


طالما عمل المرء منذ ان بزغت شمس الانسانية...على أن يبني لنفسه كيانا
خاصا.. وشخصية مستقلة ترتقي بأفكاره و طموحاته.. و تعكس كل ما يجول بأطياف خواطره .. و تعبر
عما يختلج شطآن مشاعره و وجدانه...
و طالما حلم أن يجعل من ذاته انسانا متميزا... لا يشبه احدا في طموحاته
و وجهات نظره..
انسان متحرر من كل قيود المجتمع.. متمرد على كل المصاعب التي تعترض طريق
نجاحه و رقيه...



لكن لا شك أن المتأمل في واقعنا المؤسف... سيتراءى له حتما أن كل تلك
الأحلام... لم تكن سوى أوهام بالية...زائلة.. انقلبت الى الضد تماما في يومنا
هذا....
اليوم كل الناس اصبحوا متشابهين... في المظهر والملبس و التفكير....
كل الوجوه صارت مجرد اقنعة مبهمة... مجرد ارواح موجودة.. و لكنها لا تعي ولا
تبصر...
و كل العقول أصبحت تفكر بنفس الاسلوب.. و ترى الامور بنفس وجهات النظر...
الكل يسير في نفس التيار... بل و يكاد يغرق في دوامة التبعية و التقليد... و لكنه
لا يهتم .. فلا حرج عليه... فالكل مثله...



فقط دقق النظر ولو للحظات متناثرة... في كل هؤلاء الناس الذين يمرون امامك في
الشارع...
ستكتشف حقا أنك بمثابة تصفح كتاب فارغ... جميع صفحاته البيضاء متشابهة..
حتى و ان صادف ان رأيت شخصا متغيرا مختلفا عن الاخرين.. فإنك ستتعجب
و ستصفه بالـ "المتخلف" أو الغير مواكب للموضة!!!
حتى انني كنت يوما مع صديقة لي بأحد الأماكن العامة... وصادف ان رأينا امرأة
كانت ترتدي بعض الثياب الغير الملائمة للعصر !!
فما كان من صديقتي هذه سوى السخرية... والقول " ايييييه لقد ذكرتني هذه المرأة بعهد اجدادي... " !!!!

سبحان الله... فقد اصبح كل انسان مختلف في هذه الدنيا... انسانا رجعيا وغير
متطور ..
للأسف فقد اعمى التقليد ارواحنا... و جعلها تسير بلا وجهة خلف سراب مجهول...
و طريق مظلم... حتى أصبحنا "إمعة"
شخصياتنا لم تعد بعد ملك أنفسنا... شخصياتنا صارت بايدي "وحش" المظاهر
والأوهام الباطلة الذي نخر عقولنا... و دمر كياننا و وجودنا...
شخصياتنا اصبحت هشة.. حساسة كالزجاج... سريعة الكسر و التحطم...
و اجسادنا اصبحت مجرد قطع شطرنج بائسة تحركها يد المجتمع يمنة و يسرة..



دون ادنى شعور ولا حراك..
لا وجود سوى للتبعية الخرساء والتقليد الاعمى المؤلم...
إن المتأمل في سطور شريعتنا الاسلامية الغراء... سيرى جليا أن
ديننا الحنيف قد دعا المرء الى ضرورة خلق شخصية مستقلة متميزة عن الاخر...
إذ اأن الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم يقول: (( لا تكونوا إمَّعة
تقولون : إن أحسن الناس أحسنَّا ، وإن ظلموا ظلمنا .. ، ولكن وطِّنوا
أنفسكم إن أحسن الناسُ أن تُحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا ))
فأي معنى لهذا الوجود اذا كان الكل متشابه و سائر على نفس الوتيرة؟؟
و كيف لنا ان نتحدث عن الحرية.. و اعتبارها أهم مبدأ لتعريف " الانسانية"؟؟
بل كيف لنا أن نتجرأ و نتلفظ بكلمة "الحرية" ونحن لا نكاد نرى
سوى اشباه مخلوقات... منساقة.. و مستسلمة للآخر؟



لنعلم أن الله تعالى قد أنعم علينا بنعم لا تحصى ولا تعد... وقد خلق
هذا الكون الرحب بشتى متناقضاته... فقط ليعيش ابن آدم حرا.. مسؤولا...
انظر لهذه الحياة و تفكر لو لدقائق في مكوناتها..... سترى أنها مبنية
على اشياء... واحاسيس... و افعال متناقضة... و متضادة.. لكنها ابدا لم تكن متصارعة...
تخيل مثلا لو ان كل الاحاسيس الانسانية كانت تصب فقط في منحى
الفرح.. والرضا...
فكيف لك ان تحس بوجودك.. و بمكانتك في هذا العالم؟؟
لا بد ان تشعر و لو بقليل بمرارة الحزن والالم.. حتى تعرف مذاق السعادة..
ولا بد ان تعرف معنى الخير.... حتى تفهم مفهوم الشر ...
ومن الجدير ان تفقه معنى الفشل حتى تنعم بحلاوة النجاح...



هكذا هي الحياة... لا يمكن لها ابدا ان تستمر دون وجود تناقضات و اختلافات...
فلماذا نعمل جميعا على قلب موازينها... و نسعى الى تقمص
شخصية واحدة جميعا... شخصية صقلها تيار المجتمع ... و وجهها الرأي العام المخادع...
فكما يقول الشيخ الفاضل عائض القرني في كتابه الرائع لا تحزن
" أنت شيء اخر لم يسبق لك في التاريخ مثال ولن ياتي مثلك في الدنيا شبيه."
فلماذا لا تتمتع بهذه النعمة التي انعمها عليك الله... وتأسر شخصيتك
في
سجن التقليد المعذب...



ان الله تعالى قد خلقنا في أجمل صورة... و وهبنا ملكة العقل.. و
ميزنا
بالمشاعر والاحاسيس.. وجعل لكل منا قلبا و لسانا... و كيانا
اذ يقول الله تعالى في كتابه الكريم (لقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)
سورة التين، آية (4)
فلماذا نجعل حياتنا تسير في طريق مظلم... ولا نسعى الى رسم
ابواب
مضيئة من الامل و التفاؤل....



ابواب تقتضي منا الخلق والابداع في وجودنا...
و صقل مختلف مواهبنا التي حبانا الله بها...
حتى نساهم بدورنا في الرقي بالانسانية و الصعود الى درجات سامية من الكمال...
فلنتأمل في أعماق وجودنا... و لنتعرف الى ما يخالج وجداننا من احاسيس
و مشاعر... ولننظر مليا الى داخلنا... حتى نستطيع ان نتميز.. و نثبت إنيتنا...
ونكون "نحن" وليس "الاخر"
لنسر دائما بكل عزيمة وارادة... ولا نهتم لما يقال من حولنا..
ولنثق بان الله تعالى معنا دائما... لذلك لا خوف من أن نعبر عن ارائنا بكل
حرية و شجاعة...
يجب ان نعلم جميعا ان هذه الدنيا زائلة وكل ما عليها فان...
فما أحوجنا ان نخلد ذكرانا بعد مماتنا... وان نساهم و لو بكلمة صدق نابعة من
القلب.. في نصرة مظلوم او مواساة يائس...
لنرض بما رزقنا الله تعالى... ولا نرضخ لمن له سلطة او جاه.. لان عجلة
الزمن بامكانها ان تدور .. وكل الموازين مآلها الانقلاب....
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما
الغنى غنى النفس"

فلنجعل انفسنا غنية... و كرامتنا شامخة
حتى وان كان الجميع ضدك... وكنت انت باشد القناعة انك على حق... فابق
على رأيك.. واعلم ان الله تعالى الى جانبك دائما...
وسترى ان القناعة كنز لا يفنى.. وانك لو قمت بكل ما يمليه عليك قلبك.. و ما
يطلبه منك عقلك.. دون تأثر بأي كان.. سيكسبك شعورا رائعا من الرضا
و الفرح..
شعور لايحسه الا اصحاب الهمم العالية.. والشخصية القوية ..
ولا يتمتع به الا من يمتلك كرامة حقيقية...
فليكن كل واحد منا "نفسه".. وليسعى أن يرضي الله تعالى في كل خطوة
يفعلها..
وليعمل بقول الله تعالى
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)




تعليق