[COLOR=indigo]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

من كتاب: فتاوى معاصرة-الجزء الأول

الباب الثالث:في العقائد والغيبيات

سر الموت :

س: أرجو أن تبينوا الحكمة في "الموت". لماذا يموت الناس؟ فقد قرأت في صحيفة عربية -لكاتب ماتت جدته، ومات صديق له- مقالة يستنكر فيها على القدر أماتة الناس بعد أن استمتعوا بالحياة، ولا يقر بحكمة وراء هذا الأمر، ويحمل على الذين يرضون بالموت إذا وقع، ويعترفون بأنه سنة الله في الحياة، قائلا: إن هذه فلسفة الأغبياء.

ج: الغبي في هذه القضية هو هذا الكاتب الأحمق المغرور، الذي إن دل كلامه هذا على شيء، فإنما يدل على أنه رخو العود أمام صغريات الحوادث فكيف بكبارها؟ وأنه سطحي التفكير، ينظر إلى القشر، ولا ينظر إلى اللباب، ويهتم بما يطفو على السطح لا بما يرسب في القاع، وأنه جاهل بالحياة وبالدين وبالفلسفة جميعا:
( أ ) لو عرف منطق الحياة لآمن بما آمن به العوام الذين عرفوا بحكم الفطرة، ومنطق التجربة أن الموت هو سنة الحياة. ولرأى ما يقوم به رعاة الحدائق والبساتين من تشذيب الشجر، وقطع بعض فروعه وأغصانه، ليحيا سائر الشجرة وينمو ويثمر، إنه تضحية بالبعض من أجل الكل. وهذا هو قانون الحياة، ولولا هذا القانون ما قدمت أمة فلذات أكبادها، وأعز أبنائها شهداء في سبيل عقيدتها وشرفها فهم يموتون لتحيا الأمة، أي يقطع الفرع ليبقى الأصل حيا.
(ب) ولو عرف منطق الدين، لعرف أن وراء أمر الموت والحياة سر التكليف والابتلاء، وصهر الإنسان في هذه الدار الفانية ليعد للخلود في الدار الباقية (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا).
لو آمن بمنطق الدين لعلم أن الموت ليس فناء محضا، ولا عدما صرفا، كما يتصور الجهلة والضالون. إنما الموت هو انتقال من حال إلى حال. ومن طور إلى طور، ومن دار إلى دار، كما قال عمر بن عبد العزيز: (إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنقلون من دار إلى دار).
وقال الشاعر:

وما الموت إلا رحلة غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي

فالميت في قبره يحيا حياة برزخية، يتلذذ فيها أو يتألم، تمهيدا لحياة الخلود في الآخرة بما فيها من حسن الثواب أو سوء العذاب.
(جـ) ولو عرف منطق الفلسفة لوقف متأملا يسائل نفسه مرة ومرة عن حكمة هذا الأمر الخطير، الذي لم يدع كائنا بشريا إلا فجعه في حبيب لديه. أو عزيز عليه. ولو فعل لوجد الحكمة أبين من فلق الصبح.
ترى ماذا كان يحدث لو لم يكن الموت مكتوبا على بني الإنسان؟ لو ظل الناس يتناسلون ويتكاثرون، ولا يموت منهم أحد؟ وتمضي ألوف السنين وملايينها وهم يزيدون ولا ينقصون؟
إن الذي نتصوره أن يجتمع العقلاء من الناس في كل بلد أو ناحية، ويفكروا في إعدام عدد منهم في كل عام مثلا، حتى تخف الزحمة، وتتيسر المعيشة للباقين. ولكن كيف الاختيار والتعيين: أيكون على كل أسرة أن تقدم من أفرادها عددا؟ أم الغرباء هم الذين يختارون العدد المطلوب؟ أم يكون الاختيار بالقرعة؟ وكيف يمكن التنفيذ إذا لم يكن الإنسان -بحكم خلقته- قابلا للموت؟
إن الموت الطبيعي أراح الناس من هذا كله، وكان في ذلك
الخير، كل الخير، لأن الموت في الحقيقة ضرورة للحياة.
يقول الفيلسوف الإسلامي الأخلاقي أحمد بن محمد مسكويه في كتابه: "تهذيب الأخلاق" مبينا بعض حكمة الموت:
"إنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا، ولو جاز أن يبقى الإنسان لبقي من تقدمنا، ولو بقي الناس على ما هم عليه من التناسل، ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض. وأنت تتبين ذلك مما أقول: قدر أن رجلا واحدا ممن كان منذ أربعمائة سنة هو موجود الآن، وليكن من مشاهير الناس حتى يمكن أن يحصل أولاده موجودين معروفين كعلي بن أبي طالب عليه السلام مثلا، ثم ولد له أولاد، ولأولاده، وبقوا كذلك يتناسلون، ولا يموت منهم أحد، كم كان مقدار من يجتمع منهم في وقتنا هذا؟ فإنك ستجدهم أكثر من عشرة آلاف ألف رجل، وذلك أن بقيتهم الآن مع ما قدر فيهم من الموت والقتل الذريع أكثر من مائتي ألف إنسان، واحسب لكل من كان في ذلك العصر من الناس في بسيط الأرض، شرقها وغربها، مثل هذا الحساب، فإنهم إذا تضاعفوا هذا التضاعف لم تضبطهم كثرة، ولم تحصهم عددا، ثم امسح بسيط الأرض فإنه محدود معروف المساحة، لتعلم أن الأرض حينئذ لا تسعهم قياما ومتراصين، فكيف قعودا ومتصرفين، ولا يبقى موضع لعمارة يفضل عنهم، ولا مكان لزراعة، ولا مسير لأحد ولا حركة، فضلا عن غيرها، وهذا في مدة يسيرة من الزمان، فكيف إذا امتد الزمان، وتضاعف الناس على هذه النسبة؟ فهذه حال من يتمنى الحياة الأبدية، ويكره الموت، ويظن أن ذلك ممكن أو مطموع فيه، من الجهل والغباوة. فإذن الحكمة البالغة، والعدل المبسوط بالتدبير الإلهي هو الصواب الذي لا معدل عنه، ولا محيص منه، وهو غاية الجود الذي ليس وراءه غاية أخرى لطالب مستزيد، أو راغب مستفيد، والخائف منه هو الخائف من عدل الباري وحكمته، بل هو الخائف من جوده وعطائه.
فقد ظهر ظهورا حسنا أن الموت ليس برديء كما يظنه جمهور الناس، وإنما الرديء هو الخوف منه، وأن الذي يخاف منه هو الجاهل به وبذاته. وقد كان ظهر أيضا فيما تقدم من قولنا أن حقيقة الموت هي مفارقة النفس البدن، وهذه المفارقة ليست فسادا للنفس، وإنما هي فساد المتركب. فأما جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبه وخلاصته فهو باق بحاله ("تهذيب الأخلاق" لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه.تحقيق قسطنطين زريق ص215،216).
هذا بعض ما قاله فيلسوف مثل مسكويه عن سر الموت، وقد أفاض وأطنب في ذلك في كتابه، فليرجع إليه ص: 209-217.
إن من نكد الدنيا أن كثيرا ممن يحررون الصحف، ويوجهون الرأي العام، لا يقرأون ولا يتعلمون، وقد ضل من كانت العميان تهديه!
إن هذا الصنف الذي ولول، وشق الجيوب من أجل موت جدته، كيف ينتظر منه أن يقدم نفسه أو ولده لمعركة في سبيل الله أو في سبيل الشرف. مادام تقديم الضحايا للموت إنما هو فلسفة الأغبياء؟
[/SIZE]