بالرغم
من قيمة مشاعر الحب عندي و عندكم معاشر القراء و القارئات ، و بالرغم من
أن الحب يكاد يكون صنم هذا العصر الذي يُحرق له البخور ،و يُقدم
له الشباب القرابين من دمائهم ، و يُقدم له الشيوخ القرابين من سمعتهم ، و
تُرتل له الأناشيد ، و يُزمر له الزامر ، و يُطبل الطبال ، و ترقص الراقصة
، و تعمل بلاتوهات السينما و ستوديوهات
التليفزيون ، و كباريهات شارع الهرم ليل نهار لتمجيده و رفعه على العرش ،
ليكون المعبود الأول و المقصود الأول ، و الشاغل الأوحد و الهدف الأوحد و
الغاية المثلى للحياة التي بدونها لا تكون الحياة حياة .و بالرغم من أننا جميعا جناة أو ضحايا لهذا الحب ، و ليس فينا إلا من أصابه جرح أو سهم أو حرق ، أو أصاب غيره بجرح أو سهم أو حرق .
بالرغم
من هذه الأهمية القصوى ، و الصدارة المطلقة لموضوع الحب في هذا الزمان ،
فإني أستأذنكم في إعادة نظر و في وقفة تأمل ، و في محاولة فهم لهذا التيه
الذي نتيه فيه جميعا شيوخا و شبابا و صبايا .و أسأل نفسي أولا و أسألكم :هل تعلمون لماذا يرتبط الحب دائما بالألم ، و لماذا ينتهي بالدموع و خيبة الآمال ؟!دعوني
أحاول الإجابة فأقول : إن الحب و الرغبة قرينان .. و إنه لا يمكن أن تحب
امرأة دون أن ترغبها ، و لهذا ما تلبث نسمات الحب الرفافة الحنون أن تمازج
الدم و اللحم ، و الجبلة البشرية فتتحول إلى ريح و إعصار و زوبعة ، حيث
ينصهر اللحم و العظم في أتون من الشهوة العارمة ، و اللذة الوقتية التي ما
تكاد تشتعل حتى تنطفئ .هل أقول إن الحب يتضمن قسوة خفية ، و عدوانا مستترا ؟.نعم هو كذلك إذا اصطبغ بالشهوة ، و هو لابد أن يتلون بالشهوة بحكم البشرية .و
المرأة التي تشعر أن الرجل استولى على روحها ، تحاول هي الأخرى أن تنزع
روحه و تستولي عليها .. و في ذلك عدوان خفي متبادل، و إن كان يأخذ شكل
الحب.و المرة الوحيدة التي جاء فيها ذكر الحب في القرآن هي قصة امرأة العزيز التي شغفها فتاها ( يوسف ) حبّا.
فماذا فعلت امرأة العزيز حينما تعفف يوسف الصدّيق؟ و ماذا فعلت حينما دخل عليهما الزوج؟ لقد طالبت بإيداع يوسف السجن و تعذيبه.
(( قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) )) ( يوسف )
و ماذا قالت لصاحباتها و هي تروي قصة حبها؟
((
وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ
مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) )) (
يوسف )إن عنف حبها اقترن عندها بالقسوة و السجن و التعذيب.و ماذا قال يوسف الصدّيق؟(( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (33) )) ( يوسف )
لأنه
أدرك ببصيرته أن الحب سجن، و أن الشهوة قيد إذا استسلم له الرجل أطبق على
عنقه حتى الموت.. و رأى أن مكثه في السجن عدة سنوات، أرحم من الخضوع
للشهوة التي هي سجن مؤبد إلى آخر الحياة.إن الحب لا يظل حبا صافيا
رفافا شفافا، و إنما ما يلبث بحكم الجبلة البشرية أن يصبح جزءا من ثالوث
هو: الحب و الجنس و القسوة، و هو ثالوث متلاحم يقترن بعضه ببعض على الدوام.و
لأن قصة الحب التي خالطتها الشهوة ما تلبث أن تنتهي إلى الإشباع في دقائق،
ثم بعد ذلك يأتي التعب و الملل و الرغبة عند الإثنين في تغيير الطبق، و
تجديد الصنف لإشعال الشهوة و الفضول من جديد.. لهذا ما يلبث أن يتداعى
الحب إلى شك في كل طرف من غدر الطرف الآخر.. و هذا بدوره يؤدي إلى مزيد من
الارتياب و التربص و القسوة و الغيرة، و هكذا يتحول الحب إلى تعاسة و آلام
و دموع و تجريح.و الحب لا يكاد ينفك أبدا عن هذا الثالوث.. ((
الحب و الجنس و القسوة )).. و هو لهذا مقضى عليه بالإحباط و خيبة الأمل، و
محكوم عليه بالتقلب من الضد إلى الضد، و من النقيض إلى النقيض.. فيرتد
الحب عداوة و ينقلب كراهية و تنتحر العواطف كل يوم مائة مرة.. و ذلك هو
عين العذاب.و لهذا لا يصلح هذا الثالوث أن يكون أساسا لزواج.. و لا يصلح لبناء البيوت، و لا يصلح لإقامة الوشائج الثابتة بين الجنسين.و من دلائل عظمة القرآن و إعجازه أنه حينما ذكر الزواج، لم يذكر الحب و إنما ذكر المودة و الرحمة و السكن.سكن النفوس بعضها إلى بعض.و راحة النفوس بعضها إلى بعض.و قيام الرحمة و ليس الحب.. و المودة و ليس الشهوة.
((
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً )) (
الروم – 21 )
إنها الرحمة و المودة.. مفتاح البيوت.و الرحمة تحتوي على الحب بالضرورة.. و الحب لا يشتمل على الرحمة، بل يكاد بالشهوة أن ينقلب عدوانا.و الرحمة أعمق من الحب و أصفى و أطهر.و
الرحمة عاطفة إنسانية راقية مركبة، ففيها الحب، و فيها التضحية، و فيها
إنكار الذات، و فيها التسامح، و فيها العطف، و فيها العفو، و فيها الكرم.و كلنا قادرون على الحب بحكم الجبلة البشرية.و قليل منا هم القادرون على الرحمة.و بين ألف حبيبة هناك واحدة يمكن أن ترحم، و الباقي طالبات هوى و نشوة و لذة.و
لذلك جاء كتاب الحكمة الأزلية الذي تنزل علينا من الحق.. يذكرنا عند
الزواج بالرحمة و المودة و السكن.. و لم يذكر كلمة واحدة عن الحب، محطما
بذلك صنم العصر و معبوده الأول، كما حطم أصنام الكعبة من قديم.
و الذين خبروا الحياة و باشروا حلوها و مرّها، و تمرسوا بالنساء يعرفون مدى عمق و أصالة و صدق هذه الكلمات المنزلة.و
ليس في هذه الكلمات مصادرة للحب، أو إلغاء للشهوة و إنما هي توكيد، و بيان
بأن ممارسة الحب و الشهوة بدون إطار من الرحمة و المودة و الشرعية هو عبث
لابد أن ينتهي إلى الإحباط.و الحيوانات تمارس الحب و الشهوة و تتبادل الغزل.و
إنما الإنسان وحده هو الذي امتاز بهذا الإطار من المودة و الرحمة و
الرأفة، لأنه هو وحده الذي استطاع أن يستعلي على شهواته؛ فيصوم و هو جائع
و يتعفف و هو مشتاق.و الرحمة ليست ضعفا و إنما هي غاية القوة، لأنها استعلاء على الحيوانية و البهيمية و الظلمة الشهوانية.الرحمة هي النور و الشهوة هي النار.و أهل الرحمة هم أهل النور و الصفاء و البهاء، و هم الوجهاء حقا.و القسوة جبن و الرحمة شجاعة.و لا يؤتى الرحمة إلا كل شجاع كريم نبيل.و لا يشتغل بالانتقام و التنكيل إلا أهل الصغار و الخسة و الوضاعة.و الرحمة هي خاتم الجنة على جباه السعداء الموعودين من أهل الأرض.. تعرفهم بسيماهم و سمتهم و وضاءتهم.و
علامة الرحيم هي الهدوء و السكينة و السماحة، و رحابة الصدر، و الحلم و
الوداعة و الصبر و التريث،
و مراجعة النفس قبل الاندفاع في ردود الأفعال،
و عدم التهالك على الحظوظ العاجلة و المنافع الشخصية، و التنزه عن الغل و
ضبط الشهوة، و طول التفكير و حب الصمت و الائتناس بالخلوة و عدم الوحشة من
التوحد، لأن الرحيم له من داخله نور يؤنسه، و لأنه في حوار دائم مع الحق،
و في بسطة دائمة مع الخلق.و الرحماء قليلون، و هم أركان الدنيا و أوتادها التي يحفظ بها الله الأرض و من عليها.و
لا تقوم القيامة إلا حينما تنفد الرحمة من القلوب، و يتفشى الغلّ، و تسود
المادية الغليظة، و تنفرد الشهوات بمصير الناس، فينهار بنيان الأرض و
تتهدم هياكلها من القواعد.اللهم إني أسألك رحمة..اللهم إني أسألك مودة تدوم..اللهم إني أسألك سكنا عطوفا و قلبا طيبا..اللهم لا رحمة إلا بك و منك و إليك..
المصدر : كتاب (( عصر القرود ))
للدكتور مصطفى محمود