استدل كثير من خصوم ابن تيمية للنيل منه بقصة ذكرها ابن بطوطة في رحلته المشهورة، حيث زعم أنه شاهد ابن تيمية على منبر الجامع بدمشق يعظ بالناس ويشبه نزول الله إلى السماء الدنيا بنزوله هو من درجة المنبر!

ما صحة هذه الرواية؟
وما هي حقيقتها؟
وهل كان ابن تيمية حقاً يعتقد بالتشبيه ؟

الحقيقة أن ما ذكره ابن بطوطة - غفر الله له - عن شيخ الإسلام ابن تيمية لا قيمة له ولا وزن في الميزان العلمي والبحثي، وقد قرر كبار الباحثين المختصين في تراث ابن بطوطة وابن تيمية بأن هذه القصة مختلقة ولا سند يدعهما أو يصححها، والسبب في ذلك .. فيما يلي :

أولاً : ثبوت عدم دقة وأمانة ابن بطوطة في رحلة.
تكلم كثير من العلماء عن رحلة ابن بطوطة، وتناولوها بالنقد والتحليل والدراسة، وخلصوا أنها مجرد مذكرات كتبها المؤلف، ولا تعد توثيقاً أميناً يمكن الاعتماد عليه.

فهذه الرحلة ليست من كتب التاريخ المعتبرة والمعتمدة، فضلاً عن مؤلفها الذي لم يكن معروفاً أنه من أهل الدراية والخبرة والعلم، وقد أثبت المحقق "حسن السائح" في تقديمه لكتاب (تاج المفرق في تحلية علماء المشرق) للشيخ خالد بن عيسى البلوي، أن ابن بطوطة ربما سمع باسم عالم من علماء البلد التي زارها، فيذكر اسمه في رحلته ولو لم يتصل به اتصالاً شخصياً، أو يقابله حقيقة، بل يستفيد مما سمعه ويضمنه رحلته وكأنه قابله أو شاهده، كما فعل في تونس حين ذكر علماً من أعلامها وهو ابن الغماز.

ومما يزيد الأمر وضوحاً .. أن رحلة ابن بطوطة تضمنت أموراً يقطع العلم بكذبها، كما قال إنه زار بعض الجزر والبلدان التي فيها نساء ذوات ثديِ واحدة!!!

وبعض العجائب والخرافات التي حكاها في رحلته يقطع الإنسان بأنها مختلقة ومجرد أساطير يتناقلها الناس، ويسجلها ابن بطوطة وكأنه شاهدها أو اتصل بها!

ثانياً : تحقيق ما نسبه ابن بطوطة لابن تيمية رحمهما الله.
من يحقق ويدقق فيما نقله ابن بطوطة عن ابن تيمية يقطع بكذبه، وذلك لأن ابن بطوطة ذكر أنه حضر يوم الجمعة وابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع ونزل من درجة المنبر وهو يقول إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا.. إلخ.

وهنا لنا وقفات نقدية علمية .. أهمها :
(1) أن ابن بطوطة -غفر الله له- كذب ولم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به، إذا كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المبارك عام ست وعشرين وسبعمائة هجرية، وكان سجن ابن تيمية في قلعة دمشق أوائل شعبان من ذلك العام، إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الأثنين لعشرين من ذي القعدة عام ثمان وعشرين وسبعمائة هجرية!!

والسؤال الجوهري : كيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وسمع منه ؟؟!

(2) أن كل من ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية لم يذكر أبداً أنه كان يخطب أو يعظ على منبر الجمعة، ولو كان ذلك كذلك لذكره من ترجم له لأهميته، وإنما كان شيخ الإسلام يجلس على كرسي يعظ الناس، ويكون له مجلساً غاصاً بأهله.

(3) أن حادثة مشهورة جداً جداً مثل هذه الحادثة، فهي أمام الناس، وعلى منبر في مكان مشهور، ومن عالم مشهور ومحسود وله أعداء كثر، ويقول مالا يسع الناس السكوت عنه، ثم ينفرد بنقل هذه الحادثة -التي تتوافر جميع أسباب نقلها وتواترها فيها- ابن بطوطة !!!

ثالثاً : حقيقة كتاب رحلة ابن بطوطة.
وإذا حققنا القول في ذات كتاب الرحلة، وأنصفنا مؤلفه، فإننا قد نخلص إلى أن الكذب والتلفيق والخرافات الموجودة في هذا الكتاب ليست من صنع ابن بطوطة نفسه، بل من النسّاخ، وهذا كثير ما يحصل، حتى الكتب السماوية السابقة قد دخلها من النسّاخ التحريف الكثير.

وقد نبه الحافظ الإمام ابن حجر إلى أن ابن بطوطة -رحمه الله- لم يكتب تفاصيل رحلته وإنما الذي كتبها وجمعها هو أبو عبدالله بن جزي الكلبي وهو من نمقها، وكان العلامة البلفيقي يتهمه بالكذب والوضع !!

وبالرجوع إلى نفس الرحلة نجد أن ابن جزي الكلبي يقول في المقدمة:
( ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبدالله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة للمعاني التي اعتمدها)!!!
ويقول في آخر الكتاب : ( انتهى ما لخضته من تقييد الشيخ أبي عبدالله محمد بن بطوطة).

وهذا يدل صراحة أن كتاب رحلة ابن بطوطة لم يصلنا بألفاظ مؤلفه، بل الناقل نص على تدخله في الألفاظ والكلمات.

رابعاً: عقيدة شيخ الإسلام المتواترة عنه تثبت اختلاق هذه القصة.
من كان له إلمام سطحي أو بسيط في تراث شيخ الإسلام ابن تيمية يقطع جازماً أن هذه القصة مختلقة، وليراجع من يشاء مجموع الفتاوى، أو درء التعارض ليعلم أن ابن تيمية يحارب هذا الفكر، ولا يؤمن إلا بما آمن به سلف الأمة رضوان الله عليهم.

بل فليراجع من يشاء كتاب "شرح حديث النزل" لابن تيمية ليتعرف عن قرب على عقيدته في نزول الرب سبحانه، وصفاته تعالى.

خامساً: شهادة أهل الإنصاف من العلماء.
إذا كان هناك من يستجيز الكذب والبهتان لينصر مذهبه، أو ليهزم خصمه، فإن كثيراً من العلماء وفي شتى المذاهب لا يبيعون دينهم فيكذبون لنصرته.

فهذا الشيخ العلامة "إبراهيم الكوراني الشافعي الأشعري" يقول في حاشيته المسماة ( مجلى المعاني على شرح عقائد الدواني) ما نصه : (ابن تيمية ليس قائلاً بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسماً في رسالة تكلم فيها على حديث النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا، وقال في رسالة أخرى: "من قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان أو أن الله تعالى يماثل شيئاً من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه" ).

ثم قال الشيخ العلامة إبراهيم الكوراني: ( بل هو على مذهب السلف من الإيمان بالمتشابهات مع التنزيه بليس كمثله شيء).

وهذا المحقق الدكتور "علي المنتصر الكتاني" الذي حقق كتاب ( رحلة ابن بطوطة) يقول عن هذه القصة : ( هذا محض افتراء على الشيخ رحمه الله، فإنه كان قد سجن بقلعة دمشق قبل مجيء ابن بطوطة إليها بأكثر من شهر، فقد اتفق المؤرخون أنه اعتقل بقلعة دمشق لآخر مرة في اليوم السادس من شعبان سنة 726هـ ولم يخرج من السجن إلا ميتاً، بينما ذكر المؤلف -ابن بطوطة- في الصفحة 102 من كتابه أنه وصل دمشق في التاسع من رمضان)!!

وهذا الدكتور "محمد سعيد رمضان البوطي" يقول :
( ونحن نعجب عندما نجد غلاة يكفرون ابن تيمية رحمه الله ويقولون إنه كان مجسماً، ولقد بحثت طويلاً كي أجد الفكرة أو الكلمة التي كتبها أو قالها ابن تيمية والتي تدل على تجسيده فيما نقله عنه السبكي أو غيره فلم أجد كلاماً في هذا قط .. ورجعت إلى آخر ما كتبه أبو الحسن الأشعري وهو كتاب الإبانة فرأيته هو الآخر يقول كما يقول ابن تيمية، إذن فلماذا نحاول أن نعظم وهماً لا وجود له؟ ولماذا نحاول أن ننفخ في نار شقاق؟)

هذا ما تيسر لي في هذه العجالة... سائلاً الله أن يوفقنا لخدمة دينه.

وكتبه : صخرة الخلاص