(7)
هل تتخيلون ذلك؟
هذا البيت الكبير لم يعرف له أميرة سواى .. لم تخطو أى امرأة عتبة بابه من قبل .. فكيف الآن يأتون بأخرى لتعيش فيه ولو لبعض الوقت
من أخبرهم أن أبى بحاجة لها
من أقنعهم أن وجودها سيجعل حالته تتحسن
من سمح لهم أن يأتوا بها دون استشارتى وكأن لا وجود لى
يمكننى أنا أن أقوم بتلك المهمة
لن أفارق أبى لحظة واحدة
سأنفذ أوامر الطبيب كلها ولو اضطررت لدراسة الطب من أجل أن أكون طبيبته الوحيدة
والآن لا بد لذاك الملاك أن يرحل من حيث جاء قبل أن يحل عليه غضبى
كانت بعض الأفكار السوداء تعبث فى رأسى قبل أن أسمع طرقات هادئة على باب غرفتى .. تجاهلتها عمداً ورغم ذلك وجدت عاصم أمامى يبتسم ببرود
فسألته دون أن أنظر نحوه
- لم تركت نوبة حراستك؟
- أى حراسة!
- حراستك للملاك الذى يسكن غرفة أبى
- ومن أخبركِ أننى أقوم بحراستها؟
قمت من مكانى بغيظ
- وهل تفارق أنت باب غرفة أبى للحظة وكأنك تخشى أن أفترسها مثلاً
- أعلم أن باستطاعتكِ أن تفعلى ذلك
- .........
- ألن تتخلى عن هوسكِ هذا حتى فى تلك الظروف؟
- أى هوس؟
- غيرتكِ المجنونة من كل أنثى تقابلك
صرخت فى وجهه
- أنا أغار منها .. ماهذا الذى تقوله .. كيف تجرؤ...
- هذه هى الحقيقة التى ترفضين الاعتراف بها منذ طفولتك .. قد أصدق كونكِ بحاجة لعلاج ما من تلك الحالة
دفعته بغيظ نحو الباب وأنا أضغط على أسنانى
- عاصم .. اخرج من حجرتى حالاً وعد لحراسة باب الجنة حيث تسكن الملائكة
نظر إلىّ صامتاً لبعض الوقت قبل أن يقول
- إذن لابد أن أقوم بحراسة بابكِ أنتِ
هدأت ثورتى فجأة وتعلقت بحروف كلماته كطوق نجاة فى خضم بحر هائج وتهدجت الكلمات على شفتى
- هل .. هل تقصد أننى الملاك؟
اقترب منى بنعومة وهو يقول
- بالطبع .. للجحيم ملائكة كذلك
- !!!!!!!!!!!!!!
خيراً فعل بالهرب من أمامى بعد كلماته تلك .. كنت لأريه الجحيم على الأرض كيف يكون
حسناً يا عاصم أنت لا تعرف ما الذى جلبته على ملاكك هذا
***
اقتحمت غرفة أبى دون أن أطرق بابها
وقفت هى تنظر نحوى بدهشة .. نظرت للكتاب الذى يتأرجح فى يدها والذى كانت تطالعه منذ قليل .. أشرت نحوه وأنا أقول
- هل يتضمن عملك هنا قراءة الكتب أيضا
- أنا ...
- نحن ندفع لكِ لكى تهتمى بأبى لا أن ترفهى عن نفسك
- لو سمحتى ....
- لا عمل لكِ هنا سوى رعاية أبى فقط والعمل على تحسن صحته وإلا من الأفضل لكِ أن تغادرى هذا البيت فوراً
- لا أفهم .. أنا لم أخطىء فى شىء
- لا تجادلينى
- يا آنسة....
قاطعتها فى ثورة
- أنا لست آنسة .. أنا سيدة هذا البيت والمسؤولة عن كل ما يخص أبى
أجابتنى ببرود
- أعتقد أن أستاذ عاصم هو المسؤول و .....
هتفت بها بثورة وأنا لا أصدق أن اسم عاصم يجرى على لسانها بتلك البساطة
- عاصم .. عاصم .. ما شأنكِ أنتِ بعاصم .. وكيف تجرؤين على الرد علىّ بتلك الوقاحة .. كيف؟
أجابتنى بارتباك
- من فضلك اخفضى صوتكِ .. ستوقظين المريض
صرخت بها بنبرة أعلى
- لا تملى علىّ الأوامر .. وما تصفينه بالمريض هو أبى .. لا مرضى هنا سواكِ أنتِ ولن تبق فى هذا المكان لحظة واحدة هل تفهمين؟
سمعت بعض الأنات الخافتة .. التفت نحو أبى الذى كان يتحرك ببطء ويمسك برأسه فى ألم .. ووجدتها هى تهرع نحوه وتتفحصه باهتمام ثم تعطيه قرص ما من أحد العلب التى تزدحم بها الطاولة المجاورة له وبعدها هدأ قليلا ثم عاد للنوم .. إنه لم ينتبه حتى لوجودى أمامه ..
هل أبى مريض لهذه الدرجة!
وهل يحتاج لها فعلا
وهل وجودها بجواره أكثر فائدة من وجودى أنا
وضعت يدى على فمى لأكتم صرخة قهر كادت تفلت منى .. ما الذى كنت أحاول فعله .. هل تماديت فى جنونى حتى كدت أؤذى أبى الحبيب .. خرجت من الحجرة مسرعة ودموعى تسبقنى
عاصم محق فعلا .. أنا مريضة ومهووسة
لكنه لم يعرف بعد أننى مريضه به وحده
فكيف لى بترياق يشفينى منه
***
التزمت غرفتى ووجهت كل تركيزى نحو دراستى التى كدت أهملها .. لا أريد لأبى أن يغضب منى لهذا السبب
لم أعد أزوره فى غرفته .. اطمئن على أخباره من عادل
توقعت توبيخا ما من عاصم بسبب ما فعلت .. لكن ذاك الملاك كان من النبل بحيث لم يخبر أحد بما بدر منى
هذا يزيد حالتى سوءاً ويجعلنى أشعر بتأنيب الضمير أكثر
فكرت فى الاعتذار منها لكنى لم أجرؤ على ذلك .. لم أجرب الاعتذار لأحد ما من قبل .. أظننى بحاجة لتعلم بعض السلوكيات الجيدة لأتمكن من التعامل مع الآخرين بصورة أفضل حتى لا أترك ذلك الأثر السىء فى نفوسهم
لمست بأصابعى تلك الصورة التى تزين مكتبى .. نظرت لملامح صاحبها التى هى كل عالمى ومصدر سعادتى ورمز حمايتى .. لا أصدق كونى لم أره منذ أيام .. لقد تغير كل شىء بغيابه .. لم أعرف كونى أحتاجه إلى تلك الدرجة .. أشعر بالخوف كطفلة تائهة فى الظلام .. تزورنى الكوابيس كل ليلة .. وتحاصرنى الظنون كل يوم .. لا أتخيل حياتى من دونه .. أظن الموت وقتها سيكون أكثر راحة .. انقبض قلبى بشدة لتلك الأفكار .. قمت من مكانى وتوجهت نحو الباب وقبل أن أخرج منه شعرت بالخجل من نفسى وكدت أعود لمكتبى لكن شىء ما دفعنى دفعاً للخروج والتوجه مباشرة نحو غرفة أبى
***
هى لم تكن هناك لحسن حظى .. مازلت لا أعرف كيف يكون الاعتذار لأحد ما .. وكنت أفتقد أبى بشدة .. جلست بجواره أتأمله .. متى ينتهى كل هذا .. متى ستعود لتنير عالمى الذى أظلم بغيابك وغربت شمسه .. متى سأسمعك تنادينى صغيرتى وتوبخ الجميع من أجلى .. متى ستسألنى عن دراستى وتجلس بجوارى فى المساء نتحدث عن كل شىء .. كم أشتاقك .. وكم تبدو الأيام غريبة وموحشة من دونك .. متى ستعود يا أبى .. متى؟
كانت دموعى تنهمر من عينى وأنا أمسك بكفه دون أن يشد على يدى بحنان .. أصابعه متراخيه وكأنها لا تشعر بى .. كنت دوما تشعر بى حتى فى نومك .. أين ذهبت عنى .. ليتنى أعرف مكانك لأذهب إليك .. سأجذبك من يدك الحانية وأعود بك لتعود لنا الحياة من جديد .. ولو لم ترد العودة سأبقى معك فلا رغبة لى فى حياة لست فيها
قبلت كفه وأسرعت بالهرب من غرفته .. كم أكره أن يرى أحد دموعى .. حبات اللؤلؤ كما كنت تسميها
لكم أهدرت اللؤلؤ فى غيابك يا أبى
#يُتبع
إن شاء الله
الروابط المفضلة