواى فى هذه الحياة .. كيف يمكن أن أصحو دون أن أرى وجهها وأقبلها .. وكيف يأتى المساء دون أن نجلس سوياً لنتحدث عن كل شىء ونتابع التلفاز .. كيف تغيب هى عن تفاصيل يومى
بأى حق تأتى أنت أيها الغريب من أقاصى المجهول لتقلب حياتى رأساً على عقب .. ماذا فعلت لك لتعاقبنى بتلك القسوة .. ماذا تظننى؟ .. أنا لا يمكننى مواجهة الحياة بمفردى .. وأن أغترب فى بلد آخر من أجل العمل .. أنا أضعف من ذلك .. أنا هشة كطفلة لا تعرف شىء عن تلك الحياة وتستمد قوتها ممن حولها .. ممن يعرفونها ويحبونها .. لا يمكن أن تنتزعنى من بينهم لتلقى بى وسط غرباء لا أدرى كيف سأتعامل معهم ولا كيف سينظرون نحوى .. هذا كثير علىّ .. وقاس جداً
يٌتبع
إن شاء الله
الروابط المفضلة