(لندن )...
يعتبر شهر رمضان أهم الشهور الدينية والطبية لما له من تأثيرات إيجابية على صحة البدن والنفس والعقل والروح, وفرصة عظيمة لتصحيح الأخطاء الغذائية والنفسية التي تسبب أضرارا ومخاطر كبيرة متجلية في البدانة والأمراض المزمنة.
وللصوم فوائد كثيرة متنوعة, منها الاجتماعية, والنفسية, والصحية, فهو بطبيعته رياضة للنفس, إذ يكبح من جماحها, ويعودها على الصبر, ورياضة للبدن, بما يحمله من تجربة قاسية, كما يعين على قوة الإرادة لأنّه يساعد الإنسان في الإضراب عن شهوات الجسد, التي تحرّم في أوقات الصوم, في مدد متقاربة رتيبة, وينسق وجبات الطعام, في الفطور أول المغرب, والسحور قبيل الفجر, فيتحقق له تدريب إرادته على العزم, ومرانها على الالتزام بالرأي الأفضل.
والصوم يهدئ الأعصاب, ويخفّف سرعة الدم, ويساعد على خفض الجناح, والجنوح إلى الخير والمعروف, بالإضافة إلى أنّ التعاليم الواردة في أدب الصائم وكون الشياطين مغلولة في شهر رمضان, والتحذيرات العنيفة المأثورة, عن ارتكاب المنكر في حالة الصيام, تطيب النفوس, وتنعش القلوب, فتنشر روح التسامح والوئام بين أفراد المجتمع.
التأثيرات الصحية
يتعرض الجسم البشري لكثير من المركبات الضارة والسموم التي قد تتراكم في أنسجته, وتدخل أغلبها للجسم عبر الإكثار من تناول أغذية معينة, لا سيما في هذا العصر, الذي عمت فيه الرفاهية مجتمعات كثيرة, وحدث وفر هائل في الأطعمة بأنواعها المختلفة, وتقدمت وسائل التقنية في تسخينها وتهيئتها وإغراء الناس بها, فانتشرت الوجبات السريعة والأطعمة الدهنية والمشروبات السكرية والغازية, التي انكب الناس على التهامها بنهم, وهو ما أدى إلى حصول خلل في الكثير من العمليات الحيوية داخل خلايا الجسم, وظهر نتيجة لذلك ما يسمى بأمراض الحضارة كالسمنة وتصلب الشرايين, وارتفاع الضغط الدموي, وجلطات القلب والمخ, والرئة, ومرض السرطان, وأمراض الحساسية والمناعة.
وقد بينت الدراسات الطبية أن جميع الأطعمة تقريبا في هذا الزمان تحتوي على كميات قليلة من المواد السامة التي تضاف للطعام عادة أثناء إعداده أو حفظه، كالمنكهات, والمطيبات والألوان, ومضادات الأكسدة, والمواد الحافظة, أو الإضافات الكيميائية للنبات أو الحيوان, كمنشطات النمو, والمضادات الحيوية, والمخصّبات, أو مشتقاتها.
وقد تحتوي بعض النباتات في تركيبها على بعض المواد الضارة, كما أن عددا كبيرا من الأطعمة يحتوي على نسبة من الكائنات الدقيقة, التي تفرز سمومها فيها وتعرضها للتلوث, إضافة إلى السموم التي تُستنشق مع الهواء من عوادم السيارات وغازات المصانع, وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير ضابط, وغيرها من سموم الكائنات الدقيقة التي تعيش في البيئة والجسم البشري بأعداد تفوق الوصف والحصر, فضلا عن مخلفات الاحتراق الداخلي للخلايا, التي تسبح في الدم, كغاز ثاني أكسيد الكربون, واليوريا, والكرياتينين, والأمونيا, والكبريتات, وحمض اليوريك, وغيرها كثير, إلى جانب مخلفات الغذاء المهضوم والغازات السامة التي تنتج من تخمره وتعفنه, مثل الأندول والسكاتول والفينول.
ويملك الجسم آليات طبيعية للتخلص من هذه السموم, كالكبد الذي يقوم بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة, أو بتحويلها إلى مواد نافعة, مثل اليوريا, والكرياتين, وأملاح الأمونيا, أو تحويل الجزيئات السمية الذائبة في الشحوم إلى جزيئات غير سامة تذوب في الماء, يمكن أن يفرزها الكبد عن طريق الجهاز الهضمي, أو تخرج عن طريق الكل.
ولكن للكبد جهدا وطاقة محدودين, وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية, أو لأسباب طبيعية كالتقدم في السن, مما يؤدي إلى ترسب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم, وخصوصا في المخازن الدهنية.
وفي الصيام تتحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد حتى تؤكسد, وينتفع بها, وتستخرج منها السموم الذائبة فيها, وتزال سميتها ويتخلص منها مع نفايات الجسد, كما يساعد ما فيها من الكوليسترول على التحكم وزيادة إنتاج مركبات الصفراء التي تقوم بإذابة مثل هذه المواد السامة, والتخلص منها مع البراز.
وأوضح العلماء أن صيام رمضان يؤدي خدمة جليلة للخلايا الكبدية, بأكسدته للأحماض الدهنية, فيخلصها من مخزونها الدهني, فتنشط وتقوم بدورها بشكل صحيح, وتعادل كثيرا من المواد السامة حتى تصبح غير فعالة ويتخلص منها الجسم.
ويكون نشاط هذه الخلايا في أعلى معدل كفاءتها للقيام بوظائفها أثناء الصيام, فتقوم بالتهام البكتيريا, بعد أن تهاجمها الأجسام المضادة المتراصة, وتزداد فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم خلال الصيام، لأن عمليات الهدم في الكبد في هذه الفترة تغلب عمليات البناء في التمثيل الغذائي, كما يزداد أيضا نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سمية كثير من المواد السامة.
ويرى عدد من الأطباء العالميين, الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره على الصحة, أن كل إنسان يحتاج إلى الصوم, وإن لم يكن مريضا, لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم, فتجعله كالمريض وتثقله, فيقل نشاطه, فإذا صام تخلص من أعباء هذه السموم, وشعر بنشاط وقوة.
وأوضح العلماء في المجلة الباكستانية للبحوث العلمية والصناعية، أن الصيام يعمل كعامل تنقية ومزيل للسموم وللآثار الممرضة للهرمونات والمواد الحافظة الموجودة في الكثير من الأطعمة، فالشخص الأمريكي البالغ يحمل في جسمه ما يقدر بحوالي 5 - 10 باوندات من المواد السامة، فضلا عما يعانيه الأفراد من شهية للمواد المؤذية كالنيكوتين والكافيين والأملاح الزائدة التي تسبب ارتفاع ضغط الدم, وأمراض القلب, إلى جانب ما يحتويه الطعام من سكريات مصفاة التي تسبب تسوس الأسنان وتزيد مرض السكري سوءا, ولذلك فان حالة الصيام تحرك وقود الجسم ومخازن الطاقة فيه، وتزيد طرح نواتج الفضلات والمواد المؤذية إلى خارج الجسم.
وبالتالي، فان الصوم يوفر على الأجهزة الباطنية, فترة راحة, لهضم الرواسب, التي تطفلت عليها بالجشع وتلون الأطعمة, ولكن لا يستفيد من هذه الناحية, سوى الصائم الذي عرف أنَّ الصوم هو الذي يكون له جوع وعطش يُذكر بجوع وعطش يوم القيامة, وأما الصائم الذي يشحن بطنه من أول الليل إلى آخره بألوان الطعام, حتى يلهث من أول النهار إلى آخره, ويتجشأ على مائدة الفطور, فإنّ الصوم لا يزيده إلاّ تخمة وثقلاً.
أما من الناحية النفسية، يساعد الصيام في تدريب النفس على الصبر والامتناع عن إشباع بعض رغبات النفس, وبعض حاجات البدن, فيساهم في نضج الشخصية الإنسانية.
وبما أن العقل والنفسية السليمة هي مفتاح الصحة الجيدة, فصيام رمضان يلعب دورا عظيما في تخفيف التوتر والضغط النفسي، الذي يعد أحد أكثر العوامل المسببة أو المفاقمة لمعظم الأمراض, وتوليد سلام داخلي مع النفس وراحة وطمأنينة ذاتية.
وقد أثبت العلم أن لكثرة العبادات الدينية كالصلاة والدعاء وقيام الليل التي يتميز بها شهر رمضان فوائدا إيجابية كثيرة وقدرة فريدة على تحسين الصحة النفسية للإنسان, لا سيما بعد أن أثبتت الدراسات الجديدة أنها تساعد في التغلب على الكآبة، وخصوصا عند المرضى وذويهم.
فقد وجد العلماء في الدراسة التي نشرتها مجلة/الطب النفسي والجسدي/, أن الالتزام بالعبادات الدينية نجح في تخفيف حالات القلق والاكتئاب عند المرضى المصابين بسرطان الرئة وذويهم وشركاء حياتهم.
وكشفت دراسات الأطباء النفسيين في السنوات الأخيرة, أن حرمان المريض المصاب بالاكتئاب النفسي من نوم النصف الثاني من الليل, يساعد في تحسين مزاجه واستقراره النفسي, مما يؤكد أهمية قيام الليل والتهجد في الأسحار، فهي إضافة إلى كونها تقربا مثاليا من الله، فهي تساهم في تحسين المزاج والصحة النفسية.
ويترافق الصيام في رمضان مع صلاة التراويح, التي تمنح المسلم فوائدا علاجية وروحية تبدأ من الوضوء إلى الحركات الجسدية في صلاة التكبير والقيام والركوع والسجود والجلسة والتسليم, فقد أكد الخبراء أن هذه الصلاة الرمضانية التي تؤدى بعد صلاة العشاء, ويتراوح عدد ركعاتها بين ثماني إلى عشرين ركعة, يأخذ المصلي فترة راحة بعد كل أربع ركعات لتسبيح الله, تعتبر تمرينا بدنيا معتدلا لكل عضلة من عضلات الجسم, حيث تنقبض بعض العضلات بطول متساوٍ, وتنقبض الأخرى بنفس التوتر، وتزيد الطاقة اللازمة لعمليات أيض العضلات خلال تأدية الصلاة, مما يؤدي إلى نقص في مستويات الأكسجين والعناصر الغذائية في العضلات, ويؤدي هذا النقص بدوره إلى توسع الأوعية الدموية، مما يسمح للدم بالتدفق بسهولة عائدا إلى القلب, فيعمل هذا العبء المتزايد مؤقتا على القلب، على تقوية العضلة القلبية وتحسين التدفق الدموي فيها.
كما تلعب صلاة التراويح دورا مهما في تنظيم مستويات السكر بعد الإفطار, وحرق السعرات الزائدة، وتحسين مرونة الجسم وتوازنه، وتقليل الاستجابات الذاتية المرتبطة بالتوتر عند الأصحاء، وتخفيف حالات القلق والكآبة, وتحسين الحالة النفسية والعاطفية أيضا, وتزيد مدة حياة المصلين, لأن بذل جهد إضافي، كما يحدث في التراويح, يزيد القدرة على التحمل ويقوي الجسم ويزيد مرونته، مشيرين إلى أن الصلوات الخمس اليومية تنتج نفس التغيرات الفسيولوجية التي تنتجها رياضات المشي والهرولة بسرعة ثلاثة أميال في الساعة, ولكن دون الآثار الجانبية غير المرغوبة المتسببة عن تلك الرياضات.
ويرى العلماء أن الحركات المنتظمة والمتكررة للجسم خلال الصلاة، تقوي العضلات والأوتار والمفاصل وتزيد المرونة وتحسن وظائف جهاز القلب الوعائي, مما يدل على أن الصلاة بشكل عام, والتراويح بشكل خاص, تحسن نوعية حياة المسنين وتقيهم شر الوقوع والكسور، وتزيد قدرتهم على التحمل وثقتهم بأنفسهم، إضافة إلى زيادة إيمانهم, وتحمي الجلد من الترهل والتجعد, وتنشط أجهزة المناعة واستجاباتها.
يتبع ...
الروابط المفضلة