[دورة: كيفية الإيمان بالقدر]
الدرس: الخامس
س167: هل الإيمان بالقدر يتنافى مع فعل الأسباب والحرص عليها ؟ فصل في ذلك مع ذكر الدليل .
ج167: مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان بالقدر لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب ، بل يقولون : إن الأخذ بالأسباب من الإيمان بالقدر ، فمباشرة الأسباب من تمام الإيمان بالقدر ، ولهذا فيجب على العبد مع الإيمان بالقدر الاجتهاد في العمل والأخذ بأسباب النجاة والالتجاء إلى الله تعالى بأن ييسر له أسباب السعادة ، وأن يعينه عليها ، ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة ، فقد أمرت بالعمل وطلب الرزق واتخاذ العدة لمواجهة العدو والتزود للأسفار وغير ذلك ،
كما قال تعالى : } فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون { ، وقال تعالى : } هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور { ، وقال تعالى : } وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم { ، وقال تعالى : } وتزودوا فإن خير الزاد التقوى { ، وقال تعالى : } وقال ربكم ادعوني أستجب لكم { .
وقال - عليه الصلاة والسلام - لما قيل له : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل , فقال : (( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، فأهل السعادة يسيرون لعمل السعادة وأهل الشقاوة يسيرون لعمل الشقاوة )) ثم قرأ : ((} فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى {)) والحديث في الصحيح. وقال - عليه الصلاة والسلام -: (( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز )) ،
بل إن ترك تعاطي الأسباب اتكالاً على الكتابة السابقة في حقيقته أنه للقدر أصلاً ؛ لأن الله تعالى ربط هذا الكون بعضه ببعض ونظم بعضه ببعض وربط الأشياء بأسبابها ، ودلنا على السبب إن كنا نريد حصول أثره ،
فعلمنا دفع قدر الجوع بالأكل ، وقدر الظمأ بالشرب ، وقدر منازلة العدو ، بحسن الإعداد الباطني والظاهري ، وقدر إحكام الشهوة بالزواج للقادر وبالصوم لمن لم يجد ، وقدر الفقر بالسعي في طلب الرزق الحلال ، وقدر دخول النار بالاجتهاد في العمل الصالح مع ترك الذنوب والمعاصي ، وهكذا .فهل بالله عليك يقول أحد مع ذلك أنا أبقى مع القدر ولا أدافعه أو أحصله بالأسباب المشروعة ،
فهذا القول في الحقيقة إنكار للقدر وتكذيب به وإلا فمن مقتضيات الإيمان بالقدر تعاطي الأسباب المشروعة في دفع المكروه وجلب المحبوب ، والله أعلم ,
وأضرب لك مثالين على أهمية تحصيل الأسباب وعدم الاتكال على ما كتب وقدر وهما :
الأولى : قوله تعالى عن مريم: } وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا {،
فانظروا - رحمكم الله تعالى - ، امرأة نفاس خائفة مما سيواجهها تؤمر بهز جذع نخلة حتى يتساقط الرطب ، وإنه لو اجتمع عدد من الرجال الأقوياء فإنهم قد يعجزون عن هزها ،
أَوَلا يقدر الله تعالى على إسقاط الرطب بلا هذا الهز ؟ بلى هو قادر على كل شيء لكن من باب ربط الأشياء بأسبابها والأخذ بزمام الجد والمبادرة وترك التواكل والعجز والكسل ،
فهل يأتي بعد ذلك أحد يقول : سأدع العمل الصالح وأتكل على ما كتب لي ؟ هذا والله عين الغباء والخبل .
الثانية : قوله تعالى عن موسى : } وأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم { فهذه الضربة بالعصى أمر بالأخذ بالأسباب وإلا فالله قادر القدرة التامة على فلق البحر بلا ضرب ، ولكن أمر موسى أن يضرب في هذا الوقت العصيب مع أن هذا الضرب سيؤخرهم قليلاً والعدو قد اقترب منهم ، ومع ذلك يؤمر بالضرب بالعصى ، والله إنها لتربية على تعاطي الأسباب والأخذ بالأسباب المشروعة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
* * *
س168: ما حكم الاحتجاج بالقدر ؟ مع بيان الدليل ؟
ج168: أقول : مذهب أهل السنة والجماعة - رحمهم الله تعالى - هو أن الاحتجاج بالقدر منه ما هو سائغ مشروع ومنه ما هو زائغ ممنوع ، فأما السائغ المشروع فأمران :
الأول : الاحتجاج بالقدر عند نزول المصائب ، فإذا نزلت المصائب فعلى العبد أن يتسلى بنسبتها للقدر فيقول : قدر الله تعالى ذلك ولا دافع لقضائه ولا معقب لحكمه ،
قال تعالى : } ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها { ، وقال تعالى : } ما أصاب من مصيبةٍ إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه { ، قال علقمة : (( هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم )) .وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان )) .
الثانية : الاحتجاج بالقدر على المعصية التي قد تاب منها التوبة النصوح الصادقة ، فهذا أيضًا جائز لا بأس به ؛ لأنه لا يريد بهذا الاحتجاج أن يسوغ لنفسه الاستمرار عليها ؛ لأنه قد تاب منها، فإذا وقع الإنسان في شيء من المحرمات ثم تاب التوبة النصوح فعوتب في ذلك فله أن يقول : هذا أمر قدره الله علي ،
ويستدل على ذلك بحديث أبي هريرة t في الصحيحين في محاجة موسى وآدم - عليهما الصلاة والسلام - وفيه: (( فقال آدم : يا موسى أتلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين عامًا )) ، فآدم - عليه الصلاة والسلام - احتج على أكله من الشجرة بأنه أمر مكتوب ومقدر عليه ،
لكن هذا الاحتجاج إنما وقع بعد التوبة النصوح المقبولة ، قال تعالى : } ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى { ، فهذا الحديث فيه دلالة على جواز الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية التي تاب منها التوبة النصوح ، والله أعلم .
الثالثة : الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية التي لا يزال يقارفها مسوغًا لنفسه بهذا الاحتجاج الدوام عليها والاستمرار في تعاطيها ، وهذه هي الحالة الزائغة الممنوعة
وتفصيل الجواب عنها سيأتي في السؤال الآتي - إن شاء الله تعالى - ، والله
أعلم .
** *
الأسئلة التطبيقية:
س1: هل الإيمان بالقدر ينافي فعل الأسباب؟ اذكري دليلا.
س2: هل يجوز الاحتجاج بالقدر عند نزول المصائب؟
*
الروابط المفضلة