جاهد هواك
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ..

أما بعد ... أحبتي في الله ..

فأسأل الله تعالى أن يردنا جميعا إلى دينه ردًا جميلا ، فاللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك ،

يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا إلى طاعتك ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك

رحمة إنك أنت الوهاب .


فقد قال الله تعالى " ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ " [ الحج : 32 ]

من هنا سنبدأ خطة إيمانية جديدة مدارها على

( التخلية ) من العيوب والآفات

القاطعة لنا عن الطريق ، و
( التحلي )

بصفات عباد الرحمن الذين " يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ " [المؤمنون : 60 ] .

سنتناول آفة من أخطر الآفات التي تنخر في نفوسنا ، وتعكر صفو إيماننا ، ونعاهد ربنا على التخلص

منها قدر المستطاع ،

آفة اليوم : اتباع الهوى .

نعم المشكلة أنك تعبد الله على مزاجك ، أنك عابد لهواك وأنت لا تدري ، قال تعالى : " أَرَأَيْتَ

مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا "
[ الفرقان : 43 ]

قال قتادة- رحمه اللّه تعالى-: «إنّ الرّجل إذا كان كلّما هوي شيئا ركبه، وكلّما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزه عن ذلك

ورع ولا تقوى، فقد اتّخذ إلهه هواه " .


فالهوى : إيثار ميل النّفس إلى الشّهوة والانقياد لها فيما تدعو إليه من معاصي اللّه- عزّ وجلّ- ، وصاحب الهوى

يعميه الهوى ويصمّه، فلا يستحضر ما للّه ورسوله في الأمر ولا يطلبه أصلا، ولا يرضى لرضا اللّه ورسوله،

ولا يغضب لغضب اللّه ورسوله، بل يرضى إذا حصّل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصّل ما يغضب له بهواه، فليس

قصده أن يكون الدّين كلّه للّه، وأن تكون كلمة اللّه هي العلياء، بل قصده الانتصار لنفسه وطائفته أو الرّياء، ليعظّم

هو ويثنى عليه، أو لغرض من الدّنيا يطلبه .


قال الحبيب صلى الله عليه وسلم : " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأيّ قلب أشربها نكت فيه

نكتة سوداء. وأيّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتّى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصّفا. فلا تضرّه فتنة

ما دامت السّماوات والأرض، والآخر أسود مربادّ كالكوز مجخّيّا [أي منكوسًا مائلاً ] لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا

إلّا ما أشرب من هواه».
[ رواه مسلم ]

فأسالكم بالله : هل نحن متبعون لأهوائنا أم لشرع ربنا ؟

(1) إذا دعيت إلى أمر الله تعالى ، وهواك في شيء آخر ماذا تفعل ؟

(2) إذا كنت عرفت أن الخير في اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وقيل لك أنَ النبي لم يصنع كذا مما

ترى الناس يعملونه ، فهل تتبع السنة أم تعمل عمل الناس ؟


(3) إذا كنت تحب شيئا ، ورأيت الناس يختلفون أحلال هذا أم حرام ؟ ورأيت أن الأمر شبهة : هل تتورع وتحتاط

لدينك أم تتبع هواك ؟


(4) إذا كان هواك في فتوى معينة ، واقيمت عليك الأدلة المخالفة لهواك ، فهل تتبع الدليل أم تركن لهواك ؟

اصدق الله يصدقك ، والله لو خالفنا هوانا لاستقام الحال ، ولكن نمضي مع الهوى ، سواء بالتفريط أو الإفراط ،

ومن هنا جاء الضلال ، فكلٌ معجب برايه ، وهواه يحركه ، وتراه فرحًا بما عنده ، ولا يقبل ما يخالف هوى نفسه ،

ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم :


" وأمّا المهلكات: فشحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه "

[ رواه البزار وحسنه الألباني ]

وقال صلى الله عليه وسلم : " وإنّه سيخرج من أمّتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا

يبقى منه عرق ولا مفصل إلّا دخله»)
[ رواه أبو داود وصححه الألباني ]

أي أنَّ الهوى يسابقه ، ويلعب به ، حتى يصير هو المتحكم في كل تصرفات الإنسان ، فبالله عليك هل أنت متبع لهواك

كثيرا أم لا ؟ ومن هنا لن يعود قلبك إلى طريق الاستقامة إلا إذا
( جاهدت هواك ) .

قال الحسن البصريّ- رحمه اللّه تعالى-: «الهوى شرّ داء خالط قلبا " . وقال : أفضل جهاد جهاد الهوى .

فكيف نتخلص ؟ وكيف نجاهدها في الله حق جهاده ؟


(1) تفكر في عواقب الهوى ،

ويكفي أنه سبب حرمانك من الاستقامة ، وسبب زيغ قلبك ، وسبب فوات كثير من الفضائل عليك ، وانظر لمن يتبع

هواه كيف ينتهي به الأمر ، فوالله ما انتكس أحد عن طريق الرحمن إلا بسبب أنه متبع لهواه ، مؤثر لدنياه ،

ومن هنا يزيغ ويبتعد .


(2) تعرف على فضل هذه المجاهدة ،

ويكفي أنك ستحرر نفسك من عبودية غير الله تعالى ، وستعبد ربك حق العبودية ، وتشعر بالعزة "

فإن العزة لله جميعًا " فلن تكون هذا الإنسان الرخيص الذي
وصفه الله تعالى : " وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ

إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا

فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ "
[ الأعراف :176 ]

يقول ابن الجوزي : " التّفكّر في فائدة مخالفة الهوى من اكتساب الذّكر الجميل في الدّنيا، وسلامة النّفس والعرض

والأجر في الآخرة، ثمّ يعكس فيتفكّر لو وافق هواه في حصول عكس ذلك على الأبد، من كان يكون يوسف لو نال

تلك اللّذّة؟ فلمّا تركها وصبر عنها بمجاهدة ساعة، صار من قد عرفت " [ ذم الهوى ( ص 15) ]

وبشكل عملي :


(3) قل لنفسك في أشياء

ترغب فيها من حسن مطعم أو ملبس أو تنزه : لا ...لا ، وكلما زادت كلما ارتقيت ، وكلما قلت كلما تدنيت .

فصم صيام رجب بنية مخالفة الهوى ، وضعّف وردك القرآني بنية مخالفة الهوى ، فهواي يأمرني أن لا أزيد على

الجزء أو الاثنين ، ولكن ستقسم على نفسك بالله لأرين الله ما اصنع فستقرأ اليوم أكثر واكثر ،

وهكذا في سائر العمل .

ما الأمر الشاق عليك من العبادات ؟ حفظ القرآن ؟ القيام ؟ كثرة الذكر ؟ طلب العلم ؟ .. انظر ما يصعب عليك ،

وبنية المجاهدة سنقطع حبال الهوى التي تأسر قلوبنا .


ومن هنا نتفق على الواجبات العملية :

أولاً :

نريد ختمة هذا الأسبوع بدون تضجر أو استصعاب . من الجمعة إلى الجمعة ( كل يوم تقرأ قرابة أربعة أجزاء

ونصف ، قسمها على الصلوات ، وسنبدأها من اليوم ( البقرة وآل عمران )
وسورة الكهف .


ثانيًا :


كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ( نريدها اليوم بعدد لم تصنعه من قبل ، بنية مخالفة الهوى ،

والاستقامة على طريق الرحمن )
قال صلى الله عليه وسلم :" من ذكرت عنده فخطئ الصلاة علي خطئ طريق الجنة

"[ رواه الطبراني وصححه الألباني ] فطريق الجنة ممهد بكثرة الصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم .

تذكرة اليوم :

وفي الختام خذ هذه الكلمات الذهبيات من ذي النون ، واستوص بها خيرا .

قال ذو النّون المصريّ- رحمه اللّه تعالى-:

«إنّما دخل الفساد على الخلق من ستّة أشياء:


الأوّل : ضعف النّيّة بعمل الآخرة .

والثّاني : صارت أبدانهم مهيّأة لشهواتهم.

والثّالث :غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل.

والرّابع: آثروا رضاء المخلوقين على رضاء اللّه .

والخامس: اتّبعوا أهواءهم ونبذوا سنّة نبيّهم صلّى اللّه عليه وسلّم .

والسّادس: جعلوا زلّات السّلف حجّة لأنفسهم، ودفنوا أكثر مناقبهم»)


[ الاعتصام للشاطبي (1/68) ]