الحمد لله الذي خلقنا لعبادته وشرع لنا دينه وشريعته وألزمنا بها وقَبل منا العذر في الخطأ والنسيان وما استُكْرهنا عليه .
وأمر بأخذ الشرع بقوة ، فقال تعالى : ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) ، والدّين قول فصل ، وليس بالهزل ، وكثير من الناس لا يأخذون أمور دينهم بجدٍّ وقوة ، ويعتذرون بأعذار واهية ، وهذه من صفات المنافقين الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً ، وعند المعاتبة والنصيحة يعتذرون بأعذار هي في الحقيقة أقبح من الذنب الذي اعتذروا منه .
إننا كثيرا ما نسمع من الأشخاص في مقام النّصح ومواقف المواجهة بمنكراتهم ومعاصيهم أقوالا عجيبة من أمثال ما يلي :
لماذا لا تُقلع عن المعاصي
- الوقت صعب ، كل الناس هكذا
ما جاءت الهداية بعد
المزحة التي قلتها خطيرة وفيها استهزاء بالدين
- نيتي سليمة ، قصدي مجرّد الفرفشة
كيف تعمل في هذا العمل المحرّم
ما وجدت غيره تريدني أن أموت من الجوع
كيف تصافح امرأة أجنبية عنك
- قلبي نظيف
لماذا لا توقظ الولد لصلاة الفجر
- حرام ما أخذ كفايته من النوم ، لديه مدرسة
ابنتك تخطّت العشر وتلبس القصير لماذا لا تأمُرْها بالحجاب
- لا زالت صغيرة ، إذا بلغت أمرناها بالحجاب
التزمي بالحجاب الشرعي
- شكلي غير مقبول ، ماذا يقول عني الناس ، الغطاء يكتم النّفس
اتقي الله ولا تلبسي العباءة الملوّنة والمنقوشة
- هذا الموجود في السوق
كيف تُدخل أجهزة اللهو المحرمة إلى بيتك
- غلبنا النساء وضغط علينا الأولاد
لماذا لا تُصلي في المسجد
- صوت الإمام لا يُشجّع ، الروائح فظيعة
لماذا تحلق لحيتك يا أخي
شكلها ما هو مرّة ، ما تطلع كاملة ، فيها حبوب .
وهكذا تتوالى أعذارهم في الكبائر والصغائر في عملية هروب فاشلة من تأنيب الضّمير ونُصح المخلصين ، وللوقوف على حكم وحقيقة هذه الظّاهرة الخطيرة نعود إلى كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم .
ذكْر بعض ما قصّه الله في كتابه من أخبار أهل الأعذار الباطلة
لقد ذكر الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز أمثلة من الأعذار الواهية وكان كثير منها من نصيب المنافقين كأعذارهم في التخلّف عن الواجبات وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله فمن ذلك .
أولا :
قال تعالى : ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(94) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله : أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم " قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أي لن نصدقكم " قد نبأنا الله من أخباركم " أي قد أعلمنا الله أحوالكم " وسيرى الله عملكم ورسوله " أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا " ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " أي فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها ويجزيكم عليها .
ويوضّح كعب بن مالك رضي الله عنه ما حدث فيما قصّه من خبر تخلّفه عن غزوة تبوك فقال :
فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً ( أي بلغه رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك ) حَضَرَنِي هَمِّي وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَ فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ فَقُلْتُ بَلَى إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ لا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ قَالُوا نَعَمْ رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ فَقُلْتُ مَنْ هُمَا قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي رواه البخاري ( 4066 )
فَلَمَّا ذُكِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ وَاعْتَذَرُوا بِالْبَاطِلِ ذُكِرُوا بِشَرِّ مَا ذُكِرَ بِهِ أَحَدٌ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ الآيَةَ رواه البخاري ( 4309 )
ثانيا :
قال تعالى : ( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا(13) الأحزاب
فهذا عذر المنافقين حين أرادوا التخلف عن غزوة الأحزاب والعودة إلى الديار بحجة أنها غير محصّنة ، وكان عذرهم غير مقبول فهم لا يريدون حفظ الديار وإنما في الحقيقة يريدون الفرار ، قال تعالى : ( وما هي بعورة أن يريدون إلا فراراً ) .
"ويستأذن فريق منهم النبي" ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : قالوا بيوتنا نخاف عليها السُرّاق وكذا قال غير واحد .. اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة أي ليس دونها ما يحجبها من العدو فهم يخشون عليها منهم قال الله تعالى "وما هي بعورة " أي ليست كما يزعمون " إن يريدون إلا فرارا " أي هربا من الزحف . تفسير ابن كثير
ثالثا
قال تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ(49) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد ائذن لي في القعود ولا تفتني بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم قال الله تعالى : ( ألا في الفتنة سقطوا ) أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا كما قال محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان و عبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة هل لك يا جدُّ العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرفت قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قد أذنت لك ففي الجدِّ بن قيس نزلت هذه ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الآية ) أي إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم .. وقوله تعالى "وإن جهنم لمحيطة بالكافرين" أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب .
رابعا
وقال تعالى عن أعذار المنافقين أيضا : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) التوبة
قال ابن القيم رحمه الله :
المستهزئ والهازل يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا لأنه قاصد للتكلم باللفظ ، وهزله لا يكون عذرا له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه ، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود ، فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل ، والهزل لم يجعله الله ورسوله عذرا صارفا بل صاحبه أحق بالعقوبة ، ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلُّمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ولم يعذر الهازل بل قال : " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " .
إعلام الموقّعين 3/63
ونحن نقول لكل زنديق ومنافق يروّج الكُفْر ويصرّح به في رواية قصصية أو مقالة صحفيّة أو أبيات أغنية ثمّ يعتذر بأنّه لا يقصد إهانة الشّعائر الدّينية أو المقدّسات الإسلامية أو شخصية النبي صلى الله عليه وسلم : نقول لهؤلاء لمنافقين في كل عصر ومكان : ( لا تعتذروا لن نؤمن لكم ) ، ونقول تربّصوا حتى يأتي اليوم الذي يُقال لكم فيه : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) سورة التحريم
خامسا
ومن الاعتذارات السخيفة أيضا - التي قصّها الله علينا في كتابه ما وقع لبني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه السلام وهو يقودهم إلى فتح بيت المقدس .
قال ابن القيم رحمه الله عن هؤلاء اليهود : ومن تلاعبه بهم أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه وفرق بهم البحر وأراهم الآيات والعجائب ونصرهم وآواهم وأعزهم وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين .
ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم وفي ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم وأن تلك القرية لهم ، فأبوا طاعته وامتثال أمره وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون .
وتأمل : تلطف نبي الله تعالى موسى عليه السلام بهم وحسن خطابه لهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم وبشارتهم بوعد الله لهم : بأن القرية مكتوبة لهم ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا : انقلبوا خاسرين ، فجمع لهم بين الأمر والنهي والبشارة والنذارة والترغيب والترهيب والتذكير بالنعم السالفة فقابلوه أقبح المقابلة فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم : " يا موسى إن فيها قوما جبارين " فلم يوقّروا رسول الله وكليمه حتى نادوه باسمه ولم يقولوا : يا نبي الله وقالوا : إن فيها قوما جبارين ونسوا قدرة جبار السموات والأرض الذي يُذلّ الجبابرة لأهل طاعته ، وكان خوفهم من أولئك الجبارين الذين نواصيهم بيد الله أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه وكانوا أشد رهبة في صدورهم منه .
ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة فقالوا : " إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد
أحدها : تمهيد عذر العصيان بقولهم : " إن فيها قوما جبارين " .
والثاني : تصريحهم بأنهم غير مطيعين وصدروا الجملة بحرف التأكيد وهو " إنّ " ثم حققوا النفي بأداة " لن " الدالة على نفي المستقبل أي لا ندخلها الآن ولا في المستقبل .
ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها ، " فقال لهم رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " بطاعته والانقياد إلى أمره من الذين يخافون الله ، هذا قول الأكثرين وهو الصحيح .. " ادخلوا عليهم الباب " أي باب القرية فاهجموا عليهم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا ، " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " ، ثم أرشداهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل ، فكان جواب القوم أن قالوا : " يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " فسبحان من عَظُم حلمه حيث يقابَل أمره بمثل هذه المقابلة ويواجَه رسوله بمثل هذا الخطاب وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة بل وسِعَهم حلمه وكرمه وكان أقصى ما عاقبهم به : أن رددهم في برية التيه أربعين عاما يظلّل عليهم الغمام من الحرّ وينزل عليهم المن والسلوى .
إغاثة اللهفان 2/313
وأمر بأخذ الشرع بقوة ، فقال تعالى : ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) ، والدّين قول فصل ، وليس بالهزل ، وكثير من الناس لا يأخذون أمور دينهم بجدٍّ وقوة ، ويعتذرون بأعذار واهية ، وهذه من صفات المنافقين الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً ، وعند المعاتبة والنصيحة يعتذرون بأعذار هي في الحقيقة أقبح من الذنب الذي اعتذروا منه .
إننا كثيرا ما نسمع من الأشخاص في مقام النّصح ومواقف المواجهة بمنكراتهم ومعاصيهم أقوالا عجيبة من أمثال ما يلي :
لماذا لا تُقلع عن المعاصي
- الوقت صعب ، كل الناس هكذا
ما جاءت الهداية بعد
المزحة التي قلتها خطيرة وفيها استهزاء بالدين
- نيتي سليمة ، قصدي مجرّد الفرفشة
كيف تعمل في هذا العمل المحرّم
ما وجدت غيره تريدني أن أموت من الجوع
كيف تصافح امرأة أجنبية عنك
- قلبي نظيف
لماذا لا توقظ الولد لصلاة الفجر
- حرام ما أخذ كفايته من النوم ، لديه مدرسة
ابنتك تخطّت العشر وتلبس القصير لماذا لا تأمُرْها بالحجاب
- لا زالت صغيرة ، إذا بلغت أمرناها بالحجاب
التزمي بالحجاب الشرعي
- شكلي غير مقبول ، ماذا يقول عني الناس ، الغطاء يكتم النّفس
اتقي الله ولا تلبسي العباءة الملوّنة والمنقوشة
- هذا الموجود في السوق
كيف تُدخل أجهزة اللهو المحرمة إلى بيتك
- غلبنا النساء وضغط علينا الأولاد
لماذا لا تُصلي في المسجد
- صوت الإمام لا يُشجّع ، الروائح فظيعة
لماذا تحلق لحيتك يا أخي
شكلها ما هو مرّة ، ما تطلع كاملة ، فيها حبوب .
وهكذا تتوالى أعذارهم في الكبائر والصغائر في عملية هروب فاشلة من تأنيب الضّمير ونُصح المخلصين ، وللوقوف على حكم وحقيقة هذه الظّاهرة الخطيرة نعود إلى كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم .
ذكْر بعض ما قصّه الله في كتابه من أخبار أهل الأعذار الباطلة
لقد ذكر الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز أمثلة من الأعذار الواهية وكان كثير منها من نصيب المنافقين كأعذارهم في التخلّف عن الواجبات وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله فمن ذلك .
أولا :
قال تعالى : ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(94) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله : أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم " قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أي لن نصدقكم " قد نبأنا الله من أخباركم " أي قد أعلمنا الله أحوالكم " وسيرى الله عملكم ورسوله " أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا " ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " أي فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها ويجزيكم عليها .
ويوضّح كعب بن مالك رضي الله عنه ما حدث فيما قصّه من خبر تخلّفه عن غزوة تبوك فقال :
فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً ( أي بلغه رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك ) حَضَرَنِي هَمِّي وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَ فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ فَقُلْتُ بَلَى إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ لا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ قَالُوا نَعَمْ رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ فَقُلْتُ مَنْ هُمَا قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي رواه البخاري ( 4066 )
فَلَمَّا ذُكِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ وَاعْتَذَرُوا بِالْبَاطِلِ ذُكِرُوا بِشَرِّ مَا ذُكِرَ بِهِ أَحَدٌ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ الآيَةَ رواه البخاري ( 4309 )
ثانيا :
قال تعالى : ( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا(13) الأحزاب
فهذا عذر المنافقين حين أرادوا التخلف عن غزوة الأحزاب والعودة إلى الديار بحجة أنها غير محصّنة ، وكان عذرهم غير مقبول فهم لا يريدون حفظ الديار وإنما في الحقيقة يريدون الفرار ، قال تعالى : ( وما هي بعورة أن يريدون إلا فراراً ) .
"ويستأذن فريق منهم النبي" ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : قالوا بيوتنا نخاف عليها السُرّاق وكذا قال غير واحد .. اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة أي ليس دونها ما يحجبها من العدو فهم يخشون عليها منهم قال الله تعالى "وما هي بعورة " أي ليست كما يزعمون " إن يريدون إلا فرارا " أي هربا من الزحف . تفسير ابن كثير
ثالثا
قال تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ(49) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد ائذن لي في القعود ولا تفتني بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم قال الله تعالى : ( ألا في الفتنة سقطوا ) أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا كما قال محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان و عبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة هل لك يا جدُّ العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرفت قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قد أذنت لك ففي الجدِّ بن قيس نزلت هذه ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الآية ) أي إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم .. وقوله تعالى "وإن جهنم لمحيطة بالكافرين" أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب .
رابعا
وقال تعالى عن أعذار المنافقين أيضا : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) التوبة
قال ابن القيم رحمه الله :
المستهزئ والهازل يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا لأنه قاصد للتكلم باللفظ ، وهزله لا يكون عذرا له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه ، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود ، فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل ، والهزل لم يجعله الله ورسوله عذرا صارفا بل صاحبه أحق بالعقوبة ، ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلُّمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ولم يعذر الهازل بل قال : " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " .
إعلام الموقّعين 3/63
ونحن نقول لكل زنديق ومنافق يروّج الكُفْر ويصرّح به في رواية قصصية أو مقالة صحفيّة أو أبيات أغنية ثمّ يعتذر بأنّه لا يقصد إهانة الشّعائر الدّينية أو المقدّسات الإسلامية أو شخصية النبي صلى الله عليه وسلم : نقول لهؤلاء لمنافقين في كل عصر ومكان : ( لا تعتذروا لن نؤمن لكم ) ، ونقول تربّصوا حتى يأتي اليوم الذي يُقال لكم فيه : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) سورة التحريم
خامسا
ومن الاعتذارات السخيفة أيضا - التي قصّها الله علينا في كتابه ما وقع لبني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه السلام وهو يقودهم إلى فتح بيت المقدس .
قال ابن القيم رحمه الله عن هؤلاء اليهود : ومن تلاعبه بهم أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه وفرق بهم البحر وأراهم الآيات والعجائب ونصرهم وآواهم وأعزهم وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين .
ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم وفي ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم وأن تلك القرية لهم ، فأبوا طاعته وامتثال أمره وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون .
وتأمل : تلطف نبي الله تعالى موسى عليه السلام بهم وحسن خطابه لهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم وبشارتهم بوعد الله لهم : بأن القرية مكتوبة لهم ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا : انقلبوا خاسرين ، فجمع لهم بين الأمر والنهي والبشارة والنذارة والترغيب والترهيب والتذكير بالنعم السالفة فقابلوه أقبح المقابلة فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم : " يا موسى إن فيها قوما جبارين " فلم يوقّروا رسول الله وكليمه حتى نادوه باسمه ولم يقولوا : يا نبي الله وقالوا : إن فيها قوما جبارين ونسوا قدرة جبار السموات والأرض الذي يُذلّ الجبابرة لأهل طاعته ، وكان خوفهم من أولئك الجبارين الذين نواصيهم بيد الله أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه وكانوا أشد رهبة في صدورهم منه .
ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة فقالوا : " إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد
أحدها : تمهيد عذر العصيان بقولهم : " إن فيها قوما جبارين " .
والثاني : تصريحهم بأنهم غير مطيعين وصدروا الجملة بحرف التأكيد وهو " إنّ " ثم حققوا النفي بأداة " لن " الدالة على نفي المستقبل أي لا ندخلها الآن ولا في المستقبل .
ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها ، " فقال لهم رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " بطاعته والانقياد إلى أمره من الذين يخافون الله ، هذا قول الأكثرين وهو الصحيح .. " ادخلوا عليهم الباب " أي باب القرية فاهجموا عليهم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا ، " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " ، ثم أرشداهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل ، فكان جواب القوم أن قالوا : " يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " فسبحان من عَظُم حلمه حيث يقابَل أمره بمثل هذه المقابلة ويواجَه رسوله بمثل هذا الخطاب وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة بل وسِعَهم حلمه وكرمه وكان أقصى ما عاقبهم به : أن رددهم في برية التيه أربعين عاما يظلّل عليهم الغمام من الحرّ وينزل عليهم المن والسلوى .
إغاثة اللهفان 2/313
تعليق