الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من أشرف الوظائف التي قام بها الإنسان منذ وُجدت الخَليقة، لذلك اختار لها سبحانه وتعالى صفوة خلقه من الأنبياء والرسل والصالحين قال تعالى :
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِالْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُبِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
[ فاطر: 125].
في هذه الآية يخاطب الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم وخطابه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم خطاب للأمة أن يدعو الناس إلى شريعة الرحمن وهي الإسلام بالحكمة أي بالقول المحكم الذي لا يؤاخذ عليه من قبل الآخرين ، والذي تتقبله الجماهير ، ويكون مؤثرا تأثير إيجابيا في حياة الناس ، و أن تكون الدعوة بالموعظة الحسنه أي بالعبر والزواجر التي تؤثر في قلوب الناس ، وتذكرهم بأيام الله تعالى ليحذروا بأس الله تعالى ، ثم المرحلة الثالثة في الدعوة وهي المجادلة بالتي هي أحسن، فإذا استلزم الأمر المحاجّة عن طريق المناظرة والجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب ، والصفح عمن أساء في القول ، وترفق بهم في الخطاب ومقابلة السئ بالحسن ، وليكن قصدك من الجدال الوصول إلى الحق دون رفع صوت ، لا سب الخصم ، ولا مسه بالأذى ، فعلى كل داعية أمتثال هذا الأمر الإلهي في دعوته حتى تأتي ثمارها .
تعريف الموعظة الحسنة :
لغة :الوعظ والعظة و الموعظة ، النصح والتذكير بالعواقب ،
قال ابن سيده : هو تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب ، واتعظ هو : قَبِلَ الموعظة حين يذكر الخبر ونحوه ...
اصطلاحاً: يطلق على القول الحق البين الذي يلين القلوب و يؤثر في النفوس ، ويكبح جماح النفوس المتمردة،ويزيد النفوس المهذبة إيماناً وهداية .
أيضاً في معنى الموعظة الحسنة يقول السعدي رحمه الله : ( هو، الأمر ، والنهي المقرون بالترغيب والترهيب ، إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها ، والنواهي من المضار وتعدادها ، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله ، وإهانة من لم يقم به ، وإما بذكر ما أعد الله للطائعين ، من الثواب العاجل والآجل ، وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل ).
الهدف من الموعظة الحسنة هي شحذ الهمم الدافعة للعمل الصالح
عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون , فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودعٍ فأوصنا , قال : "أوصيكم بتقوى الله عزوجل , والسمع والطاعةوإن تأمر عليك عبد , فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " رواه أبوداود والترمذي ..
وإخلاص العبادة لله هو أساس الدعوة الحقة ، ومن ثم تدرج في وعظه فأمره بإقامة الصلاة و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر على ذلك .. وغير ذلك .
مصدر الموعظة :
1) كتاب الله : ومنه تستمد الموعظة موضوعاتها ، وقد ورد فيه الأمر بانتهاج أسلوب الموعظة الحسنة ، قال تعالى : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ) [النساء 63] ..
و هنا يأمر الله جل شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم بالموعظة ، قال السعدي رحمه الله : وعظهم أي بين لهم حكم الله تعالى ، مع الترغيب في الانقياد لله والترهيب من تركه ..
2) السنة النبوية : ففي سنته عليه الصلاة والسلام الكثير من المواضيع الدعوية التي يرتكز عليها الوعظ ، وقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتهج هذا الأسلوب قال عبد الله بن مسعود : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة أو قال يتحيننا بالموعظة كراهة السآمة علينا ).
الرفق واللين فى الكلام والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة
وصف الله نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنَّه على خُلق عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ( القلم : 4 )
ووصفه بالرِّفق واللِّين، فقال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران159 )
ووصفه بالرحمة والرأفة بالمؤمنين، فقال : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128 )
وعَنْ أنَسِ بن مالك رضي الله عنه، قال : جاء أعْرَابِيٌّ فَبَالَ في طَائِفَةِ المَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فَلَمَّا قضى بَوْلَهُ أمرَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بذَنُوبٍ مَنْ ماءٍ، فَأُهْرِيقَ عليْهِ .. مُتّفَقٌ علَيْهِ.
وعند أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، فصلى ركعتين ثم قال : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحداً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد تحجرت واسعاً . ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد ، فأسرع الناس إليه ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين . صبوا عليه سجلا من ماء أو قال : ذنوبا من ماء .
حِكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع هذا الرجل ، ورفقه صلى الله عليه وسلم به .
تعامل النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة والرفق واللين مع هذا الأعرابي ، ومثله تعامله صلى الله عليه وسلم مع معاوية بن الحكم السلمي لما تكلّم في الصلاة ، حتى قال رضي الله عنه : فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كَهَرَني ولا ضربني ولا شتمني . قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن . رواه مسلم .
ومعنى ما كهرني : أي ما انتهرني .
وحِكمة أخرى في ذلك ، وهي تأليف قلب الرجل .
ولنتأمل رفقه صلى الله عليه وسلم بتعليم هذا الرجل الذي ارتكب هذا الخطأ في مسجده صلى الله عليه وسلم ، فلم يزد عليه الصلاة والسلام أن قال له : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر ، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن .
فبالموعظة الحسنة يُعلم الجاهل، ويُذكر الغافل، ويرد الشارد، ويوقظ أصحاب الضمائر، وتوجل القلوب المؤمنة، وتذرف العيون الباكية، بل إن المواعظ كما يقول ابن رجب رحمه الله : "سياط تضرب القلوب، فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثر
بعد انقضائه كتأثره في حال وجوده، لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته وضعفه، فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر".
أسال الله لي ولكم التوفيق والسداد والهداية والرشاد وأساله أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
الروابط المفضلة