(3)
أفقت على تلك الدموع الساخنة التى تغسل وجهى .. وأنا أشهق من بينها وأغمم
سامحنى يا عاصم .. أرجوك سامحنى .. بل تعال ووبخنى .. إجذب خصلات شعرى بيدك واربط لى شريطتى الملونة .. لا تتركنى وحدى فأنا خائفة .. أنا وحيدة وحزينة .. أنا أموت يا عاصم .. تعال وانقذنى
حل الظلام .. ارتجفت من لسعة البرد .. قمت أجر قدمىّ حتى البيت .. حيث لا ينتظرنى أحد سوى الوحدة
دخلت للفراش .. زمجرت معدتى فأخرستها بكوب ماء .. دفنت رأسى فى الوسادة وعبثا حاولت النوم قبل أن يبدأ العذاب الليلى .. لكنى كنت واهمة ككل ليلة
***
تمر السنوات تحفر بصماتها فوقنا .. ينسحب ربيع الطفولة الناعم ويتوهج صيف الشباب الحارق .. كبر ثلاثتنا .. عادل الشاب المرح الظريف الذى لا تفارق الابتسامة وجهه ولا يحمل للدنيا هما .. وعاصم الشاب المتزن الهادىء الغامض كثيرا .. الذى ما زال يثير غيظى بكبرياءه العنيد الذى لم أستطع ترويضه بعد .. وأنا أميرة القصر الجميلة التى يتمنى الجميع رضاها .. ولا يجرؤ أحد على إثارة غضبها بأى شكل .. وهى لا تهتم فى قرارة نفسها سوى بالوحيد الذى لا يكف عن إشعالها غضبا وقهرا و... أشياء أخرى
أيام وتبدأ الدراسة من جديد .. لا أعرف كيف مضت الأجازة بتلك السرعة .. ستعود أيام التعذيب وإلزمى غرفتك وذاكرى دروسك .. أبى لا يتهاون فيما يخص الدراسة وهو يقول أنه مسؤول عن مستقبلى ويود أن يطمئن علىّ بحصولى على شهادة جامعية محترمة .. وحقا لا أود أن أخذله أبداً خاصة أنها سنة التخرج
أنا احترم قرارات أبى .. لكن أن يصر على أن يقوم عاصم بتوصيلى للجامعة كل يوم .. هذا أمر لا يطاق أبدا .. فشلت تماما فى تغيير رأيه بهذا الموضوع .. عاصم آخر من تسعدنى رؤيته فى بداية يومى .. هذا كثير .. كثير جداً
***
أرتجف .. ترتعش أطرافى .. أبحث عن ذلك الغطاء الخفيف الذى يدعى كذباً أن مهمته هى تدفئتى لكن العكس هو ما يحدث .. أرتجف تحته أكثر .. أتكوم على نفسى وتدور مقلتىّ تحت جفنين مغمضين أتابع بحسرة شريط العرض الذى يمر أمامى الآن رغماً عنى
***
كنت أرتب بعض أغراضى حين دوت الطرقات على باب حجرتى .. أجفلت لحظة قبل أن يطل رأس عادل من فرجة الباب وهو يبتسم ابتسامة ابتلعت ملامحه كلها .. قطبت جبينى وأنا أصيح به
- كيف تفتح الباب قبل أن تستأذن؟
- ماذا؟! .. لقد كاد الباب ينخلع من طرقاتى فوقه
- لكنك لم تسمعنى وأنا أدعوك للدخول
خطا للداخل ببساطة وجلس على طرف مكتبى وقال وهو يلوك شيئا ما
- لا تختلقين شجارا معى .. ما الذى يضايقكِ؟
ابتعدت بوجهى عنه وأنا أردد
- لا شىء
- بل هناك أشياء .. أنتِ فى مزاج سىء
- هل عاد أبى؟
- لا عاصم هو من عاد و...
قاطعته بحدة
- وهل سألتك أنا عن عاصم؟! .. لا يعنينى كونه عاد أم لم يعد
اتسعت ابتسامته وهو يقول
- هو عاصم إذن .. ماذا؟ .. شجار جديد
- اخرج الآن يا عادل لا أريد التحدث لأحد
- حسنا حسنا .. سأخرج الآن لكنك من ستأتين إلىّ وتبكين ثم تخبرينى بكل شىء .. لا تنس طرق باب غرفتى .. لا تقتحمينها كالعادة أيتها المزعجة
أغلق الباب بسرعة قبل أن تناله الوسادة الطائرة نحو وجهه .. إن عادل هو شقيقى الحقيقى وصديقى الوحيد فى هذا البيت
أنهيت فطورى وتوجهت للخارج بسرعة كنت أتمنى لو تعللت بتأخر عاصم ولذت بالفرار من تلك التوصيلة الجبرية .. لكنى صُدمت بانتظاره لى فى سيارته .. قمت بفتح باب السيارة الخلفى بغيظ قبل أن يصل صوته لمسامعى وهو يقول
- اجلسى بجانبى .. لست سائقكِ الخاص
أغلقت الباب بغل وجلست جواره بقهر .. فتحرك بالسيارة بغتة مما دفعنى دفعا للارتطام بزجاج سيارته
تأوهت وأنا أنظر له بغضب فقال ببرود
- تمسكى جيداً
- تعلم أنت قيادة السيارات أولاً
- أنا أقود السيارات منذ كنتى بضفيرة ذات شريط وردى
سكت فجأة .. أتراه ما زال يذكر واقعة الشريطة الوردية تلك .. يالقلبه الأسود!
أوقف عاصم السيارة أمام الباب الخارجى حيث تجمعت بعض الزميلات اللاتى ما أن رأيننى حتى أشرن لى بسعادة وهن يتفحصن فى عاصم الجالس بجوارى فى برودة ثلاجة
- متى ستنهين محاضراتكِ؟
- وما شأنك؟
- لأنى سأقوم بتوصيلك
- لا شكراً .. يمكننى العودة وحدى
- هذا ليس قرارك .. إن أبيكِ يصر على أن أقوم بتوصيلك ذهاب وعودة شئتى أم أبيتى
زفرت بغيظ
- هذا لا يطاق
ابتسم بلزوجة
- شكراً للمجاملة .. متى ستنتهى محاضراتك؟
- فى الرابعة
- بل فى الثالثة
- مادمت تعرف لم تسأل؟
- لأتأكد كونك لم تكفى عن الكذب بعد .. هيا انزلى فزميلاتك أصبن بالحول من كثرة التحديق نحونا
نزلت وصفعت باب السيارة وتوجهت بخطوات غاضبة تدق الأرض نحو زميلاتى اللاتى أمطرننى بالأسئلة عن عاصم .. ولم أكن بمزاج يسمح لى بالرد عليهن .. لقد سممت يومى كله يا عاصم
لم تتوقف مضايقات عاصم لى طوال الوقت
- (الجيب) قصيرة
- لا شأن لك
- لا تردى علىّ هكذا .. حتى لا ينقص لسانك بضع سنتيمترات
***
- رائحة عطركِ نفاذة
- لا تشمها إذن
- كيف وهى تكاد تخنقنى
- يمكنك أن تنزلنى هنا وسأستقل تاكسى
- اصمتى ولا تضعى هذا العطر مرة أخرى
***
- لم شعركِ مبعثر هكذا؟
- إنه كيرلى
- وما هذا؟
- يتم تجعيد الشعر ليظهر هكذا
- سخيف جدا
- لم تضايقنى؟
- ولم لا تبدين كطالبة عادية؟ .. لست ذاهبة لعرض أزياء
ابتسمت بزهو وأنا أتحسس خصلاتى الملتوية
- وهل أبدو لك كعارضة أزياء
- بل تبدين كميدوسا بتلك الخصلات الملتوية برأسكِ كالأفاعى
- أنت .. أنت ..
- ها .. لا تغلطى .. أحمل مقصاً صغيراً بجيبى
***
ما زال يظننى تلك الطفلة التى تخشاه .. لا يقتنع بكونى كبرت بما يكفى .. وأوشك على التخرج من الجامعة .. فكرت فى أن أشكوه لأبى .. لكن هذا سيعيدنى طفلة الشريط الوردى مرة أخرى .. لن يخرجنى من قالب الطفلة الصغيرة دائمة الشكوى .. لا حل لهذا العاصم أبداً
لكنى ارتديت البنطال الطويل .. وتوقفت عن نثر العطر فوقى بسخاء .. ولم أصفف شعرى بطريقة الكيرلى التى تجعلنى فاتنة كميدوسا!
كيف يجبرنى على فعل ما يريده بتلك البساطة .. حقا لا أدرى
دقات خفيفة على باب حجرة عادل اسمع بعدها صوته عاليا يقول
- ادخلى يا مزعجة
فتحت الباب ودخلت بخطوات بطيئة وأنا أقول
- هل غيرت اسمى بالمزعجة
- هو يليق بكِ أكثر
- امممممم
- ما الجديد .. لا تتحدثين بذلك الانكسارعادة
جلست على المقعد المقابل لمكتب عادل وعبثت بأصابعى فى بعض الأوراق أمامه بصمت
- ما الذى يضايقكِ؟
- أنت لطيف معى
- وهل هذا ما يضايقكِ .. يمكننى تغيير ذلك
- لا أرجوك .. يكفينى عاصم واحد فى هذا البيت
- عاصم
- لم يكرهنى بنظرك؟
- ماذا .. يكرهكِ .. لم تقولين هذا؟
- لا يكف عن مضايقتى أبداً
- هى طبيعته .. عاصم لا يعرف كيف يكون لطيفا مع أحد .. لكن هذا لا يعنى أنه يكرهك
- لكنى أشعر بذلك طوال الوقت
قام عادل من خلف مكتبه واقترب منى وهو يقول
- أنتِ يا صغيرة دلوعة البيت وأختنا المشاكسة التى نحبها جداً .. لا تقولى هذا الهراء مجدداً
- شكراً لك عادل
ابتسم وهو يجذبنى نحو باب الحجرة ويقول
- اذهبى الآن إلى ألعابكِ ولا تعودى للشكوى من شقيقكِ الأكبر مرة أخرى
سمعت الباب يُغلق خلف خطواتى التى تخطته وتلك الكلمة تدوى فى أذنى
شقيقكِ الأكبر .. من قال أن عاصم شقيقى الأكبر .. إنه عذابى الأكبر .. عادل هو الشقيق الوحيد الذى أعرفه .. أما هذا العاصم لا أجد له صلة قربى أقرب من ابن العم
و .. وذلك الشىء الذى لا أجد له تعريف فى قاموسى بعد
#يُتبع
إن شاء الله
الروابط المفضلة