مرت ثلاثة أسابيع و حياة الفتى متقلبة،فهو كثير النوم في حين، ويقتله الأرق في حين أخرى..يأكل باعتدال في حين..وفاقد الشهية في حين أخرى..هادئا في حين...هائجاً في حين أخرى..مبتسماً في حين..كئيبا في حين أخرى..
لم يذهب إلى المدرسة،ولا حتى ذهب للعمل في ورشة محمود، لأن الأخير أمره أن يبقى متعذرا بمرضه..بل وأمره أن لا يغادر السرير وماطل عند السؤال,فامتعض الفتى و اشتعل الشك في قلبه.
كان يستعير كتب معتز فيذاكرها فتطفئ النار المشتعلة في قلبه..تعطيه الأمل بأنه سيلتحق مع أقرانه في المدرسة، أجل كتب معتزالذي يذهب إلى المدرسة مكرهاً، ويحسد جمال لأن المدرسة مزعجة برأيه، لم أن يحسده على الحبس الذي فُرض عليه، في بعض الأحيان يحاول التخفيف عنه بأن يطلب منه أن يخرج معه ليتعرّف على أصحاب معتز ويتعرف عليهم، فترفض الخالة سمية وتأمر جمال بالبقاء والدراسة !




كانت سمية ترسم لوحة فنية بديعة،صورة جبالٍ خضراء شامخة وقلعة حصينةً صامدة، جمال يجلس على الأريكة وقد رمى رأسه على ظهرها فاقداً الإحساس بمن حوله وكأن روحه قد رحلت من دون رجعة، اقترب معتز ونظر إلى اللوحة وقال:أنتِ فنانة! ما أجمل هذه الصورة!
سمية:إنها الفردوس المفقودة..هذه الأندلس.
وكأن روحاً بعثت في جسد الفتى فرفع رأسه ونهض وتأمل الصورة وتلمسها وهمس بفرحة غامرة:غرناطة!!
ابتسمت سمية وعلقت: عندما أنتهي منها سأعلقها بالقرب من سريرك يا جمال..حتى تراها كل صباح.
وضعت اللمسات الأخيرة وقالت:لقد انتهيت..وهذا التوقيع كما يفعل الرسامون.
جمال:أرجوكِ لا تفعلي..
سمية و هي تبتسم بشفقة:ولم؟ ألا يرضيك أن أكتب اسم سمية؟
همس جمال:سمية...سمية...أجل سمية.
نظرت إلى معتز وسألت بابتسام: وأنت؟ أي لوحة تحب أن أرسمها ؟
جمال بتوسل: أرسمي له جامع قرطبة يا أمي..
سمية تبتسم: سأرسم له جامع قرطبة يا بني ..
جمال وهو يتلمس اللوحة ويسرح في خيالة بعيداً كأنه يداعب الماء في إحدى برك قصر الحمراء:أرسمي له نهر تاجة يشق طريقه في طليطلة..
سمية تبتسم: سأرسم له نهر تاجة يشق طريقه في طليطلة ..
جمال سارحاً بخياله: أرسمي له برج الذهب في اشبيلية ..
سمية تبتسم: سأرسم له برج الذهب في اشبيلية ..
جمال سارحاً: أرسمي له قصر الجعفرية في سرقسطة..
سمية تبتسم: سأرسم له قصر الجعفرية في سرقسطة ..
جمال سارحاً بخياله:أرسمي له شاطئ لشبونة..
سمية تبتسم:سأرسم له شاطئ لشبونة..
جمال: لا تنسي قشطالة ..لا تنسي قطالونية ..لا تنسي دانية ..لا تنسي جليقية ..لا تنسي أرغون..لا تنسي نافار .. لا تنسي بلنسية ... لا تنسي مرسية..لا تنسي ليون.. ( و همس سارحا) ستعودين عربية إسلامية يا أندلس..رغماً عن أنفك يا كونزالس.





دلف محمود إلى المنزل فأمسك جمال بيد عمه مثل طفل صغير يمسك بيد أبيه فرحا بوصوله وجرّه إلى الصالة وهو يقول أنظر ما أجمل رسومات أمي..لقد رسمت مدينة الصمود غرناطة..لقد ولدت هنا..قرب قصر الحمراء .
اقترب محمود من اللوحة وبدأ يتأملها ويقول بغبطة: مدهش!
نظر إلى سمية وابتسم ثم قال:كل يوم أكتشف فيك أمرا مذهلاً.

احمرت وجنتي سمية خجلاً ، أما معتر جعل وجهه مقابل وجه أبيه وابتسم بخبث: أبي ..خالة.. ما رأيكما أن تؤجلا اللحظات الرومانسية إلى ما بعد الغداء؟
سمية مرتبكة: أخ نسيت الطعام ..ثواني..وتكون الأطايب جاهزة.
جمال بلهفة أدهشت الجميع:أجل يا أمي .. أكاد أموت جوعاً.






لأول مرة أثناء تناول الغداء أكل جمال بشهية ثم قال:أريد المزيد..هل يسمح لي بتناول المزيد؟
محمود فرحاً: طبعاً يا ولدي أعطني طبقك وأنا سأسكب الطعام في طبقك.
ولكن جمال حينما مد ذراعية ليوصل الطبق..امتد شريط ذكرياته..ووصل إلى نقطة سوداء قبل ثلاث سنين..حينما مد ذراعية ليوصل الطبق في مكان مظلم من لقطات حياته ويسأل: أريد المزيد..
فترد عليه امرأة شقراء عجوز شمطاء بقسوة:لن تنال المزيد بسبب فعالك الشنيعة يا كونزالس.
أرجع جمال الطبق مكانه قبل أن تصل المغرفة التي بيد زوج أمه إليه..وقف..أفل إلى غرفته.. وصم أذنيه فلا يريد أن يسمع صوت محمود وهو يناديه، حتى لا يختلط صوت الحاضر بصوت الماضي الذي يحاول جاهداً نسيانه فلا يقدر.
أخذ حبة مهدئ ثم نام, وقد ظل صوت ٌواحدٌ يردد صداه داخل عقل وقلب جمال...
ستعود عربية إسلامية رغم أنفك يا كونزالس..