انتقلت منتديات لكِ النسائية إلى هذا الرابط:
منتديات لكِ النسائية
هذا المنتدى للقراءة فقط.


للبحث في شبكة لكِ النسائية:
عرض النتائج 1 الى 1 من 1

الموضوع: التقشف في الاسلام منقول من اسلام ويب

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2013
    الردود
    233
    الجنس
    أنثى

    L19 التقشف في الاسلام منقول من اسلام ويب

    منقول اسلام ويب التقشف في الاسلام

    ( 'ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) .

    بدأ الله تعالى هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك ، ومنها حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم ، وأحكام الطهارة والعدل ، ولو في الأعداء المبغضين ، ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيانأهل الكتاب ومحاجتهم ، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك ، ولم يتخلله إلا قليل من آيات الأحكام والوعود والعظات بينا مناسبتها له في مواضعها ، وهذه الآيات عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدئت بها السورة ، ويتلوها العود إلى محاجة أهل الكتاب كما علمت ، فمجموع آيات السورة ، في هذين الموضوعين ، وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة ، وتجعل الآيات في أهل الكتاب متصلا بعضها ببعض في باقيها لما بيناه غير مرة في حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها ، لا كتابا فنيا ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين .

    على أن في نظمه وترتيب آيه من المناسبة بين المسائل المختلفة ما يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتناسقه ، كما ترى في مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة ، زائدا على ما علمت آنفا من مناسبتها لمجموع ما تقدمها من أول السورة إلى هنا .

    ذلك أنه تعالى ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا ، وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا ، فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله تعالى ، وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات طبعا من اللحوم والأدهان والنساء ، إما دائما كامتناع الرهبان من [ ص: 17 ] الزواج البتة ، وإما في أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها ، وقد أنزل الله تعالى هذا الظن ، وقطع طريق تلك الرغبة بقوله عز من قائل :

    ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ) أي لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا وتقربا إليه تعالى ، ولا تعتدوا فيها بتجاوز حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد ، كالزيادة على الشبع والري فهو تفريط ، أو تجاوز الأخلاق والآداب النفسية ، كجعل التمتع بلذاتها أكبر همكم ، أو شاغلا لكم عن معاني الأمور من العلوم والأعمال النافعة لكم ولأمتكم ، وهذا معنى قوله : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ( 7 : 31 ) أو ولا تعتدوها هي أي الطيبات المحللة ، بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة ، فالاعتداء يشمل الأمرين : الاعتداء في الشيء نفسه ، واعتداء هو يتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه ، وقد حذف المفعول في الآية فلم يقل فلا تعتدوا فيها أو فلا تعتدوها كما قال : ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) ( 2 : 229 ) ليشمل الأمرين ، اعتداء الطيبات نفسها إلى الخبائث ، والاعتداء فيها بالإسراف ، لأن حذف المعمول يفيد العموم ، ثم علل النهي بما ينفر عنه فقال : .

    ( إن الله لا يحب المعتدين ) الذين يتجاوزون حدود شريعته ، وسنن فطرته ولو بقصد عبادته ، وتحريم الطيبات المحللة قد يكون بالفعل ، من غير التزام بيمين ولا نذر ، وقد يكون بالتزام وكلاهما غير جائز ، والالتزام قد يكون لأجل رياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات ، وقد يكون لإرضاء بادرة غضب ، بإغاظة زوجة أو والد أو ولد ، كمن يحلف بالله أو بالطلاق أنه لا يأكل من هذا الطعام ( ومثله ما في معناه من المباحات ) أو يلتزم ذلك بغير الحلف والنذر من المؤكدات ، ومن هذا الصنف من يقول : إن فعل كذا فهو بريء من الإسلام ، أو من الله ورسوله ، وكل ذلك معلوم ولا يحرم على أحد شيء يحرمه على نفسه بهذه الأقوال ، وفي الأيمان وكفارتها خلاف بين العلماء سيأتي بيانه .

    وأما ترك الطيبات البتة كما تترك المحرمات ولو بغير نذر ولا يمين تنسكا وتعبدا لله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها ، فهو محل شبهة فتن بها كثير من العباد والمتصوفة ، فكان من بدعهم التركية ، التي تضاهي بدعهم العملية ، وقد اتبعوا فيها سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع; كعبادة بني إسرائيل ورهبان النصارى ، وهؤلاء أخذوها عن بعض الوثنيين; كالبراهمة الذين يحرمون جميع اللحوم ، ويزعمون أن النفس لا تزكو ولا تكمل إلا بحرمان الجسد من اللذات ، وقهر الإرادة بمشاق الرياضات ، وكانوا يحرمون الزينة كما يحرمون النعمة ، فيعيشون عراة الأجسام ولا يستعلمون الأواني لأطعمتهم; [ ص: 18 ] بل يستغنون عنها بورق الشجر ، وقد أرجعهم انتشار الإسلام في الهند عن بعض ذلك ، ولا يزال الجم الغفير منهم يمشون في الأسواق والشوارع عراة ليس على أبدانهم إلا ما يستر السوءتين فقط ، ويعبرون عن ذلك بكلمة " السبيلين " العربية التي يستعملها الفقهاء لأنهم أخذوها كما يظهر عن المسلمين الذين كانوا يجبرونهم على ستر عوراتهم ، ومنهم من يشد في وسطه إزارا بكيفية يرى بها باطن فخذه ، والرجال والنساء في قلة الستر سواء ، فترى النساء في أسواق المدن مكشوفات البطون والظهور والسوق والأفخاذ ، ومنهن من تضع على عاتقها ملحفة تستر شطر بدنها الأعلى ويبقى الجانب الآخر مكشوفا .

    وجملة القول أن تحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عن قدماء الهنود فاليونان ، وقلدهم فيها أهل الكتاب ولا سيما النصارى ، فإنهم على تفصيهم من شريعة التوراة الشديدة الوطأة ، وعلى إباحة مقدسهم وإمامهم بولس لهم جميع ما يؤكل وما يشرب ، إلا الدم المسفوح وما ذبح للأصنام ، قد شددوا على أنفسهم وحرموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة عندهم ، وعلى ما فيها من الشدة والمبالغة في الزهد .

    ثم أرسل الله تعالى خاتم النبيين ، والمرسلين بالإصلاح الأعظم ، فأباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات ، ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقها ، لأن الإنسان مركب من روح وجسد ، فيجب عليه العدل بينهما ، وهذا هو الكمال البشري ، فكانت الأمة الإسلامية بذلك أمة وسطا صالحة للشهادة على جميع الأمم وأن تكون حجة الله عليها ، كما تقدم بيان ذلك في أول الجزء الثاني من هذا التفسير ، وبذلك كانت جديرة بالبحث عن أسرار الخلق ومنافعه ، وتسخيره قوى الأرض والجو للتمتع بنعم الله فيها مع الشكر عليها ، ولكنها قصرت في ذلك ثم انقطعت من السير في طريقه بعد أن قطع سلفها شرطا واسعا فيه .

    ولما كان حب المبالغة والغلو في دأب البشر وشنشنتهم في كل شئونهم ، ما من شيء إلا ويوجد من يميل إلى الإفراط فيه ، كما يوجد من يميل إلى التفريط ، استشار بعض الصحابة رضي الله عنهم نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم في تحريم الطيبات والنساء على أنفسهم ، وتركها بعضهم من غير استشارة ، اشتغالا عنها بصيام وقيام الليل ، فنهاهم عن ذلك ، وأنزل الله تعالى هذه الآية وما في معناها من الآيات ، في تحريم الخبائث ، والمنة بحل الطيبات ، وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله أحسن البيان .

    وإننا نذكر هنا بعض الأخبار والآثار المروية في ذلك لتكون حجة على أهل الغلو في هذا الدين ، الذين تركوا هدايته السمحة إلى تشديد الغابرين ، وصاروا يعدون زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الزرق خاصة بالكافرين ، حتى كأن المشارك لهم فيها خارج [ ص: 19 ] عن هدى المؤمنين ، وهاك ما ورد في هذه الآية من التفسير المأثور ، وسيأتي في تفسير سورة الأعراف وغيرها ما يزيدك نورا على نور .

    وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء ، وأخذتني شهوتي ، وإني حرمت على نفسي اللحم " .

    فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) .

    وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قال : " نزلت الآية في رهط من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " .

    وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في مراسيله وابن جرير عن أبي مالك في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) . قال : نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه ، كانوا حرموا على أنفسهم كثيرا من الشهوات والنساء وهم بعضهم أن يقطع ذكره فنزلت هذه الآية .

    وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة : " أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ؟ لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .

    وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي شيبة والنسائي وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي في سننه وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال : " كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك [ ص: 20 ] ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) .

    وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن أبي قلابة ، قال : أراد الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة ثم قال : " إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به ، وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم " قال : ونزلت فيهم ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) الآية .

    وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قال : نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يتخلوا عن الدنيا ويتركوا النساء ويتزهدوا ، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون .

    وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قال : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رفضوا النساء واللحم ، أرادوا أن يتخذوا الصوامع ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس في ديني ترك النساء واللحم ولا اتخاذ الصوامع " وخبرنا : " أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا ، فقال أحدهم : أما أنا فأقوم الليل لا أنام ، وقال أحدهم : أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا فلا آتي النساء ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا : بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير قال : لكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء; فمن رغب عن سنتي فليس مني ، وكان في بعض القراءة في الحرف الأول : من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل سواء السبيل " . [ ص: 21 ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي عبد الرحمن قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا " .

    وأخرج ابن جرير عن السدي قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف ، فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة; منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون : ما حقنا إن لم نحدث عملا ؟ فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم ، فحرم بعضهم أكل اللحم والودك وأن يأكل بالنهار ، وحرم بعضهم النوم ، وحرم بعضهم النساء ، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه ، فأتت امرأته عائشة وكان يقال لها الحولاء فقالت عائشة ومن حولها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم : ما لك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين ؟ فقالت : وكيف أتطيب وأمتشط وما وقع علي زوجي ، ولا رفع عني ثوبا منذ كذا وكذا ، فجعلن يضحكن من كلامها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن فقال : ما يضحككن ؟ قالت : يا رسول الله الحولاء سألتها عن أمرها فقالت : ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا ، فأرسل إليه فدعاه فقال : ما بالك يا عثمان ؟ قال : إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة ، وقص عليه أمره ، وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك ، فقال : يا رسول الله إني صائم ، قال : أفطر قال فأفطر وأتى أهله ، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد اكتحلت وامتشطت وتطيبت فضحكت عائشة فقالت : ما بالك يا حولاء ؟ فقالت : إنه أتاها أمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، فنزلت ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ) يقول لعثمان : " لا تجب نفسك فإن هذا هو الاعتداء " وأمرهم أن يكفروا أيمانهم فقال : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) الآية .

    وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال : أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) الآية التي بعدها .

    وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن [ ص: 22 ] أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة وقدامة تبتلوا ، فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) الآية ، فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن لأنفسكم حقا وإن لأعينكم حقا وإن لأهلكم حقا ، فصلوا وناموا ، وصوموا وأفطروا ، فليس منا من ترك سنتنا ، فقالوا : اللهم صدقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول " .

    وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم " أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له ، فقال لامرأته : حبست ضيفي من أجلي ؟ هو حرام علي ، فقالت امرأته : هو علي حرام ، قال الضيف : هو علي حرام ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا بسم الله ، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أصبت " فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم )

    وأخرج البخاري والترمذي والدارقطني عن أبي جحيفة قال : " آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، فرأي أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال : كل فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، قال : نم ، فنام ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فلما كان آخر الليل قال سلمان : قم الآن ، قال : فصليا ، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان " .

    وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : فلا تفعل; صم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقا ، إن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزورك عليك حقا ، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها ، فإن ذلك صيام الدهر كله قلت : [ ص: 23 ] إني أجد قوة ، قال : فصم صيام نبي الله داود عليه قلت : وما كان صيام نبي الله داود ؟ قال : نصف الدهر " .

    نقلنا هذه الأخبار والآثار من الدر المنثور وتركنا بعض الروايات في معناها ، وفيما ذكرناه الموقوف والمرفوع والصحيح والضعيف ، ومجموعها حجة لا نزاع فيها .

    فإن قيل : عن المأثور عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وعن غيرهم من كبار الصحابة والتابعين أنهم كانوا في غاية التقشف ، وتعمد ترك الطيبات من الطعام والشراب وكذا اللباس الحسن ، فكيف تركوا ما زعمت أنه الأفضل من إعطاء البدن حقه كإعطاء الروح حقها بالتمتع بالطيبات من غير إسراف ؟ فالجواب أن المأثور عن أهل اليسار من الصحابة أنهم كانوا كما ذكرنا ، وأهل الإقفار حالهم معلوم ، والله تعالى يقول : ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ) ( 65 : 7 ) الآية . وأما الخلفاء الثلاثة فكانوا يتعمدون التقشف ليكونوا قدوة لعمالهم ولسائر الفقراء والضعفاء ، وقد كان المفروض لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في بيت المال قدر المفروض لأوساط المهاجرين ، لا لأعلامهم ، كآل بيت الرسول عليه السلام ولا لأدناهم كالموالي ولا حجة فيمن بعدهم ، فالصوفية والزهاد يتبعون ما نقل عن بعض الصحابة والتابعين من التقشف ، ويزعمون أن مقتضى الدين الإسلامي أن يكن الناس كلهم كذلك ، كما أن أهل السعة والترف يجمعون ما نقل عن موسري السلف من التوسع في المباحات ، ويجعلونه حجة لإسرافهم ، وخير الأمور الوسط ، فراجع تفسير قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ( 2 : 143 ) والقاعدة العامة قوله تعالى في وصف خيار هذه الأمة الوسط : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) ( 25 : 67 ) .

    إظهار التشكيل|إخفاء التشكيل
    مسألة: الجزء السابع التحليل الموضوعي
    ( وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ) هذا تصريح بالأمر بضد مقتضى النهي الذي قبله ، أي كلوا مما رزقكم الله تعالى إياه حال كونه حلالا في نفسه ، غير داخل فيما حرمه عليكم من الميتة بأنواعها والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وحلالا في طريقة كسبه وتناوله ، بألا يكون ربا أو سحتا أو غصبا أو سرقة ، ومن الناس من يقول : إن الرزق في عرف الشرع ما ملك ملكا صحيحا ، لا كل ما انتفع به الإنسان ، فلا يحتاج إلى هذا القيد وحال كونه مستلذا غير مستقذر في نفسه أو لفساد طرأ عليه كالطعام المنتن .

    والمراد بالأكل التمتع ، فيدخل فيه الشرب مما كان حلالا غير مسكر ولا ضار ، طيبا غير مستقذر في نفسه أو بفساده أو نجاسة طرأت عليه ، وإنما عبر بالأكل لأنه هو الغالب [ ص: 24 ] كما عبر في مثل قوله : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) ( 4 : 29 ) وهو يعم كل ما ينتفع به من طعام وشراب ولباس ومتاع ومأوى وكثيرا ما تطلق العرب الخاص فتريد به العام وما تطلق العام فتريد به الخاص ، ويعرف ذلك بالسياق والقرائن .

    الأمر ههنا للوجوب لا للإباحة ، فهو ليس من الأمر بالشيء بعد النهي عنه المفيد للإباحة فقط ، كقوله تعالى : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) ( 5 : 2 ) وإنما هو تصريح بأن امتثال النهي عن تحريم الطيبات لا يتحقق إلا بالانتفاع بها فعلا ، إذ ليس المراد بتحريمها المنهي عنه تحريمها بمجرد القول أو بالاعتقاد ، بل المراد به أولا وبالذات الامتناع منها عمدا تقربا إلى الله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها ، أو إضعافها للجسد توهما أن إضعافه يقوي الروح ، أو لغير ذلك من الأسباب والعلل; كمن يحرم على نفسه شيئا بنذر لجاج أو يمين ، وكل هذا مما لا يزال يبتلى به كثير من المسلمين ، دع ما كانت تحرمه الجاهلية على أنفسها من الأنعام أو نسلها تكريما لها لكثرة نتاجها ، أو تعظيما لصنم تسيبها له ، كما تراه مبينا في سورة الأنعام التي بعد هذه السورة .

    وحكمة النهي عن ذلك أن الله تعالى يحب من عباده أن يقبلوا نعمه ويستعملوها فيما أنعم بها لأجله ويشكروا له ذلك ، ويكره لهم أن يجنوا على الفطرة التي فطرهم عليها ، فيمنعوها حقوقها ، وأن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه ، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها باستباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه ، ولأجل هذه الحكمة لم يكتف بالنهي عن تحريم الطيبات حتى صرح بالأمر باستعمالها والتمتع بها ، وقد بين تعالى غاية ذلك وحكمته التي أشرنا إليها بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ) ( 2 : 172 ) والشكر يكون بالقول والعمل ، ولذلك قارن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الآية في خطاب المؤمنين ، وما في معناها من خطاب المرسلين ، فقال : " إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) ( 23 : 51 ) وقال : ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ( 2 : 172 ) " ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي من الحرام فأنى يستجاب له ؟ " رواه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم ، وفي الحديث تعريض بالعباد وأهل السياحة من الأمم السالفة الذين كانوا يرون أن روح العبادة التقشف والشعوثة ، حتى إنهم على تقشفهم ما كانوا يتحرون الحلال ، كأنهم يرون التقشف وتعذيب النفس يبيحان لهم ما عداهما فيكونون أهلا لاستجابة دعائهم ، واستدل بعضهم بالحديث على كون المراد بالطيبات الحلال ميلا إلى ذلك المذهب البرهمي ، بل زعم بعضهم مثل ذلك في الآيات التي قرنت الحلال بالطيب فجعلوا الطيب تأكيدا للحلال . [ ص: 25 ] فامتثال هذا الأمر وذلك النهي لا يتحقق إلا بالتمتع بما يتيسر من الطيبات فعلا بلا تأثم ولا حرج ، بل ينبغي للمؤمن أن يكون طيب النفس بذلك ، ملاحظا أنه من نعمة الله وفضله ، ومن أسباب مرضاته ومثوبته ، وأن مرضاته ومثوبته عليه تكون على حسب شهود المنتفع للنعم وشكره للمنعم ، وأعني بالشهود أن يحضر قلبه أنه عامل بشرع الله ومقيم لسنة فطرته التي فطر الناس عليها ، وأنه يجب أن يشكر له ذلك بالاعتراف والحمد والثناء كما شكره بالاعتقاد والاستعمال ، وبذلك يكون عاملا بالكتاب والحكمة .

    فعلم مما شرحناه أن امتناع امرئ من الطيبات التي رزقه إياها مع الداعية الفطرية للاستمتاع بها إثم يجنيه على نفسه في الدنيا ، ويستحق به عقاب الله في الآخرة بزيادته في دين الله قربات لم يأذن بها الله ، وبما يترتب على ذلك من إضاعة بعض حقوق الله وحقوق عباد الله كإضاعة حقوق امرأته أو عياله ، وناهيك به إذا انتصب قدوة لغيره ، فكان سببا لغلو بعض الناس في الدين وتحريمهم على أنفسهم وعلى من يقتدي بهم ما أحله الله تعالى .

    والتحريم والتحليل تشريع : وهو حق من حقوق الربوبية ، فمن انتحله لنفسه كان مدعيا للربوبية أو كالمدعي لها ، ومن اتبع في ذلك فقد اتخذ ربا ، كما يؤخذ من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) وسيأتي في موضعه في التفسير .

    ( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) في الأكل وغيره ، فلا تفتاتوا عليه في تحريم ولا تحليل ، ولا تتعدوا حدوده فيما أحل ولا فيما حرم ، فإن اتقاء سخطه في ذلك من لوازم إيمانكم به ، ومن اعتداء حدوده في الأكل والشراب الإسراف فيها ، فإنه قال : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ( 7 : 31 ) فمن جعل شهوة بطنه أكبر همه فهو من المسرفين ، ومن بالغ في الشبع وعرض معدته وأمعاءه للتخم فهو من المسرفين ، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته ، وعرض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل ، فهو من المسرفين ، وما كان المسرف من المتقين .

    والأمر بالتقوى في هذا المقام أوسع معنى وأعم فائدة من النهي عن الإسراف في آية الأعراف التي أوردناها آنفا ، فهو من باب الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد ، وبه يدفع إشكال من عساه يقول : إن الدين شرع لتزكية النفس ، والتمتع بالشهوات واللذات ينافي التزكية وإن اقتصر فيه على المباحات ، وكم أفضى التوسع في المباحات إلى المحرمات ؟ وقد ذكر تعالى أنه يقال في الآخرة لأهل النار ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ) ( 46 : 20 ) فكيف يكون الاستمتاع بالطيبات مطلوبا شرعا ؟ وكيف يحتاج فيه إلى أمر الشرع ، وهو مستغنى عنه باقتضاء الطبع ؟ [ ص: 26 ] وبيان الدفع : أن تزكية الأنفس إنما تكون بإيقافها عند حد الاعتدال ، واجتذاب التفريط والإفراط ، وقد خلق الله الإنسان مركبا من روح ملكية وجسد حيواني ، فلم يجعله ملكا محضا ، ولا حيوانا محضا ، وسخر له بهذه المزية جميع ما في عالمه الذين يعيش فيه من المواد والقوى والأحياء ، وجعل من سنته في خلقه أنه تكون سلامة البدن وصحته من أسباب سلامة العقل وسائر قوى النفس ، ولذلك حرم عليه ما يضر بجسده ، كما حرم عليه ما يضر بروحه وعقله ، ومن ضعف جسده ، عجز عن القيام بالصلاة والصيام والحج والجهاد والكسب الواجب عليه للنفقة على نفسه وعلى من تجب عليه نفقتهم ، وعلى مصالح أمته العامة ، فإن لم يعجز عن القيام بها كلها ، عجز عن بعضها ، أو من الكمال فيها غالبا ، كما أنه يقل نسله ويجيء قميئا ضعيفا أو ينقطع البتة ، ويكون بذلك مسيئا إلى نفسه وإلى الأمة ، والتمتع بالطيبات من غير إسراف ولا اعتداء لحدود الله وسنن فطرته هو الذي يؤدى به حق الجسد وحق الروح ، ويستعان به على أداء حقوق الله وحقوق خلقه ، فإن صحبته التقوى فيه وفي غيره تتم التزكية المطلوبة .

    لا ننكر مع هذا أن منع النفس من الشهوات المباحة أحيانا مما يستعان به على تزكية النفس وتربية الإرادة ، وحسبنا منه ما شرع الله لنا من الصيام ، وهو مما يدخل في عموم التقوى في هذا المقام ، فإنه سبحانه وتعالى بين لنا أن حكمة الصيام وسبب شرعه كونه مرجوا لتحصيل ملكة التقوى إذ قال : ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ( 2 : 183 ) وقد بينا هذا بالتفصيل في تفسير هذه الآية من الجزء الثاني وفي مواضع أخرى ، فالصيام رياضة بدنية نفسية ، وجمع بين حرمان النفس من لذاتها بقصد التربية ، وبين تمتعها بها توسلا إلى شكر النعمة والقيام بالخدمة ، أما ما قيل من استغناء الناس بداعية الطبع عن أمر الشرع بهذا التمتع ، فهو مدفوع بما أحدثه حب الغلو في كثير من الناس من الجناية على أبدانهم وعقولهم وأممهم بترك طيبات الطعام والنساء ، وأما ما يقال للكفار يوم القيامة : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) فمعناه أنهم جعلوا كل همهم في حياتهم الدنيا التمتع الجسدي ولو بالحرام ، فلم يعطوا إنسانيتهم حقها بالجمع بينه وبين تقوى الله التي هي سبب النعيم الروحاني ، وقد بين تعالى ذلك بقوله : ( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) ( 47 : 12 ) .

    فتبين مما شرحناه في تفسير الآيتين أن هدي القرآن في الطيبات أي المستلذات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال والتزام الحلال ، كهديه في سائر الأشياء التي يسرف فيها بعض الناس ويقصر بعض ، والاعتدال هو الصراط المستقيم [ ص: 27 ] الذي يقل سالكه ، فأكثر الناس ينكبون عنه في التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف ، فيكونون كالأنعام بل أضل لما يجنون به على أنفسهم ، حتى قال بعض الحكماء : إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم ، يعني أنهم لإسرافهم في الطعام يصابون بأمراض تكون سببا لقصر آجالهم ، وإسراع الهرم فيهم ، والقليل من الناس ينحرفون عنه إلى جانب التفريط والتقصير ، إما اضطرارا كالمقترين البائسين ، وإما اختيارا كالزهاد المتقشفين ، والتزام صراط الاعتدال المستقيم أعسر وأشق على النفس ، وأدل على الفضيلة والعقل ، وكل حزب بما لديهم فرحون .

    لا يخطر على بال المسرف أن يدعي أنه متبع هدي الدين في إسرافه ، وقصارى ما يعتذر به عن نفسه إذا عذل وعيب عليه إسرافه شرعا أن يدعي أنه لم يتجاوز حد ما أباحه الله له ، وإذا قصد المعتدل اتباع الشرع بإقامة سنة الفطرة وإعطاء كل ذي حق حقه من جسده ونفسه وأهله ، وشكر الله على نعمه باستعمالها كما ينبغي ، فقلما يفطن الناس لذلك منه ، ولا يكاد أحد يعده به كامل الدين معتصما بالفضيلة ، فهي فضيلة لا رياء فيها ولا سمعة ، وإنما المفرطون بتعمد التقشف هم الذين كثيرا ما يغترون بأنفسهم ويغتر الناس بهم ، فهم على انحرافهم عن صراط الدين يدعون أو يدعى فيهم أنهم أكمل الناس في اتباع الدين .

    أعوز هؤلاء النص على دعوى كون الغلو في التقشف من الدين ، فتعلقوا ببعض وقائع الأحوال من سيرة فقراء السلف الصالح على تصريحهم بأن وقائع الأحوال في السنة لا يستدل بها لإجمالها وتطرق الاحتمال إليها ، فكيف إذا كانت وقائع من لا يحتج بقول أحد منهم ولا يفعله ؟

    عقد أبو حامد الغزالي في إحيائه كتابا سماه ( كتاب كسر الشهوتين ) شهوة البطن وشهوة الفرج ، وطريقته أن يبدأ في كل موضوع بما ورد فيه من الآيات فالأخبار النبوية فالآثار السلفية ، ونراه لم يجد آية يبدأ بها موضوع ( بيان فضيلة الجوع وذم التشبع ) فبدأه بأحاديث أكثرها لا يعرف المحدثون له أصلا قط ، وبعضها ضعيف أو موضوع فمن هذه الأحاديث ما نذكره غير مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي :

    ( 1 ) جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله ، وأنه ليس من عمل أحب إلى الله من جوع وعطش ، ( 2 ) لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه . ( 3 ) قيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال من قل مطعمه وضحكه ورضي بما يستر به عورته . ( 4 ) سيد الأعمال الجوع ، وذل النفس لبس الصوف ، ( 5 ) البسوا واشربوا وكلوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة . ( 6 ) الفكر نصف العبادة ، وقلة الطعام هي العبادة ، ( 7 ) أفضلكم عند الله منزلة يوم القيامة أطولكم جوعا وتفكرا ، [ ص: 28 ] وأبغضكم عند الله كل نئوم وشروب ، ( 8 ) لا تميتوا القلب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء .

    قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء : عند كل حديث من هذه الأحاديث إنه لم يجد له أصلا ، وأقره المرتضى الزبيدي شارح الإحياء على ذلك .

    ومما أورده من المرويات في كتب المحدثين حديث أسامة بن زيد الطويل في وصف الزهاد الذي أوله عنده : " إن أقرب الناس من الله عز وجل من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا ، الأحفياء الأتقياء ( ومنه ) أكلوا العلق ، ولبسوا الخرق ، شعثا غبرا ، يراهم الناس فيظنون أن بهم داء ، وما بهم داء ، ويقال إنهم قد خولطوا فذهبت عقولهم وما ذهبت عقولهم ، ( وفي آخره ) وإن استطعت أن يأتيك بالموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فإنك بذلك تدرك أشرف المنازل وتحل مع النبيين " إلخ ، فهذا رواه أحمد في الزهد وابن الجوزي في الموضوعات وفي إسناده حبان بن عبد الله بن جبلة أحد الكذابين وهو منقطع وأكثر رجاله مجهولون ، وأسلوبه بعيد من أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الكتب أطول منه في الإحياء ، وفي الأوصاف تقديم وتأخير .

    وجملة القول : أنه لم يورد في جملة تلك الأحاديث كلها من الصحاح إلا حديث " المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء " هو في البخاري بلفظ " يأكل المسلم في معى واحد " إلخ ، وله قصة حملت الطحاوي وابن عبد البر على القول بأنه خاص بكافر واحد لا عام ، ولغيرهما فيه بضعة أقوال ، منها أنه مثل للمبالغة في هم الكافر بالتمتع ، وحديث عائشة " ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا " وهو في الصحيحين .

    وأما المعروف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أنه كان يأكل ما وجد ، فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج ، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو بالزيت أو الخل ، وتارة يجوع وتارة يشبع ليكون قدوة للمعسر والموسر ، ولكنه ما كان يهمه أمر الطعام ، إنما كان يعني بأمر الشراب ، ففي حديث عائشة في الشمائل للترمذي " كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد " وفي سنن أبي داود : " أنه كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا ( بضم السين ) عين أو قرية بينها وبين المدينة يومان ، قال العلماء : يدخل في ذلك الماء القراح والماء المحلى بالعسل أو نقيع التمر والزبيب ونحو ذلك ، والتفصيل في كتب السنة
    آخر مرة عدل بواسطة souhila37 : 07-10-2015 في 05:17 PM السبب: خطاء في نقل الموضوع

مواضيع مشابهه

  1. الردود: 0
    اخر موضوع: 07-10-2015, 12:25 PM
  2. منقول .. اسلام اكبر داعي للنصرانيه في كندا..سبحان الله.
    بواسطة اجراس الرحيل في ركن المواضيع المكررة
    الردود: 3
    اخر موضوع: 20-04-2009, 07:25 PM
  3. منقول : برنامج اندكس لحفظ الاسماء والعناوين
    بواسطة سيدة المدينة في ركن الكمبيوتر والإنترنت والتجارب
    الردود: 8
    اخر موضوع: 18-09-2008, 01:48 AM
  4. اسماء الله الحسنى مع الصور(منقول)
    بواسطة منـــى احمد في روضة السعداء
    الردود: 3
    اخر موضوع: 27-02-2008, 11:33 PM

أعضاء قرؤوا هذا الموضوع: 0

There are no members to list at the moment.

الروابط المفضلة

الروابط المفضلة
لكِ | مطبخ لكِ