قبل أن يرجع جمال إلى المنزل، في أحد الأيام، ناداه ضياء وسأله: لدي مسالة في الفيزياء لا أعرف حلها، هل تساعدني قبل أن ترحل.
رحب جمال بشدة ومشى نحو أقرب عامود خارج المدرسة واتكأ على العامود، فتح الكتاب...
لكن فجأة قام عبادة بدفعهما وإيقاعهما على الأرض! لأن عربة تمضي بسرعة جنونية تتجه نحوهما،كانت ستدهسهما،أما صاحب العربة لم ينتبه للعامود، فصدم عربته، وأصيب إصابة بليغة، أسرع عبادة وجمال لإنقاذ الرجل، وإذا بجمال ينظر إلى الرجل ويمتقع وجهه..صمت لحظات، ثم نظر إلى ضياء متكدراً وقال عبادة: لنتصل في المستشفى فيحضروا عربة إسعاف.
ضياء: التأخير ليس من صالح الرجل ..
هرول المدير إلى الفتية فزعاً، ليكتشف الموقف، وأحضر عربته، فحمل مع الفتية الثلاثة السائق المصاب إلى داخلها، ومضت تبتلع الطريق لتصل إلى المستشفى، في أثناء الطريق كانت حالة السائق حرجه، فقام جمال بتدليك قلبه " بالإنعاش القلبي" حتى يتدفق الدم، فتح الرجل عينيه فذهل، وقال بصوت منهك: أأنت من ينقذني؟(لم يرد جمال فقال الرجل بألم)سامحني يا ولدي.
جمال يدلك قلب الرجل ويبكي ويقول:أسامحك؟كيف لي أن أسامحك وقد دمرت حياتي؟ ثم جئت لتقتلي مرة أخرى،مع صديقي أيها الفاجر، كنت تلاحقني سنين لتقتلني بدون سبب..كيف لي أن أسامحك؟
الرجل بصوت منهك:لست أنا.. كان كونزالس....وكانت ليديا.
صمت جمال وبدأ يدلك القلب مذهولا، أما صديقاه والمدير... فلم يفهم أحد القصة؟
عندما وصل الرجل إلى المستشفى أسرع الممرضون وضعوه على سرير وجروه في الممرات لينقلونه إلى غرفه العمليات، وجمال يجلس على السرير ويقوم بانعاش قلبه! فتعلق الرجل بقميص جمال الذي ملأ الرعب قلبه وتجمد الدم في عروقه، فلفظ عبارته الأخيرة:كنت الدليل الوحيد على مكانك، لن يصلوا إليك مرة أخرى.
ثم مات..وصل الدكتور رائد متأخرا هو والدكتور راشد سوياً، قال ضياء: يا أبت, لقد أردنا إنقاذ الرجل أنا ورفاقي، لكنه قد مات.
نظر الدكتور رائد إلى جمال، كان يجلس على الأرض يمد قدميه ويسند رأسه على الحائط، فضحك جمال في بلاهة ومرارة قال ببطء:قد جعل الله تدميره في تدبيره.
المدير وقد اقترب من جمال وقال: ما حكايتك يا جمال مع هذا الرجل؟(لم يرد فقال)يا بني تكلم ولا تخف.
جمال وهو يهز رأسه مذهولا: هما يعرفان الحكاية (نظر إلى الطبيبان وسأل)ألم تعرفاه؟ألم تتذكراه؟ هذا من طعن سمية.
أمسك الدكتور رائد كتفي جمال وأوقفه ثم هزه بقوة وقال: أهو ..هو؟
هز جمال رأسه بالموافقة، تملكت الدهشة الدكتور رائد وقال بذهول:لله درّك يا فتى..لماذا أنقذته؟
جمال وقد اختنقت العبرة: خفت من الله أن أترك جريحاً دون أن أنقذه..
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا * * * فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه * * * يدعو عليك وعين الله لم تنم
وغاب بعيدا عن نظرهم، يمشي ببطء، ودماء الرجل تلطخ قميصه،يردد(وعين الله لم تنم) وسط دهشة من حوله
دلف محمود ومعتز إلى المنزل وجلسا حول مائدة الطعام، صار معتز ينادي: يا قوم أنا جائع، أمي سمية..فتى الأندلس.. اجتمعوا حول أبي فهو لا يأكل إلا وعائلته حوله..
جلست سمية متوترة .. محمود نظر حوله فلم يجد جمال فقال مستغرباً: أين جمال؟
كانت يدا سمية ترتجف، تخفي رعبها فقالت: لم يعد بعد..
فزع الاثنان، قفز معتز وقال مستعجلاً: أبي أبقى مع الخالة.. أنا سأبحث عنه في كل مكان..أعرف منازل أصحابه، لن أترك مكاناً دون أن أبحث عنه فيه.
بدأ محمود يخفف عن سمية أما معتز هرول خارج المنزل يبحث عن جمال،وما أن خرج حتى اتصل راشد.
رجع معتز بعد بحث مضني،وقد مضى وقت طويل وهو يبحث. وفي آخر المطاف علم أنه كان مع ضياء ولم يعرف أكثر من هذا،فرجع إلى المنزل, أول ما دخل رأى محمود يساعد جمال على الجلوس فسأل معتز:أين كنت؟
جمال وقد استنشق الهواء وملآ رئتيه:كنت أتمشى وأشم ريح الحرية ؟
اشتط معتز غضباً وقال: يا سبحان الله ! تشم ريح الحرية، وأنا أدور كالمجنون أبحث عنك..(هز رأسه ) لا بأس.. فذنب جمال مغفور..هو جمال الدين..جمال العلم ..جمال الأخلاق، أما أنا (وقال بمرارة)أما أنا يا أبي..لا شيء عندك...أن قيمتي عندك كهذه.
وبصق على الأرض، فضحك جمال! ووقف بصعوبة، وقف مقابل معتز بعد أن أمسك بكتفيه كأنه يستند عليهما وقال: ما كنتَ يا معتز يوما كما قلت،وما ستكون(ثم ضرب صدره بلطف)إنك أكبر من هذا بكثير ولكنك لا تعلم، وما كان جمال يوما، جمال الدين والخلق والعلم، لولا أن رزقه الله أبا وأخاً يضمدان جراحه،إن كنت ترى نفسك هكذا فأنا أراك شيئا آخر،أراك أصغر مني عمرا، لكنك أكبر مني قدراً.
لاحظ معتز توتر الغرفة، وانتبه إلى الدماء الملطخة على قميص جمال، فأمسك أطراف القميص وسأل: دم من هذا؟
جمال: دم رجلٍ قتلته سمية(فزع معتز) قتلته بدعاء الأسحار، دعت عليه بأن يرد الله كيده إلى نحره، فجعل الله تدميره في تدبيره، قالها الشيخ عبد السلام، سهام الليل لا تخطئ، لله دره، أتطلع على الغيب؟ أم أنها من سنن الحياة التي لا جدال فيها،(ثم سكت) كنت أنا من أنقذته(وانفجر ضاحكا)تدعوا عليه سمية وينفذه ابنها، أعطيته ما يسمى بتدليك القلب، أدلك قلبه حتى إذا ما شفي غرس السكين في صدري وصدر سمية مرة أخرى.
أراد معتز أن يتكلم لكن سمية وقفت، ضربت على الطاولة، صرخت في وجهه:هل حاولت إنقاذه لتتشدق..
جمال ينادي بهذيان وهو يدور حول الغرفة:بل لأني مسلم عربي أندلسي، أنا حفيد يوسف بن تاشفين وعبد الرحمن الداخل، قرشي لمتوني، وأصل لمتونه يمني، أنا أموي أمازيغي،مشرقي مغربي، أنا ابن المشرق والمغرب وأبي قد ولد بينهما، إن نسي أبي فلن أنسى، إن ضاع أبي فلن أضيع، إن شط أبي فلن أشطت، ولأني ابن سمية (وضع كفيه على كتفي معتز هزه وسأله)أتعلم يا معتز من تكون سمية؟
هز معتز رأسه ومط شفتيه ثم قال: حفيدة ماري أنطوانيت ولويس السادس عشر؟
جمال هز رأسه نافياً: إنها من رسمت سطور المجد في كتاب البداية والنهاية، ولكن صاحبي ابن كثير نسي أن يذكرها .
معتز هز رأسه ساخرا:إذن فأنت الكتاب الذي طعن صدر غلافه وسالت قطرات الدم على صفحاته؟
قدّ جمال قميصه وصرخ: ((أجل))
فذهل معتز من المنظر، ثم تجمد مكانه وقد ارتعدت أوصاله من الخوف،كانت الندب في جسد جمال متناثرة تدل على آثار طعناتٍ قديمة فقال:بل.. إنها طعنات غرست في صدر ابنها وصدرها، فاختلطت دمها ودمه على صفحات الكتاب...ثم أمسك الفاجر بذراعيها ثم...
محمود صارخا وقد قاطعه:ثم كنا أنا وراشد ووالد ضياء أقرب إليها منه يا جمال،نقلناكما إلى المستشفى، عالجناكما، أحببت أمك وتزوجتها(قال بحزم)انتهى.
قالت سمية بحزم: نعم ..كفي(اقتربت من ابنها وقالت وكأن معركة لم تكن)لقد روّعت معتز فكان يبحث عنك وأنت تتمشي، يجب أن تنال عقابك.
جمال وقد هز رأسه: أجل، لنعد إلى معتز،سأعطيك نقوداً حتى تذهب إلى المطعم مع أصحابك..هيا يا رجل..اذهب واستمتع بوقتك.
معتز وقد حاول أن يتماسك: لا شكراً أبقي نقودك لنفسك..أذهب وحدي بنقودك..سأغصّ في كل لقمة..
محمود:إذن اذهب معه يا جمال ...(واستأذن من سمية) قتل الله من كنتِ تخشينه ..فارفعي الحظر عن الفتى..دعيه يعيش حياة طبيعية.
فكرت سمية وقالت:لا.. سنذهب كلنا، بما أن الدليل قد مات، فأنا الأولى بأن أشم ريح الحرية.
دهش الجميع، وذهبت لتلبس، فقال محمود لجمال ومعتز بتوتر:هذه المرة الأولى التي تخرج فيها سمية ,أقصد ..هل تسمحا بأن أخرج معها هذه المرة ..أقصد..
معتز بخبث:سبحان الله! كنت تشفق على الفتى قبل قليل، والآن تريد أن تخرج معها وحدكما إلى المطعم!
أحمرت وجنتيه خجلا وتوتر أكثر، فعدل جمال نضارته وتأمل محمود، ثم قال ببراءة ولم يفهم:لا بأس، اذهب معها وحدك،لا أفهم لماذا كل هذا التوتر؟
معتز بخبث: أفلا يتوتر وقد تزوج امرأة أنت ابنها؟( وضع ذراعه حول رقبة جمال قاده إلى الغرفة)أعذرك، لن تجد سبب توتر أبي ، عاشق سمية في كتاب صاحبك ابن الكثير،(نادى مازحاً)سامحك الله يا أبي، أتذهب مع سمية وتتركني مع ابن سمية؟
كان جمال يقف أمام المرآة يتذكر الحادث ويتأمل مكان الطعنات التي في جسده، كانوا ستة طعنات، واحدة في كتفه واثنتان في خاصرته، وأخرى عند ذراعه، واثنتان في صدره، دخل معتز في الغرفة فجأة، أراد أن يعتذر ويخرج لكن جمال منعه اقترب منه وقال بصوت متقطع، وكان صدره يعلو ويهبط من شدة الاضطراب: لقد..كنت..ضعيفا..لم أقدر على حماية أمي،طعنني..لا أعرف أصف الألم الذي كان في جسدي ثم..طعنها،أمسك ذراعيها أغمضت عيني(أغمض عينيه)وفقدت الرغبة في الحياة..كنا بلا مأوى لأن..
اقترب معتز من جمال وقال بحنان: هشش..إن ما حدث هو كما قال أبي... أنا قزم أمامك أيها الجبل الشامخ، فسامحني لأني تطاولت عليك.
عانق جمال و بكى..فاحتضنه جمال وقال: لا يا معتز،إني لأعجز.. عن شكر الله سبحانه بأن رزقني أخا مثلك؟
الروابط المفضلة