
تاريخ القضية الفلسطينية يقدم لنا نماذجَ رائعة من الرجال المجاهدين الأفذاذ
الذين أخلصوا لقضية بلادهم
ووقفوا بكل قوة في وجه الأطماع الاستعمارية والصهيونية في أرض القدس والأقصى
وأعلنوا الجهادَ المقدس دفاعًا عن أرضهم وديارهم وأوطانهم.

وعلى رأس هؤلاء يأتي البطل والمجاهد الفلسطيني (عبد القادر الحسيني)، الذي ارتبط اسمُه بتاريخ مدينة القدس، وكانت له بصماتٌ واضحة في سجل الكفاح العربي والإسلامي ضد الصهيونية، وتاريخ مشرف في التصدي لمحاولات تهويد القدس وفلسطين وتزييف تاريخ هذه الأرض العربية الإسلامية.
ولد "عبد القادر بن موسى كاظم باشا الحسيني" في مدينة القدس عام 1908م، وفي هذه البيئة الثائرة نشأ وتشبع بروحها ومبادئها، ثم اندرج في سلك الوطنيين الذين تأججت جذوةُ الحرية في قلوبهم.
وكانت بداية مسيرته التعليمية في كلية روضة المعارف، وأنهى دراسته الثانوية في مدرسة صهيون العربية بالقدس، ثم سعى لمعايشة الحركة الوطنية المصرية التي كانت في أَوْجِها حينئذ، فانطلق إلى القاهرة، ليحيا في رحاب العروبة والإسلام، ويتعرَّف تاريخَه الإسلامي المجيد في كنف الأزهر الشريف، وليتم تعليمه الجامعي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إذ كان طالبًا مُجدًا اجتاز اختباراتها بنشاط.
ولأنه كان عميقَ الفهم، دقيقَ الملاحظة، فقد أدرك في أثناء دراسته بهذه الجامعة الأثر السلبي الخفي الذي كانت تؤديه تلك الجامعة، واكتشف مدى خطورة الأثر السياسي الذي تؤديه الجامعةُ الأمريكية، فانتهز فرصة حفل التخرج الذي أقامته الجامعة في صيف سنة 1932م، ووقف خطيبًا في الحضور، بينهم الوزراءُ ورجال السلطة، فكشف زيف الأثر العلمي الذي تزعمُ الجامعةُ الأمريكية القيام به، واتهمها بأنها بؤرة إفساد ديني، إذ يطعنون في الدين الإسلامي، ولم يتوانَ حين تسلم شهادة تخرجه عن تمزيقها، وخاطب رئيسَ الجامعة قائلاً: "إني لست في حاجة إلى شهادة من معهدكم الاستعماري"
وانتهى إلى أن طالب المصريين بمقاطعة الجامعة الأمريكية
وبعد عدة أيام وزع بيانًا تفصيليًا على الصحف المصرية
ضمنه اتهاماتِه للجامعة الأمريكية، وإثر ذلك أصدرت الحكومةُ المصرية أمرًا بطرد الحسيني من مصر
مع نهاية سنة 1932م، فعاد إلى فلسطين ليعمل محررًا في صحيفة الجامعة الإسلامية، التي كان يترأس تحريرها الشيخ (سليمان التاجي الفاروقي)، ثم انضم إلى الحزب العربي الفلسطيني، الذي ترأسه (جمال الحسيني)
ثم عمل مأمورًا في دائرة تسوية الأراضي في فلسطين
وفي هذه المرحلة تمكن من إحباط أكثر من محاولة للاستيلاء على الأراضي العربية.
وبعد أقل من سنتين استقال من عمله في تسوية الأراضي
حتى يجهز للثورة على الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية
وبدأ في تكوين بعض الخلايا السرية لمقاومة الاحتلال.
و عندما اشتعلت ثورة 1936م، هاجمت قوات بريطانية مكتب الحزب العربي الفلسطيني
بهدف اعتقال عبد القادر ورفاقه
لكنهم لم يعثروا عليه، وظهر فجأة في إحدى المناطق الجبلية
وأعلن قيام الثورة المسلحة
وبدأت بعضُ الفصائل بمهاجمة القوات البريطانية وتجمعات العصابات اليهودية
وكلَّف البريطانيين الكثيرَ من الخسائر
وتولى في بعض مراحل الثورة قيادةَ منطقة القدس الشريف.
ولما وجد (عبد القادر الحسيني) أن المواجهات القادمة ستكون أكثر حدة وأهمية قرر بالتشاور مع بعض رفاقه أن يتوجه إلى ألمانيا عدو بريطانيا للوقوف على أحدث أساليب صنع المتفجرات
وبالفعل مكث هناك ستة أشهر أفاد خلالها كثيرًا من المعلومات الحربية الحديثة.
وعاد إلى فلسطين سرًا
وأغار مع رفاقه على بعض المعسكرات البريطانية الحربية
وتمكنوا من السيطرة على أجزاء منها
بعد أن غنموا الكثير من السلاح
وجن جنون الإنجليز من الوضع
فقرروا ملاحقة الثوار
وضربوا في خريف عام 1938م حصارًا واسع النطاق
حول منطقة بني نعيم الواقعة بين بيت لحم، والخليل
وقدر أحدُ المجاهدين عدد القوات البريطانية المهاجمة بخمسة آلاف جندي
ونشِبت معركةٌ حامية بين الطرفين غير المتكافئين
واستمرت المعارك أكثر من عشر ساعات
واستطاعت الطائراتُ البريطانية حسم المعركة لصالحها
وأصيب عبد القادر بإصابات متوسطة، فنقله رفاقه إلى المستشفى بالخليل
ثم نقلوه سرًا حتى الحدود السورية
في حين حكمت عليه السلطات البريطانية بالإعدام
وبعـد اندلاع الحرب العالمية الثانية
هدأت الثورة في فلسطين
وانصرف كثير من المجاهدين لممارسة حياتهم الاعتيادية
بينما توجه (عبد القادر الحسيني) إلى بيروت
حيث حصل من القنصل العراقي فيها على جواز سفر عراقي تحت اسم "يوسف الصايغ"
وأصبح عبد القادر عراقيًا خلال نصف ساعة
وبعد يومين كان يطوفُ شوارع بغداد هازئًا بالإنجليز ساخرًا من الفرنسيين
وأقام عبد القادر وأسرته بحي الكرادة الشرقية ببغداد
وكان موضعَ حفاوة وتَرحاب من الشعب العراقي
وعمل أستاذًا لمادة الرياضيات في المدرسة العسكرية بمعسكر الرشيد
وكذلك في مدرسة التفيض المتوسطة
والتحق كذلك بدورة لضباط الاحتياط بالكلية العسكرية أول شهر إبريل عام 1940م
وبعد ستة أشهر انتهت الدورة،وتخرج عبد القادر بعدها برتبة ضابط.
وحدث في عام 1941 أن أقدم الإنجليزُ على تنفيذ عدة أعمال انتقامية استفزازية ضد الحكومة الوطنية الشرعية في العراق بزعامة "رشيد علي الكيلاني" رئيس الوزراء
ووقع الصدام المتوقع بين الجانبين
ورأى الثوارُ الفلسطينيون في العراق حتمية مساندتهم للشعب العراقي في محنته
فاشتركوا بصورة فعلية ومؤثرة في القتال بقيادة عبد القادر الحسيني
فأبلوا في المعارك بلاء حسنًا خاصة في منطقة صدر أبي غريب.
وبعد شهر من القتال استطاع الجيشُ البريطاني الكثيف في عَدده وعُدته أن يتغلب على المقاومة الوطنية
وأذاع راديو لندن في حينه أن المقاتلين الفلسطينيين هم آخر من انسحب من ميدان المعركة
واتقاء لبطش الإنجليز فقد اضطروا لمغادرة العراق لجوءاً إلى إيران برًا
لكن السلطات الإيرانية لم تسمح لهم بدخول أراضيها
فعادوا ثانية إلى بغداد
وحاولوا التسلل إلى الحدود السورية، لكن المخابرات البريطانية تعقبت بعضهم
وقبض على (عبد القادر الحسيني)
وسيق للمحاكمة أمام محكمة عسكرية عراقية بتهمة أنه ومن معه من الفلسطينيين
أوقفوا الجيش البريطاني عشرة أيام
وأخروا زحفه على بغداد، وحكم عليه وعلى عدد من إخوانه بالسجن
وفور صدور الحكم هب الكثيرون من ثوار العراق وأحراره
لنصرته بسبب تدني صحته
فوافقت السلطاتُ المسئولة
على تغيير الحكم إلى النفي والإقامة الجبرية له ببلدة زاخو بأقصى شمال العراق قرب الحدود مع تركيا
كما مثلت أمام المحاكمة زوجته المجاهدة "وجيهة الحسيني"
بحجة مساعدتها وإيوائها للثوار
فحكم عليها بالإقامة الجبرية في بيتها ببغداد
وقد أمضت عشرين شهرًا تحت الحراسة في المرحلة الأولى
وهى المدة نفسها التي قضاها زوجها في زاخو.

تعليق