مودع الحب
13-07-2007, 05:50 PM
ما هي الهجرة الحقيقية
لما فصل عير السفر، واستوطن المسافر دار الغربة، وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظرًا فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقية عمره، فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شئ يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد. إذ الهجرة هجرتان:
الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمن: "من" و "إلى"، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه، وتحت "من" و"إلى" في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
أما الفرار منه إليه، فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد، فإنما أوجبته مشيئة الله وحده، فإنه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته. فإذا فرَّ العبد إلى الله، فإنما يفرُّ من شيء إلى شيء وُجِد بمشيئة الله وقدره، فهو في الحقيقة فار من الله إليه.
ومن تصوَّر هذا حق تصوُّره، فَهِمَ معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-:(وأعوذ بك منك )، وقوله: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)، فإنه ليس في الوجود شيء يُفَرُّ منه، ويُسْتَعاذ منه، ويُلْتجَأ منه إلا هو من الله خلقًا وإبداعًا.
فالفار والمستعيذ: فارٌ مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه.
وتصوُّر هذين الأمرين يُوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفًا ورجاء ومحبة، فإنه إذا علم أن الذي يفرُّ منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده، فتضمَّن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله وقدرته لكان ذلك موجبًا لخوفه منه، مثل من يفرُّ من مخلوق آخر أقدر منه، فإنه في حال فراره من الأول خائف منه، حَذِرًا أن لا يكون الثاني يعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفرُّ إليه هو الذي قضى وقدَّر وشاء ما يفرُّ منه، فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره.
فتفطَّن إلى هذا السر العجيب في قوله: (أعوذ بك منك ) و (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)، فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالًا، وقلَّ من تعرَّض منهم لهذه النكتة التي هي لبّ الكلام ومقصوده -وبالله التوفيق-.
فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه، وهو معنى الهجرة إلى الله -تعالى،-؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)؛ ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحب والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيُؤْثر أحب الأمرين إليه على الآخر.
وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بُلِي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفك في هجرته إلى الممات.
المرجع: الرسالة التبوكية
للإمام ابن القيم -رحمه الله-
لما فصل عير السفر، واستوطن المسافر دار الغربة، وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظرًا فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقية عمره، فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شئ يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد. إذ الهجرة هجرتان:
الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمن: "من" و "إلى"، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه، وتحت "من" و"إلى" في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
أما الفرار منه إليه، فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد، فإنما أوجبته مشيئة الله وحده، فإنه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته. فإذا فرَّ العبد إلى الله، فإنما يفرُّ من شيء إلى شيء وُجِد بمشيئة الله وقدره، فهو في الحقيقة فار من الله إليه.
ومن تصوَّر هذا حق تصوُّره، فَهِمَ معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-:(وأعوذ بك منك )، وقوله: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)، فإنه ليس في الوجود شيء يُفَرُّ منه، ويُسْتَعاذ منه، ويُلْتجَأ منه إلا هو من الله خلقًا وإبداعًا.
فالفار والمستعيذ: فارٌ مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه.
وتصوُّر هذين الأمرين يُوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفًا ورجاء ومحبة، فإنه إذا علم أن الذي يفرُّ منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده، فتضمَّن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله وقدرته لكان ذلك موجبًا لخوفه منه، مثل من يفرُّ من مخلوق آخر أقدر منه، فإنه في حال فراره من الأول خائف منه، حَذِرًا أن لا يكون الثاني يعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفرُّ إليه هو الذي قضى وقدَّر وشاء ما يفرُّ منه، فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره.
فتفطَّن إلى هذا السر العجيب في قوله: (أعوذ بك منك ) و (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)، فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالًا، وقلَّ من تعرَّض منهم لهذه النكتة التي هي لبّ الكلام ومقصوده -وبالله التوفيق-.
فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه، وهو معنى الهجرة إلى الله -تعالى،-؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)؛ ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحب والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيُؤْثر أحب الأمرين إليه على الآخر.
وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بُلِي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفك في هجرته إلى الممات.
المرجع: الرسالة التبوكية
للإمام ابن القيم -رحمه الله-