انتقلت منتديات لكِ النسائية إلى هذا الرابط:
منتديات لكِ النسائية
هذا المنتدى للقراءة فقط.


للبحث في شبكة لكِ النسائية:
عرض النتائج 1 الى 5 من 5

الموضوع: -o-0-o- الفتن و قانون الابتلاء -o-0-o-

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2002
    الموقع
    عائلة "ابن بطوطة" تنتقل من جديد من فانكوفر لهملتون
    الردود
    7,381
    الجنس
    امرأة

    -o-0-o- الفتن و قانون الابتلاء -o-0-o-

    السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية ، للدكتور عبد الكريم زيدان ، ص 79

    *معنى الفتنة :

    جاء في لسان العرب : جماع معنى الفتنة : الابتلاء والامتحان والاختبار وأصلها مأخوذ من قولك : فتنت الفضة والذهب إذا أذبتها بالنار لتميز الرديء من الجيد أو إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته.

    والفتنة : الإحراق ، الإثم ، اختلاف الناس بالآراء ، الجنون ، الإزالة ، ومنه قوله تعالى : (وإن كادوا ليفتتونك عن الذي أوحينا إليك) أي يميلونك ويزيلونك عن الذي أوحينا إليك.



    والفتنة : الكفر ، كما في قوله تعالى : (والفتنة أشد من القتل) ، والفتنة : ما يقع بين الناس من القتال. والفتنة : القتل كما في قوله تعالى : (إن خفتم أن يفتتكم الذين كفروا). وقوله صلى الله عليه وسلم : (أرى الفتن خلال بيوتكم) بأن يكون القتل والحروب والاختلاف الذي يكون بين فرق المسلمين. ويكون بما يبلون به من زينة الدنيا وشهواتها فيفتنون بذلك عن الآخرة والعمل لها.


    وفي النهاية لابن الأثير : الفتنة : الامتحان والاختبار ، وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه. ثم كثر حتى استعمل لفظ الفتنة بمعنى الإثم والكفر والقتل والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء.



    وفي المعجم الوسيط : الفتنة : الاختبار بالنار ، والابتلاء والاختبار. قال تعالى : (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). والفتنة : الإعجاب بالشيء ، والاضطراب وبلبلة الأفكار ، العذاب والضلال. وفتنه : رماه في شدة ليختبره. وفتن فلاناً : عذبه ليحوله عن رأيه أو دينه.



    وفي المفردات في غريب القرآن : أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته. وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعملون هذا اللفظ فيه نحو قوله تعالى : (ألا في الفتنة سقطوا) وتارة يستعملون (الفتنة) في الاختبار نحو قوله تعالى : (وفتناك فتوناً). وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء ، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالاً قال تعالى : (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). قال تعالى في الشدة : (فتنتم أنفسكم) أي : أوقعتموها في بلية وعذاب ، وقوله تعالى : (واعملوا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) فقد سماهم ها هنا فتنة اعتباراً بما ينال الإنسان من الاختبار بهم. وقوله تعالى : (آلم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) أي لا يختبرون فيميز خبيثهم من طيبهم.



    *معنى الابتلاء :


    جاء في لسان العرب : بلوت الرجل وابتليته : اختبرته. وابتلاه الله : امتحنه والاسم : البلوى والبلاء. والبلاء : الاختبار يكون في الخير والشر.


    وفي المعجم الوسيط ابتلاه : جربه وعرفه. والبلاء : الحادث ينزل بالمرء ليختبره.

    وفي النهاية لابن الأثير : الابتلاء في الأصل الاختبار والامتحان ، يقال : بلوته وأبليته وابتليته. والمعروف أن الابتلاء يكون في الخير والشر معاً من غير فرق بين فعلهما ومنه قوله تعالى : (ونبلوكم بالشر والخير فتنة).


    وفي المفردات في غريب القرآن : بلوته : اختبرته وأبليت فلاناً إذا اختبرته. وسمي التكليف بلاء من أوجه (أحدها) أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان فصارت من هذا الوجه بلاء. (والثاني) أنها اختبارات ولهذا قال عز وجل : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين). (والثالث) أن اختبار الله تعالى للعبد تارة بالمسار ليشكر وتارة بالمضار ليصبر فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاء.


    *الخلاصة من معنى الفتنة والابتلاء :

    وخلاصة المعنى الذي نريده في الفتنة والابتلاء في بحثنا هو الاختبار والامتحان للإنسان في الشدة والرخاء. وكذلك لفظ البلاء مع زيادة في المعنى الذي نريده بلفظ (البلاء) وهو الحادث الذي فيه شدة ومشقة وينزل بالمرء لغرض اختباره وامتحانه به.


    *من سنة الله الابتلاء بالشر والخير :

    وقد مضت سنة الله في الابتلاء أنه يمتحن عباده بالشر والخير أي يخبرهم بما يصيبهم مما يثقل عليهم كالمرض والفقر والمصائب المختلفة كما يختبرهم بما ينعم عليهم من النعمة المختلفة التي تجعل حياتهم في رفاهية ورخاء وسعة العيش كالصحة والغنى ونحو ذلك ، ليتبين بهذا الامتحان من يصبر في حال الشدة ومن يشكر في حال الرخاء والنعمة ، قال تعالى : (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) ، أي نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا والمصائب والشدائد كالسقم والفقر وغير ذلك مما يجب فيه الصبر. كما نختبركم بما يجب فيه الشكر من النعم كالصحة والغنى والرخاء ونحو ذلك فيقوم المنعم عليه بأداء ما افترضه الله عليه فيما أنعم به عليه.



    وكلمة (فتنة) في قوله تعالى : (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) أي ابتلاء في مصدر مؤكد لقوله تعالى : (ونبلوكم) من غير لفظه. (وإلينا ترجعون)أي فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر. فاختبار الله تعالى لعباده تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا ، فالمنحة والمحنة جميعاً بلاء ، فالمحنة مقتضيه للصبر والمحنة مقتضية للشكر ، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر ، فالمنحة أعظم البلاءين. وبهذا النظر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر.



    *من أنواع الابتلاء بالشر :


    قلنا : إن من سنة الله في الابتلاء أنه يمتحن عباده بالشر كما يمتحنهم بالخير ، ومن امتحانه لهم بالشر إصابتهم بأنواع البلايا والمصائب والشدائد وما يشق على نفوسهم ، ومن هذا النوع من الاختبار ما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز : (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).


    أخبرنا الله تعالى أنه يبتلي عباده أي يختبرهم فتارة بالسراء وتارة بالضراء كالمذكور في هذه الآيات وهو الخوف والجوع ونقص من الأموال ، أي ذهاب بعضها ، ونقص في الأنفس كموت الأصحاب والأقارب والأحباب ونقص في الثمرات فلا تثمر الحدائق والمزارع والأشجار كعادتها. فالذين يصبرون في هذه البلايا ويقولون : (إنا لله وإنا إليه راجعون) ، أي يقولون ذلك عن علم ومعرفة بأنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء وعلموا أنه لا يضيع عنده مثقال ذرة من خير ، ومن الخير صبرهم ، وعلموا أنهم راجعون إليه تعالى فيجازيهم على صبرهم يوم القيامة ، وهؤلاء الصابرون يبشرهم الله تعالى بما أخبرنا به وهو : (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) أي ثناء من الله ورحمه : (وأولئك هم المهتدون) أي مهتدون إلى الطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا الأمر الله تعالى.


    امتحان الناس بزينة الدنيا :

    قال تعالى : (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً. وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً). أي جعلنا ما يصلح أن يكون زينة للأرض ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها لنمتحن الناس بذلك ، وذهب الإمام القرطبي إلى أن (الزينة) تشمل كل وجه الأرض ، فلفظ الزينة في الآية عموم لأنه كل شيء على وجه الأرض دال على خالقه جل جلاله ، فكل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه.


    وعلى هذا العموم الذي ذهب إليه الإمام القرطبي يكون معنى الآية : إن الله تعالى جعل جميع ما على الأرض من غير ذوي العقول زينة للأرض تتزين به وتتحلى وهو شامل لزينة أهلها أيضاً. وزينة كل شيء بحسبه وهو زينة لأهلها ، ولا شيء مما على الأرض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على خالقه الله جل جلاله.


    ومعنى (لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) أي لنختبرهم في زينة الأرض ليتبين من هم أحسن عملاً. وحسن العمل الزهد في زينة الدنيا وعدم الاغترار بها ، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن به الشرع وأداء حقوقها والشكر على ما أوتي منها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما تفعله الكفرة وأصحاب الأهواء. ومراتب حسن العمل – أي الزهد في زينة الدنيا بالمعنى الذي نبينه – متفاوتة ، وكلما قوي الزهد كان العمل أحسن ، ولهذا قال الإمام سفيان الثوري في قوله تعالى : (لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) أي لنختبرهم أيهم أزهد في زينة الدنيا.



    ابتلاء الناس بالتفاوت فيما بينهم :

    ومما يمتحن الله به عباده وجرت به سنته تفاوتهم واختلافهم في المواهب والأرزاق ليظهر مدى قيامهم بما يلزمهم شرعاً من فعل أو ترك نحو أنفسهم وغيرهم بناء على الحالة التي هم عليها وامتازوا بها من غيرهم واختصوا بها من دونهم كالعلم والجاه والمال والمكانة الاجتماعية والسلطان وكذلك بناء على فقرهم وضعفهم ، قال تعالى : (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم).


    والمعنى أن الله تعالى هو الذي جعلكم – أيها المسلمون – خلفاً للأمم الماضية والقرون السابقة (ورفع بعضكم فوق بعض) أي فاوت وخالف بينكم في الخلق والرزق والقوة والفضل والعلم والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان وله الحكمة في ذلك. وقد جرت سنته تعالى في هذا التفاوت ورفع بعضكم فوق بعض في هذا التفاوت (ليبلوكم فيما آتاكم) أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره ، والفقير في فقره ويسأله عن صبره ، وليختبر ذا الجاه السلطان في أي شيء استعمل جاهه وسلطانه (إن ربك سريع العقاب) لمن كفر نعمته وعصاه فيها (وإنه لغفور رحيم) لمن قام بشكر نعمته وأطاعه فيها.


    من سنة الله في الابتلاء امتحان المؤمنين بالشدائد :

    قال تعالى : (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب). قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في معركة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والبرد وسوء العيش وأنواع الشدائد. وقال بعض المفسرين : نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين وآثروا رضا الله ورسوله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييباً ، واستدعاهم الله تعالى إلى الصبر ووعدهم على ذلك بالنصر.


    (والبأساء) الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه كأخذ المال والإخراج من الديار وتهديد الأمن ومقاومة الدعوة. (والضراء) ما يصيب الإنسان في نفسه كالجراح والقتل. (وزلزلوا) أي أزعجوا إزعاجاً شديداً بأنواع البلاء ، وخوفوا من الأعداء.


    ومعنى الآية : أم ظننتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تختبروا وتمتحنوا كما امتحن الذين من قبلكم من الأمم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا أي خوفوا من الأعداء تخويفاً شديداً وامتحنوا امتحاناً عظيماً حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه أخذوا يستفتحون على أعدائهم ويدعون الله بقرب الفرج والمخرج من الضيق الذي هم فيه. وكان الجواب لدعاء المؤمنين أن قال لهم الله : (إلا إن نصر الله قريب).


    وفي تفسير القرطبي : وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية هو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. أي إن الجهد قد بلغ بهم مبلغاً عظيماً حتى استبطؤوا النصر فقال تعالى : ( ألا إن نصر الله قريب). ويكون ذلك من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على معنى طلب استعجال النصر لا على الشك والارتياب في حصول النصر.


    وقالت طائفة من المفسرين : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : حتى يقول الذين آمنوا : متى نصر الله ؟ فيقول الرسول : ألا إن نصر الله قريب. وإنما قدم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الآية لمكانته وعلو منزلته ، ثم قدم قول المؤمنين لأنه هو المتقدم في الوقوع من حيث الزمان ، أي قالوا ذلك ثم أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نصر الله قريب.

    وفي تفسير الرازي : ولقول هذه الطائفة نظائر في القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله تعالى : (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار.

    وفي تفسير المنار : يقول الأستاذ الإمام (محمد عبده) إن هذه الآية عتاب لهم – أي للصحابة الكرام – فكيف لا ينكر المسلم على نفسه مثل هذا وهو يعلم أنه دون الصحابة الكرام إيماناً وإسلاماً ودعوة إلى الحق وصبراً على المكاره في سبيل الله تعالى. لماذا لا ينكر على نفسه وعلى من يراه من أمثاله الذين يقولون آمنا بالله ، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله وآثر ما عند الناس على ما عند الله.


    *امتحان المؤمنين بالجهاد :

    ومن سنته تعالى امتحان عباده المؤمنين بالجهاد بأن تتهيأ ظروفه وأسبابه فيجب على المؤمنين فيظهر عند ذلك من يقوم بهذه الفريضة ويصبر على مقتضياتها فيستحق بفضل الله وبحسب وعده وسنته الجنة ، قال تعالى : (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).


    قال الإمام ابن كثير في تفسير الآية : أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تمتحنوا بالقتال والشدائد ؟ أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تمتحنوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقاومة الأعداء.


    *امتحان المؤمنين بأنواع الأذى :

    قال تعالى : (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). إن من سنة الله في عباده المؤمنين الداعين إليه المجاهدين في سبيله أن يبتلوا بأنواع البلاء ، يبتلوا في أموالهم بما يطلب منهم من الإنفاق منها في سبيل الله ، وما يقع فيها من الآفات. ومن البلاء الذين يمتحنون به البلاء في أنفسهم بالقتل والجرح والأسر في قتال العدو ، ويلحق به الحبس في زماننا حيث يسجن الطغاة الظلمة المؤمنين الدعاة إلى الله تعالى.


    ومن البلاء الذي يبتلون به على وجه الامتحان وحسب مقتضيات سنة الله تعالى في الداعين إليه المجاهدين في سبيله ما يسمعونه من أهل الكتاب والمشركين وغيرهم من الكفرة من أنواع الأذى القولي كالطعن في الإسلام وفي الدعاة إليه وبإلصاق التهم الباطلة بهم لصد الناس عنهم وعن دعوتهم. وإن من عزائم الأمور الصبر على هذا الأذى والالتزام بالتقوى ، فهذا مما يجب أن يعزم عليه المؤمنون من الأمور التي تزهق الباطل وتنصر الحق وأهله.


    *أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل :

    أ- أخرج الترمذي في جامعه عن مصعب بن سعد عن أبيه قال ، قلت : يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء ؟ قال : (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).


    ب- وفي حديث آخر أخرجه الطبراني في معجمه الكبير عن أخت حذيفة بن اليمان فاطمة أو خولة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل).


    والمقصود بالأمثل فالأمثل : الأشرف فالأشرف والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة في الدين والفضل. وقال الراغب : الأمثل يعبر به عن الأشبه بالأفضل والأقرب إلى الخير. وأماثل القوم كناية عن خيارهم.


    وإنما كان أكثر الناس بلاء – أي محنة – لتتضاعف أجورهم وتتكامل فضائلهم ويظهر الناس صبرهم ورضاهم فيقتدى بهم ، ثم من بعدهم الأمثل فالأمثل من جهة شدة البلاء الذي يتعرضون له ، لأن البلاء في مقابلة النعمة : فمن كانت نعمة الله عليه أكثر فبلاؤه أشد ، فهم – أي الأمثل فالأمثل – معرضون للمحن والمصائب وطروق المنغصات والمتاعب ، ويشمل ذلك كل ما يتأذى به الإنسان من أذى مادي أو معنوي ، فيبتلى الرجل على حسب دينه ، أي على مقدار دينه أي بقدر قوة إيمانه وشدة يقينه ، فإن كان في دينه صلباً أي قوياً شديداً اشتد بلاؤه كمية وكيفية ونوعاً. وإن كان في دينه رقة أي ضعف ولين ابتلي على قدر دينه. فما يبرح البلاء بالعبد أي ما يفارقه حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة ، كناية عن خلاصه من الذنوب فكأنه كان محبوساً ثم أطلق وخلي سبيله وما عليه بأس.


    ويستفاد من الحديثين الذين ذكرتهما أن سنة الله العامة في البلاء والمبتلين أن أشدهم بلاء أي محناً هم الأنبياء ، ثم الأفضل فالأفضل في الصلاح والدين وتقوى الله تعالى. وهذه سنة ماضية وباقية في المؤمنين دون تخلف.



    *تعليل هذه السنة العامة :

    تعليل هذه بالسنة العامة وهي : (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) أن الأنبياء يقومون بتبليغ رسالات ربهم ويدعون الناس إلى الله وعبادته فيكذبهم أهل الباطل ويؤذونهم بشتى أنواع الأذى كما قضت سنة الله في التدافع بين الحق والباطل.


    وأما تعليل كثرة البلاء على الصالحين ثم الأمثل فالأمثل ، فإن الصالحين هم القائمون بما عليهم من حقوق الحق والخلق. ومن هذه الحقوق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله ودعوة الخلق إلى الحق جل جلاله ، وما يترتب على ذلك – حسب سنة الله في التدافع بين الحق والباطل – من أذى بشتى أنواعه يلحق بهم ، وكلما كان المؤمن صلباً في دينه أي قوياً في إيمانه كان أكثر جهاداً في سبيل الله فيكون أكثر بلاء من غيره لما يلقاه من الكفر وأهل الباطل في جهاده ومدافعته لهم.


    وأيضاً من تعليل هذه السنة العامة قول أهل العلم في تعليل هذه السنة في حق الأنبياء : (لتتضاعف أجورهم وتتكامل فضائلهم ويظهر للناس صبرهم ورضاهم فيقتدى بهم). قولهم بالنسبة لكثرة بلاء الأمثل فالأمثل : (إن البلاء بمقابلة النعمة فمن كانت نعمة الله عليه أكثر فبلاؤه أشد).


    ولا شك أن نعمة الله على عباده المؤمنين الصالحين نعمة عظيمة إذ هداهم للإيمان وهذه النعمة تستحق الشكر وشكرها القيام بحقوق الله ، ومنها الجهاد في سبيله وما يترتب عليه من أذى يلحق بالمجاهدين.


    ومن تعليل هذه السنة التي نحن بصددها أن في البلاء كالمرض ونحوه زيادة أجر للمصاب به وتكفير سيئات المؤمن كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن الحارث بن سويد عن عبد الله قال : (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت : يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً. قال : أجل ، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت : ذلك بأن لك أجرين. قال : أجل ، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى – حتى شوكة فما فوقها – إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها). ومعنى الوعك الحمى ، وقيل ألم الحمى ، وقوله : (ذلك كذلك) إشارة إلى مضاعفة الأجر بشدة الحمى. وقوله (أجل) أي نعم. فالحديث أثبت أن المرض – وهو نوع من البلاء – إذا اشتد ضاعف الأجر ، أو أن شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضاً حتى لا يبقى منها شيء.



    *ابتلاء الأمم الكافرة :

    وقد مضت سنة الله في الأمم الكافرة أن يبتليها بالبأساء والضراء عسى أن يردعها هذا الابتلاء عن كفرها وعنادها وترجع إلى ربها ، فإن لم تفعل ابتلاها بعد ذلك بالسراء عسى أن يحملها ذلك على التوبة بعد أن لم تحملها الشدة على ذلك ، قال تعالى : (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون. ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون).


    والمعنى أن سنة الله تعالى في الأمم التي كذبت رسلها أن الله تعالى أخذها بالبأساء وبالضراء أي بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم ، وقد فعل الله تعالى ذلك بهم لكي يتضرعوا. والتضرع يعني الخضوع والانقياد إلى الله تعالى لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى وأن يحمل أولئك المعاندين على التوجه إلى خالقهم فيتضرعوا إليه ويطلبوا رحمته وعفوه ، فلم يفعلوا ذلك فأخذهم بالرخاء ليختبرهم فيه ، ولهذا قال : (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) أي حولنا حالهم من الشدة إلى الرخاء ومن المرض والسقم إلى الصحة والعافية ، ومن الفقر إلى الغنى ، ليشكروا على ذلك ويرجعوا إلى ربهم بالتوبة والانقياد فلم يفعلوا ذلك (حتى عفوا) أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم (وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء) يقول تعالى ابتليناهم بهذا وبهذا ، أي بالضراء والسراء ليتضرعوا وينيبوا إلى الله فلم ينفع فيهم لا هذا ولا هذا ، ولا انتهوا عن غيهم بهذا ولا بهذا ، وإنما قالوا قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر ، وهذه عادة الزمان في أهله فمرة يحصل لهم فيه الشدة والنكد ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة فلم يكن ما مسنا من البأساء والضراء عقوبة من الله بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل ، فلم يتفطنوا لأمر الله فيهم ولا اتعظوا ولا اعتبروا ولا استشعروا امتحان الله لهم في الحالين فاستحقوا العقاب قال تعالى : (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) أي أخذناهم بالعقوبة بغتة أي على بغتة وعدم شعور منهم أي أخذناهم فجأة.



    *من ابتلاء الأمم الكافرة :

    قال تعالى : (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون). والمعنى : لقد أرسلنا إليهم الرسل فكذبوهم فأخذناهم بالبأساء أي بالبؤس كالفقر وضيق العيش والضراء أي بالضر كالمرض والأسقام ونقصان الأموال والأنفس (لعلهم يتضرعون) أي يتذللون ويخشعون لربهم وينقادون إليه ويتوبون عن ذنوبهم : (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) أي لم يفعلوا ما كان حرياً أن يفعلوا فلم يتضرعوا ولم يلجأوا إلى الله تعالى ولم يرجعوا عن عنادهم ، وجاء بـ (لولا) في قوله تعالى : (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم ، ولهذا قال تعالى عنهم : (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) من الكفر والمعاصي بما يوسوس إليهم من تحسين ما هم عليه من كفر وعصيان لربهم.



    *فتنة مدعي الإيمان :

    قال تعالى : (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). والفتنة : الامتحان بشدائد التكاليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء وما يترتب عليه من أذى في الأموال والأبدان ، والقيام بسائر الطاعات الشاقة وهجر الشهوات والملذات ، وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ، وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم. والمعنى : أحسب الذين نطقوا بكلمة الشهادة وأظهروا القول بالإيمان أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين ؟ بل إن الله تعالى يمتحنهم بضروب المحن حتى يختبر صبرهم وثبات أقدامهم وصحة عقائدهم وصدق إيمانهم ليتميز المخلص من غير الملخص ، والصادق في إيمانه من الكاذب فيه ، والراسخ في الدين من المضطرب فيه ، فسنة الله لا تتبدل وهي امتحان مدعي الإيمان ، ولهذا فقد امتحن الله أتباع الأنبياء عليهم السلام بأنواع المحن فلا وجه لتخصيص المسلمين بعدم الامتحان ، فسنة الله في هذا الامتحان ماضية فيهم كما مضت فيمن سبقهم من المؤمنين أتباع الأنبياء السابقين. وبهذا الامتحان يظهر الصادق في إيمانه ويتميز من الكاذب.



    *فتنة النعمة :

    قال تعالى (وإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون. قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون). يقول الله تبارك وتعالى مخبراً عن الإنسان أنه في حال الضراء يتضرع إلى الله عز وجل وينيب إليه ويدعوه ، وإذا خوله نعمة منه بغى وطغى وقال إنما أوتيته على علم ، قال تعالى إنكاراً لقول هذا الإنسان : (بل هي فتنة) أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنمتحنه فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي ، أيشكر أم يكفر ، مع علمنا المتقدم بذلك. فما أعطيناه من نعمة فهي فتنة أي اختبار له ، وقد قال مثل مقالته – وهي (إنما أوتيته على علم – وزعم هذا الزعم وأدعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم ومنهم قارون (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) أي ما صح قولهم ولا نفعهم ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا وما كانوا يجمعون منه.



    *فتنة الأموال والأولاد :

    قال تعالى : (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) . والمعنى أن الله تعالى جعل الأموال والأولاد فتنة أي اختباراً وامتحاناً منه لكم إذا أعطاكموه ليعلم أتشكرونه عليها وتحافظون فيهم على حدوده أو تشتغلون بها عنه كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون). وقوله تعالى : (وأن الله عنده أجر عظيم) أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد فإنه قد يوجد منهم عدو.



    * الله وحده هو المتفرد بامتحان عباده :

    وليكن معلوماً أن الله تعالى هو وحده المتفرد بامتحان عبده ولا يشركه أحد في هذا الامتحان وما يتعلق به من حيث مكانه وزمانه ومفرداته فهو تعالى يعين مفردات هذا الامتحان أي أنواع الفتن والمحن التي يمتحن الله بها عبده ، وهو تعالى يعين وقت هذا الامتحان ومكانه ومدته. ولا يجوز مطلقاً للعبد كائناً من كان أن يعترض على هذا الامتحان ولا على مفرداته ومواضيعه ولا على زمانه ومكانه ومدته ولا أن يختار مفردات معينة لامتحانه ولا أن يختار مكاناً أو زماناً لهذا الامتحان ولا مدة له ، فكل ذلك لا يجوز مطلقاً ، وإذا صدر من المسلم كان ذلك مناقضاً لإيمانه بل ردة عن الإسلام والعياذ بالله فليحذر المسلم ذلك. إن التلميذ لا يحق له أن يفرض مفردات امتحانه على أستاذه ولا أن يعترض على ذات الامتحان ولا على مدته ، فكيف يجوز للعبد أن يفعل ذلك مع الله جل جلاله بشأن امتحانه ؟ نعم ، يجوز للمسلم أن يدعو الله تعالى أن يخفف عليه الامتحان ويسأله اللطف فيه ويستعيذ به من الفتن ، وهذا ما نبينه في الفقرة التالية.



    *الاستعاذة بالله من الفتن :

    قلت : إن الله تعالى وحده هو المتفرد بامتحان عباده وبجميع ما يتعلق بهذا الامتحان من جهة مفرداته وزمانه ومكانه ومدته ، وإنه لا يجوز الاعتراض عليه في شيء من ذلك أو يفرض على الله تعالى نمطاً معيناً من هذا الامتحان أو مفرداته، أو يعترض على نفس الامتحان. ولكن يجوز للمسلم أن يسأل الله تعالى ويدعوه ويتوسل إليه أن لا يمتحنه بما يشق عليه وبما لا ينجح فيه ، وأن يقيه شر الفتن التي قد يتعرض إليها ، ولذلك جاءت الأدعية المأثورة في الاستعاذة بالله من الفتن ، من ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم ، والمأثم والمغرم ، ومن فتنة القبر وعذاب القبر ، ومن فتنة النار وعذاب النار ، ومن شر فتنة الغنى ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال).


    وكان الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يقول في دعائه : (أعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات). وفي كتاب الله العزيز (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم).


    وجاء في تفسيرها : قال قتادة : لا تظهرهم علينا فيفتنونا ، ويرون أنما ظهروا علينا لحق هو عليه. وعن ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيفتنونا.


    وفي تفسير الآلوسي : أي لا تسلطهم – أي الكفار – علينا فيسْبونا ويعذبونا ، قاله ابن عباس. قال مجاهد : أي لا تعذبنا بأيديهم أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون فيفتنوا لذلك. والأول أرجح.


    *امتحان الجماعة المسلمة :

    إن الابتلاء كما يصيب الفرد والأمة يصيب الجماعة المسلمة التي تدعو إلى الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فما ذكرناه من أنواع البلاء والابتلاء مما يصيب المؤمنين في جهادهم في سبيل الله يصيب الجماعة المسلمة أيضاً فيصيب أعضاءها أنواع الأذى في أموالهم بالمصادرة والاستيلاء عليها ، وفي أشخاصهم بالحبس والتعذيب وبسمعتهم بالاتهامات الباطلة ، ولا سيما في زماننا لذي تنوعت فيه وسائل الدعاية ولا سيما إذا كان خصم الجماعة المسلمة ذا سلطان بماله أو نفوذه أو سلطته بل وربما يكون خصمها الحكام وولاة الأمر أنفسهم. فلا بد للجماعة المسلمة أن تعتصم بالصبر والتقوى لتفوت على خصومها ما يردون ، قال تعالى : (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور).




    *الابتلاء للجماعة المسلمة تمييز وتمحيص :


    وليكن معلوماً للجماعة المسلمة أن ما يصيبها من مفردات الامتحان الصعب هو ما جرت به سنة الله تعالى في إعداد الجماعات المسلمة التي تحمل الدعوة إلى الله تعالى ، وإن في الامتحان الشاق خيراً كثيراً للجماعة نفسها لأنه يتميز بهذا الامتحان القوي من الضعيف من أعضائها والصادق في إيمانه من الكاذب أو المنافق ، قال تعالى : (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم).


    والمعنى : ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق وأشباهه حتى يميز الخبيث من الطيب أي المنافق من المؤمن بإلقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة ، فمن كان مؤمناً ثبت على إيمانه وعلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن كان منافقاً ظهر نفاقه وكفره ، (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) ، أي لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه فيقول : إن فلاناً منافق وفلاناً مؤمن فإن سنة الله جارية بأن لا يطلع عوام الناس على غيبه ، فلا سبيل لكم إلى معرفة ذلك التمييز إلا بامتحانكم بما يصيبكم من المحن والآفات حتى يتميز بذلك المنافق من المؤمن.


    فتمحيص صفوف الجماعة المسلمة وتمييز أعضائها بحيث يعرف الصادق في إيمانه الراسخ فيه كما يعرف الكاذب في إيمانه أو المنافق أو الضعيف في إيمانه ، فإن هذا التمحيص والتمييز والعرفان لا يحصل إلا بابتلاء الجماعة المسلمة بالمحن والشدائد ، فالشدائد هي التي تميز القوي من الضعيف وتزيل الالتباس والخطأ بين الصادقين وغيرهم. ولا شك أن هذا التمايز ضروري جداً للجماعة المسلمة لأنه قد ينضم إليها ويعتبر من أعضائها ويحسب عليها المؤمن الصادق والمنافق والكاذب، والقوي في إيمانه والضعيف فيه والمخلص في انتمائه للجماعة والذي جاءها للغنيمة أو للفتنة أو للتجسس أو لغير ذلك من الأغراض التي ليست هي أغراض الجماعة المسلمة ، فالتمايز بين الخبيث والطيب من أعضائها ضروري جداً لها والشدائد والمحن تقوم بهذا التمييز كما تقوم النار بتمييز المعدن الأصيل من غيره.



    *من حكمة ابتلاء الجماعة المسلمة :

    ثم إن بابتلاء الجماعة المسلمة بالشدائد تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقة ، لأن الشدائد كما قلنا تمييز وتمحيص ، فبانكشاف حال المنافقين المندسين في صفوفها وانكشاف حال القادمين إليها للغنيمة والجاه أو التجسس أو غير ذلك من الأغراض الدنيوية أو الخسيسة سيكون وزن قوة الجماعة قدر وزن الذين ظهر صدقهم وإخلاصهم وثباتهم.


    كما أن بالشدائد ينكشف حال أعضائها المؤمنين الضعفاء فتعرف الجماعة أن هؤلاء كانوا يزيدون في عدد أعضائها فقط ولا يزيدون في وقتها ، والمنظور إليه في قوة الجماعة هو قوتها الحقيقية وليس مجرد عدد أعضائها. وفي امتحان الجماعة وابتلائها بالمحن سيعرف كل عضو مؤمن مخلص صادق في إيمانه مقدار إيمانه الحقيقي ومدة عمقه في نفسه ومقدار ثباته عليه ، ومثل هذه المعرفة مهمة جداً للعضو نفسه وللجماعة نفسها ، فقد يغالي المؤمن المخلص في تقدير إيمانه وثباته عليه وتأثيره في نفسه ويعتقد بأنه حاضر للفداء ومتطلبات الجهاد بكل شيء في سبيل الله ولا يعرف ما في نفسه من قصور وضعف وأن ما كان يجول في خاطره وما كان يحس به قبل نزول البلاء بشأن الجهاد وعزمه عليه ، إن ذلك كله كان من قبيل الأماني ، وإن الأماني غير ما يعزم عليه ، وما يعزم عليه غير تنفيذه وفعله فقد تنفسخ العزائم إذا جد الجد وحقت الحقائق. والفعل نفسه قد لا ينقطع ولا يستمر ، أو يستمر ولكن في الجو الهادئ المريح فقط وليس في الرياح العاتية والأعاصير الشديدة. فهذه المعرفة تنفع العضو المؤمن المخلص فينكشف له حاله تماماً مما يحمله على الالتفات إلى نفسه يتأملها ويفحصها ليتعرف على أوجه الضعف فيها فيتداركها بالتقوية ، ويتعرف على ما في نفسه من كدورة ووسخ فيعمل على تنقيتها وغسلها ويزيل عنها العوائق والشوائب التي تمنع من تغلغل الإيمان في كيانه وتجعله حاضراً للفداء والجهاد على وجه الحقيقة لا على وجه الأماني والرغبات.



    *من الابتلاء للجماعة المسلمة فقد أميرها :

    وقد تبتلى الجماعة المسلمة بفقد أميرها بالموت أو القتل وهو ابتلاء شديد ، فعلى الجماعة المسلمة أن تقف الموقف الصحيح أمام هذا الامتحان الصعب وتقابله بالصبر الجميل والثبات على المعاني التي جاهد من أجلها فقيدها الغالي العزيز ، وقامت الجماعة نفسها لهذه المعاني والجهاد لأجلها ، وهي الدعوة إلى الله تعالى وإعلاء كلمة الله بإقامة شرعه في الأرض. وهذه المعاني باقية لا تزول ولا تموت بموت أميرها ولا بموت غيره فلا يجوز لها أن تضعف عن الجهاد لمصيبتها بفقد أميرها كما لا يجوز أن توقف العمل وتقعد.



    ألا ترى أن جماعة المصلين في مسجد المحلة تستمر على صلاتها الجماعية ولو مات إمام مسجدها ؟ فكذلك الجماعة المسلمة تستمر على عملها ولو مات أميرها. فقد حذر الشرع الصحابة الكرام من وقف العمل والجهاد في سبيل الله لموت الرسول صلى الله عليه وسلم أو قتله فقال تعالى : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين).


    وجاء في تفسيرها : أعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست باقية في قومها أبداً وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل ، وإن فقد الرسول بموت أو قتل فالأديان لا تزول بموت الأنبياء. ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف لموت النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله فقال تعالى : (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) أي رجعتم القهقرى وقعدتم عن الجهاد ، ومن فعل ذلك فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين أي الذين قاموا بطاعة الله وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله حياً وميتاً.


    *حذار من جلب المحن أو الحرص عليها :

    والمحن وإن كانت مما جرت به سنة الله في ابتلاء عباده المؤمنين وفيه تمحيص لهم وتمييز بين الصادق والكاذب والخبيث والطيب كما قلنا ، وإن هذه السنة تسري على الجماعة المسلمة ولكن حذار أن تجلب الجماعة المسلمة المحن لنفسها أي تسعى لجلبها لنفسها أو تستعجل وقوعها لها مدفوعة بالحماس لنصرة الإسلام أو مستحضرة في نفسها أن المحن والشدائد لا بد منها ، وأنها بدون المحن تنصب عليها تُتهم بالضعف والقصور في خدمة الإسلام والدعوة إليه مما يفقدها رضا الناس وثقتهم بها وتأييدهم لها وإقبالهم عليها … وهذا منها خطأ جسيم مرده الجهل بمعنى سنة الله في الفتن والابتلاء أو طلبها السمعة والرياء أو تصورها الخاطئ لما تحصل به ثقة الناس ، وهذا ما توضحه في الفقرات التالية.



    أولاً : استعجال المحن لجهل الجماعة المسلمة :

    وأعني بهذا الجهل جهل الجماعة المسلمة بمعنى سنة الله في الفتنة والامتحان وما يجب أن يكون عليه موقفها تجاه هذه السنة الربانية. وبيان ذلك أن هذه السنة تعني فيما تعنيه أن المحن والشدائد مما يلاقيه المؤمنون الداعون إلى الله ، ولكن لا تعني وجوب أو استحباب أو إباحة تقصد جلب هذه المحن وتعمد إيقاعها بالجماعة.


    كما لا تعني هذه السنة عدم جواز الحذر أو الوقاية من الفتن والمحن والشدائد لئلا تقع ولا تمنع من رفع المحنة إذا وقعت ، وعلى هذا فالموقف الصحيح للجماعة المسلمة من هذه السنة الإلهية في ضوء المعنى الصحيح لها هو : لا تستغرب الجماعة المسلمة ولا تندهش إذا أصابتها المحن والشدائد ، وإنها – أي الجماعة – غير ممنوعة من الوقاية من هذه المحن لئلا تقع ، وإذا وقعت فعليها أن تقابلها بالصبر الجميل مع سعيها الحثيث لرفعها لأن الشرع قد أذن أو ندب لذلك أو أوجبه عليها.


    ومما يقرب إلى الأذهان فهم ما قلته أن من سنن الله في خلقه إصابتهم بالأمراض بناء على سنة الله في الأسباب والمسببات أو بناء على سنته في الابتلاء ، ولكن هذا لا يعني تحريم الوقاية من الأمراض ولا رفعها بالدواء إذا وقعت وأصيب بها المسلم ، فكل هذا – أي الوقاية من الأمراض وعلاجها بالدواء – مأذون به شرعاً ، وإنما تعني سنة الله في ابتلاء الناس بالأمراض وجوب مقابلتها بالصبر الجميل والتأمل في أسبابها وهل وقعت على المصابين بها على وجه العقوبة لهم على معاصيهم فيقلعوا عنها أو أنها جاءت بسبب تقصيرهم في وسائل الحمية المشروعة فيأخذوا بالعلاج ولا يعودوا إلى تقصيرهم في الحمية من الأمراض .. ومثال آخر يقرب إلى الأذهان فهم ما قلته أن الاستشهاد في سبيل الله مما جرت به سنة الله في ابتلاء المؤمنين بقتال الكفار ، ولكن لا تعني هذه السنة تسليم المسلم نفسه إلى الكفار ليقتلوه حتى يصير شهيداً ، وإنما تعني هذه السنة فقط النهوض إلى قتالهم وعدم القعود عن قتالهم ، وأن عليه أن يقاتلهم بأساليب القتال المشروعة مع الحذر المطلوب لئلا يقع بأيدي الكفار أسيراً أو قتيلا ، وإن تعمد أن يأسره الكفار أو تعمد أن يقتلوه مع قدرته على أن يقاتلهم دون أن يسلم نفسه إليهم ليقتلوه فإنه يأثم في الحالتين لإعانتهم على أسره أو قتله. ولكن إذا قاتل كما ينبغي أن يكون عليه القتال ثم جرح فإنه يصبر وإذا قتل مات شهيداً.


    وقد دل على ما قلته الحديث النبوي الشريف الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس فقال : (لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا).



    وجاء في شرحه : قال ابن بطال : حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر ، وهو نظير سؤال العافية من الفتن ، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : (لأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن أبتلى فأصبر). وقال غيره : إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب بالنفس والاتكال على النفوس والوثوق بالقوة وقلة الاهتمام بالعدو ، وكل ذلك يخالف الاحتياط والأخذ بالحزم.


    وأخرج سعيد بن منصور حديثاً مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون عسى أن تبتلوا بهم) ، وقال ابن دقيق العيد : لما كان لقاء الموت من أشق الأشياء على النفوس وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحققة لم يوثق أن يكون عند الوقوع كما ينبغي فيكره التمني لذلك ، ولما فيه لو وقع من احتمال أن يخالف الإنسان ما وعد من نفسه من الثبات عن لقاء العدو.


    وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد وقد جعله أميراً على جيش المسلمين لغزو الروم قبيل وفاته عليه الصلاة والسلام بأيام ، قال له : (ولا تمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم ، ولكن قولوا : اللهم اكفناهم واكفف بأسهم).


    ودليل آخر على صحة ما قلته أن الجماعة المسلمة وهي تدعو إلى الله ويقاومها أهل الباطل تصير معهم في حالة تشبه حالة الحرب. وغالباً لا تكون قوة الجماعة مكافئة لقوة خصومها الذين يملكون قوة المال والأعوان والسلطان. ويكون هذا التباين واضحاً وجلياً إذا كان خصوم الجماعة الدولة نفسه أي حكامها ، ففي هذه الحالة يجب على الجماعة المسلمة أن تعرف وزنها وقوتها فلا تتصرف إلا بحذر وبقدر ما يأذن به الشرع وكأنها في حالة حرب فعلية مع خصومها.


    وفي الحرب جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال : (سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة). وجاء في شرحه : وأصل الخداع إظهار أمر وإضمار خلافه. وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب والندب إلى خداع الكفار ، وإن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه. قال النووي : واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز. قال ابن العربي المالكي : الخداع في الحرب يقع بالتعريض بالكمين ونحو ذلك. وفي الحديث إشارة إلى استعمال الرأي في الحرب بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة. وقال ابن التين : معنى (الحرب خدعة) أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر.



    وخلاصة ما يستفاد من الحديثين الشريفين : (لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا). وحديث (الحرب خدعة) أن على الجماعة المسلمة أن لا تستعجل وقوع المحن وتتعمد وقوعها ، وأن تتصرف مع خصومها بأسلوب الحرب ، والحرب خدعة ، كما جاء في الحديث النبوي الشريف. ومن خدع الحرب وأساليب الحرب : الكر والفر والاختفاء والظهور وتبديل أساليب الدفاع والهجوم والانسحاب ، وعدم الجمود على أسلوب واحد ، وهكذا يجب أن تكون أساليب الدعوة ووسائلها ، فإذا علمت الجماعة المسلمة أن عدوها الكافر يتربص بها ويراقبها ويرصد تحركاتها ليبطش بها فعليها أن لا تريه قوتها ولا أعضاءها ولا تتحرك بعملها بشكل جماعي والطبول أمامها تقرع كما تفعل الجيوش في سيرها ، ولا أن ترفع صوتها بالتهديد والوعيد لمن يخالفها أو يقف في طريقها ، لا تفعل ذلك ، فهذا الصراخ لا يفيدها ، بل يجلب عليها الضرر ويفتح عيون أعدائها عليها ، فيعرف مكانها ومكان أعضائها فيسهل عليه البطش بها وبهم.


    إن أساليب الدعوة كثيرة جداً وقد يكون من أسلمها وأنفعها دائماً الدعوة الفردية الصامتة بالقول والفعل والسلوك ، وإشاعة الوعي الإسلامي في الناس وتعميقه في نفوسهم وتبصيرهم بحقائق الإسلام وبواجبهم نحوه ، ولا تبدأ بمهاجمة الحكام فإن آخر ما تفعله هي مهاجمتهم ، وأمامها سوح العمل للإسلام الميسرة المفتوحة كثيرة فلتبدأ بها ، حتى إذا شاع الوعي الإسلامي وانتشر في المجتمع وصار مسلماً حقاً فإن الحكومة المسلمة ستنبثق منه ، لأن انبثاقها من الشعب المسلم شيء طبيعي كخروج الثمرة من الشجرة ، والشعب المسلم هو الذي يشيع فيه الوعي الإسلامي الصحيح وتكون طليعته الجماعة المسلمة المستنيرة المخلصة التي ينجذب إليها الطيبون المؤمنون الصادقون دون طلب منها إلى هذا الانجذاب كما ينجذب الحديد إلى المغناطيس.


    ثانياً : رياء الجماعة المسلمة يجلب المحن :

    وقد يكون الدافع للجماعة المسلمة في سعيها لجلب المحن لنفسها هو رياؤها وطلبها السمعة نفسها عند الناس. وهذا الدافع للعمل – الرياء وطلب السمعة – داء قديم في الجماعات والأفراد ولكن ضرره بالجماعة المسلمة أشد من ضرره بالأفراد وبالجماعات الدنيوية.


    إن الجماعة الإسلامية قامت على أساس المعاني الإسلامية وللدعوة إليها ، فمن التناقض أن يكون الدافع لعملها هو ما حرمه الله : الرياء وطلب السمعة عند الناس. إنها تسعى لإعلاء كلمة الله بتطبيق شرعه ونصرة دينه ابتغاء مرضاة الله وطاعته فيجب أن تنأى عن الرياء بأي شكل كان. وعليها أن تعلم أن خطر الرياء عظيم وتأثيره في النفس كبير ، فقد يحمل الرياء المرائي على أن يعرض نفسه للقتل حتى يقول الناس ولو بعد قتله : ما أشجعه ما أجرأه.


    فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت. قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).

    والمعنى أن أول الناس يجري عليه القضاء رجل مات في الجهاد أي في قتال الكفار، فيؤتى به ويوقف بين يدي الله تعالى ، فيعرفه الله بنعمه التي أنعم بها عليه في الدنيا فيعترف بها فيقول الله تعالى له : فما عملت في هذه النعم التي أنعمت بها عليك ، هل قمت بشكرها ؟ فيقول هذا الرجل : قاتلت في سبيلك وبطلب مرضاتك حتى استشهدت ، فيقول الله تعالى : كذبت : ولكنك قاتلت حتى يقال إنك جريء ، أي شجاع ، وقد قيل ما قاتلت من أجله. فانظروا – رحمكم الله – يا جماعة المسلمين ، كيف يعمل الرياء بصاحبه ؟ إنه يحمله على أن يموت بيد الكفار حتى يقول الناس ولو بعد موته : إنه شجاع ، وفي الآخرة ينتظره عذاب أهل الرياء ، فهل يليق بالمسلم العاقل المؤمن بالله واليوم الآخر أن يبتغي بعمله مدح الناس وثناءهم عليه مع خسرانه الدنيا بفقد حياته وخسران الآخرة بمقت الله له وإدخاله النار ؟


    وأيضاً فإن الجماعة المسلمة إذا عملت للرياء وطلب السمعة بأن تجلب على نفسها المحن والبلايا ليقول الناس عنها ما أجرأها وما أشجع أعضاءها فسيصيبها زيادة على المحن التي جلبتها لنفسها ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري في صحيحه عن جندب رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من سمّع سمّع الله به ، ومن يرائي يرائي الله به).


    وجاء في شرح العسقلاني لهذا الحديث : المراد بالرياء إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها. والمراد بالسمعة نحو في الرياء لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر. وقال الخطابي في هذا الحديث : معناه من عمل عملاً على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه – أي يسمعوه مدحهم وثناءهم عليه – جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يخفيه. وقيل في معنى الحديث أيضاً : من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله تعالى يجعله حديثاً عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الآخرة. ومعنى (يرائي الله به) أي يطلعهم الله تعالى على أنه فعل ذلك العمل لهم لا لوجهه تعالى.



    ويبدو لي أن المرائي الذي يقصد بعمله ثناء الناس عليه قد يحصل له ذلك كما في الحديث الذي يقاتل ليقال عنه جريء وقد ذكرناه في الفقرة السابقة ، ثم يصيب المرائي انكشاف ريائه للناس وما يترتب على ذلك من ذمهم له وازدرائهم له.


    وقد تفعل الجماعة المسلمة فعل المرائي وطالب السمعة الذي يقاتل ليعرف مكانه ويمدحه الناس بأن تتعمد الجماعة المسلمة المواجهة والمقابلة مع عدوها وهي تعلم عجزها عن مواجهته ومنازلته وتعلم أنها يسعها شرعاً أن لا تفعل ذلك ولكنها تفعله وتصر على فعله طلباً للسمعة والمنزلة عند الناس وحتى يقولوا ما أشجع هذه الجماعة وما أجرأها ، ويكون الثمن الذي تقدمه ثمناً باهظاً جداً، إنه سخط الله عليها لأنها لم تقصد بعملها وجه الله وطاعته ومرضاته وإنما أرادت بعملها هذا مرضاة الناس ، ومن طلب مرضاة الناس بسخط الله أسخط الله عليه الناس. ومع سخط الله فإنها تعرض أعضاءها – وهم أمانة عندها – إلى الأذى وتنكيل الأعداء بهم وزجهم بالسجون ومصادرة أموالهم والاعتداء على أعراضهم وتعريضهم للفتنة وزعزعة إيمانهم إلى غير ذلك من البلايا العظام التي سببتها لهم جماعتهم أو قيادتهم.


    ثم مع هذا الذي ذكرته ستضيق سبل العمل على الجماعة وينفض ضعاف الإيمان من حولها خوفاً من أن يمسهم الأذى – وقد كان من المأمول تقوية إيمانهم لو بقيت الجماعة في منأى عن البلاء الذي نزل بها – كما أن الناس لا يقبلون على الجماعة خوفاً من تنكيل خصومها بهم.


    ولتعلم الجماعة المسلمة أن العمل الخالص لله المقبول عنده هو الخالي من الرياء وطلب السمعة ، فلتحرص أن يكون عملها دائماً خالصاً لله بأن يكون الدافع له مرضاة لله وإعلاء كلمة الله لا طلب السمعة وثناء الناس فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه قال : (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله ؟ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).


    وجاء في شرحه : قوله : (والرجل يقاتل للذكر) أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة. وقوله : (والرجل يقاتل ليرى مكانه) وفي رواية أخرى (والرجل يقاتل رياء) فمرجع الذي قبله إلى السمعة ومرجع هذا إلى الرياء وكلاهما مذموم. وقوله : (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) والمراد بكلمة الله كلمة التوحيد ودينه الإسلام المبني عليها والدعوة إليه. واشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه وطلب ثوابه وطلب دحض أعدائه.


    - وأيضاً ، إن في تعريض الجماعة أعضاءها إلى المحن التي تعمدت وقوعها طلباً للسمعة والرياء إذلالاً لهم على أيدي أعدائها من الكفرة الفجرة ، وهي ممنوعة من ذلك شرعاً ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا : كيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء ما لا يطيق ) والظاهر أنه في حق من يتعرض إلى البلاء لظنه بقدرته على ذلك ، ومع هذا جاء النهي عنه ، فكيف بالذي يتعرض إلى بلاء للسمعة والرياء وهو يعلم أنه لا يطيق هذا البلاء ؟

    - وقد تقع الجماعة في الوهم والتصور الخاطئ وسوء التقدير بما تحصل به الجماعة على ثقة الناس ورضاهم فتعتقد أن ذلك لا يحصل لها إلا إذا أوذيت وقدمت أعضاءها إلى أعدائها ليجلدوهم ويعذبوهم بأنواع العذاب ويذلوهم ويحبسوهم أو يقتلوهم ، وبهذا – في تصورها – تفقد الجماعة (شهادة حسن السلوك) لنفسها لجماهير الناس حتى يثقوا بها ويرضوا عليها. وهذا خطأ جسيم فإن ثقة الناس ورضاهم وإقبالهم عليها لا يحصل شيء منه إلا برضا الله فقط ، ورضاه يحصل بجعل عملها صحيحاً وبإخلاص نيتها. ويكون عملها صحيحاً إذا وافق الشرع وأخذت بسننه العامة واعتبرت بها. وإخلاص النية بأن يكون العمل لله وحده فقط لا غير أي لطلب مرضاته فقط بالمائة. فهذا النهج من العمل إذا التزمت به الجماعة وعضت عليه بالنواجذ ولم تحد عنه قط هو الذي يجلب ثقة الناس بها ورضاهم عليها ، ويكسبها قبل هذا وذاك تأييد الله لها.


    اعتراض ودفعه :

    وقد يتعرض لها علينا معترض بأن معنى كلامي ومآله أن الجماعة المسلمة أن تقعد ولا تعمل حتى تنجو وينجو أعضاؤها من المحن والبلاء الشدائد ، فهل هذا يجوز ؟ والجواب أنا لم أقصد بكلامي هذا المعنى الذي يقوله المعترض ، وإن كلامه نفسه لا يدل على هذا المعنى ، وإنما قصدت بكلامي شيئين :

    الأول : تعمد وقوع المحن من قبل الجماعة وسعيها إلى استجلابها وإيقاعها على نفسها وعلى أعضائها ، وقد بينت خطأ وذلك دليله.



    الثاني : بيان ما يدفع الجماعة المسلمة إلى سعيها إلى استجلاب المحن لنفسها ولأعضائها ، فقلت بأن هذا الدافع قد يكون الرياء وطلب السمعة ، وقد يكون التصور الخاطئ لما يجلب لها ثقة الناس ورضاهم عليها ، وبينت أن هذا لا يجوز شرعاً.



    أما أن مآل كلامي هو ما ذكره المعترض فهذا فهم غير صحيح ، لأن كلامي واضح ومع وضوحه أزيده وضوحاً فأقول على وجه الإجمال : إن على الجماعة المسلمة أن تزن أعمالها كلها بلا استثناء بميزان الشرع فإذا أذن لها بالتقدم وبالعمل بأسلوب معين تقدمت وعملت ، وإذا منعها من ذلك امتنعت ، لأنها محكومة بالشرع في كل تصرفاتها وفي أفعالها وتروكها ، ولا يجوز أن تخالف الشرع وهي تدعو الناس إلى حكم الشرع وتحكيمه في جميع شؤونهم. وميزان الشرع يقوم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الاجتهاد الصحيح القائم على الكتاب والسنة النبوية.


    ومن معاني الشرع ومبادئه الثابتة : (فاتقوا الله ما استطعتم) ودفع أعظم المفسدتين بتحمل أقلها ، وإن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، (ولا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا) وإن من سنة الله في تدافع الحق والباطل وجوب إعداد القوة اللازمة لدفع الباطل ، وإنه قبل هذا الإعداد لا يجوز المقابلة مع العدو بالقتال.


    تذكير أخير للجماعة المسلمة :

    وتذكير أخير للجماعة المسلمة نختم به كلامنا بخصوص سنة الله في الفتن والابتلاء ، فأقول : إن من السهل لكل إنسان أن يتعمد تقديم نفسه إلى عدوه ليأسره أو يحبسه أو يؤذيه أو يقتله ، ولكن ليس من السهل لكل إنسان أن يجاهد عدوه ويخادعه في جهاده معه لا يعينه على أن يأسره أو يؤذيه ، والمطلوب من الجماعة المسلمة أن تعمل ولا تتعمد تقديم نفسها أو تقديم أعضائها إلى عدوها ليؤذيها ويؤذيهم ويذلها ويذلهم ، ومن هذا التعمد المحظور ، أو يأخذ حكمه ، إصرارها على أسلوب معين للعمل يؤذيها مع أن الشرع يأذن لها بغيره
    آخر مرة عدل بواسطة زهرة الحديقة : 06-08-2005 في 09:41 PM
    قَال مُحَمَّد بْن يحيى الذهلي سألت عَبد اللَّهِ بْن دَاوُد عَنِ التوكل، فَقَالَ: أرى التوكل حسن الظن بالله ) [تهذيب الكمال]

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    الردود
    4,150
    الجنس
    أنثى

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jul 2005
    الموقع
    °•.♥.•° °•.♥.•°
    الردود
    132
    الجنس

    Thumbs up

    جزاكِ الله خيراً

    وجعله الله في موازين اعمالك

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2005
    الردود
    223
    الجنس
    أنثى
    جزاك الله خيرا
    آخر مرة عدل بواسطة ام منول : 07-08-2005 في 07:10 AM

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2002
    الموقع
    عائلة "ابن بطوطة" تنتقل من جديد من فانكوفر لهملتون
    الردود
    7,381
    الجنس
    امرأة
    أهلين أختي عروبة ترى الموضوع منور و جزاك الله خيرا

    آمين أختي smail 2 people جزاك الله خيرا على التعقيب

    و جزاك الله خيرا أختي أم منول
    قَال مُحَمَّد بْن يحيى الذهلي سألت عَبد اللَّهِ بْن دَاوُد عَنِ التوكل، فَقَالَ: أرى التوكل حسن الظن بالله ) [تهذيب الكمال]

مواضيع مشابهه

  1. (((الابتلاء)))
    بواسطة قاهره الاحزان في روضة السعداء
    الردود: 3
    اخر موضوع: 06-05-2009, 12:52 PM
  2. ( الابتلاء .. )
    بواسطة الـحجاز في روضة السعداء
    الردود: 0
    اخر موضوع: 15-05-2007, 11:52 PM
  3. الابتلاء
    بواسطة Carnation في روضة السعداء
    الردود: 1
    اخر موضوع: 26-05-2005, 11:21 AM
  4. قانون الحشمة والعفاف قانون صائب ولكن ....
    بواسطة أم همام في روضة السعداء
    الردود: 3
    اخر موضوع: 28-08-2001, 06:44 AM
  5. الابتلاء (3)
    بواسطة التاج في روضة السعداء
    الردود: 8
    اخر موضوع: 24-06-2001, 08:44 PM

أعضاء قرؤوا هذا الموضوع: 0

There are no members to list at the moment.

الروابط المفضلة

الروابط المفضلة
لكِ | مطبخ لكِ