حكى أبو الفرج بن االجوزي في ذلك ثلاثة أقوال : أحدهما : أن الصبر أفضل . والثاني : أن الشكر أفضل . والثالث : أنهما سواء ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت .
ونحن نذكر ما احتجت به كل فرقة ، وما لها وعليها في احتجاجها ، بعون الله وتوفيق .
قال الصابرون : قد أثنى الله سبحانه على الصبر وأهله ، ومدحه ، وأمر به ، وعلق عليه خير الدنيا والآخرة ، وقد ذكره الله في كتابه في نحو تسعين موضعاً .
وقد تقدم من النصوص والأحاديث فيه ، وفي فضله ، ما يدل على أنه أفضل من الشكر .
ويكفي في فضله قوله صلى الله عليه وسلم : الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ، فذكر ذلك في معرض تفضيل الصبر ورفع درجته على الشكر ، فإنه ألحق الشاكر بالصابر وشبهه به ، ورتبة المشبه به أعلى من رتبة المشبه . وهذا كقوله : مدمن الخمر كعابد وثن ، ونظائر ذلك .
قالوا : وإذا وازنا بين النصوص الواردة في الصرب الواردة في الشكر وجدنا نصوص الصبر أضعافها . ولهذا لما كانت الصلاة والجهاد أفضل الأعمال كانت الأحاديث فيهما في سائر الأبواب ، فلا تجد الأحاديث النبوية في باب أكثر منها في باب الصلاة والجهاد .
قالوا : وأيضاً ، فالصبر يدخل في كل باب ، بل في كل مسألة من مسائل الدين ، ولهذا كان من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد .
قالوا : وأيضاً ، فالله سبحانه وتعالى علق على الشكر الزيادة فقال : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم . وعلق على الصبر الجزاء بغير حساب .
وأيضاً فإنه سبحانه أطلق جزاء الشاكرين ، فقال ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .
قالوا :- وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله تعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به . وفي لفظ : كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها ، قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به . وما ذاك إلا لأنه صبر النفس ومنعها من شهواتها ، كما في الحديث نفسه : يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي .. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أفضل الأعمال : عليك بالصوم ، فإنه لا عدل له . ولما كان الصبر حبس النفس عن إجابة داعي الهوى ، وكان هذا حقيقة الصوم ، فإنه حبس النفس عن إجابة داعي شهوة الطعام والشراب والجماع ، فسر الصبر قي قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة ، أنه الصوم . وسمى رمضان شهر الصبر .
وقال بعض السلف : الصوم نصف الصبر . وذلك أن الصبر حبس النفس عن إجابة داعي الشهوة والغضب ، فإنه النفش تشتهي الشيء لحصول اللذة بإدراكه وتغضب لنفرتها من المؤلم لها ، والصوم صبر عن مقتضى الشهوة فقط ، وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب . ولكن من تمام الصوم وكماله صبر النفس عن إجابة داعي الأمرين . وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، وهو قوله : إذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يجهل ، ولا يصخب . فإن أحداً سابه أو شاتمه ، فليقل : إني صائم ، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى تعديل قوى الشهوة والغضب ، وأن الصائم ينبغي له أن يحتمي من إفسادهما لصومه ، فهذه تفسد صومه ، وهذه تحبط أجره ، كما قال في الحديث الآخر : من لم بدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .
قالوا : ويكفي في فضل الصبر على الشكر قوله تعالى : إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ، فجعل فوزهم جزاء صبرهم . وقال تعالى : والله مع الصابرين , لاشيء يعدل معيته لعبده ، كما قال بعض العارفين : ذهب الصابرون بخير الدنيا والآخرة لأنهم نالوا معية الله . وقال تعالى واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ، وهذا يتضمن الحراسة والكلاءة والحفظ للصبر لحكمه .
وقد وعد الصابرين بثلاثة أشياء ، كل واحد خير من الدنيا وما عليها ، وهي صلواته تعالى عليهم ورحمته لهم ، وتخصيصهم بالهداية في قوله تعالى : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون . وهذا مفهم لحصر الهدى فيهم ، وأخبر أن الصبر من عزم الأمور في آيتين من كتابه ، وأمر رسوله أن يتشبه بصبر أولي العزم من الرسل ، وقد تقدم ذكر ذلك .
قالوا : وقد دل الدليل على أن الزهد في الدنيا والتقلل منها مهما أمكن أفضل من الاستكثار منها ، والزهد فيها حال الصابر ، والاستكثار منها حال الشاكر ، قالوا : وقد سئل المسيح صلوات الله وسلامه عليه عن رجلين مرا بكنز فتخطاه أحدهما ولم يلتفت إليه ، وأخذخ الآخر وأنفقه في طاعة الله تعالى ، أيهما أفضل ؟ فقال : الذي لم يلتفت إليه وأعرض عنه أفضل عند الله .
قالوا : ويدل على صحة هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فلم يأخذها . وقال : بل أجوع يوماً وأشبع يوماً ، ولو أخذها لأنفقها في مرضاة الله وطاعته ، فآثر مقام الصبر عنها والزهد فيها.
قالوا : وقد علم أن الكمال الإنساني في ثلاثة أمور : علوم يعرفها ، وأعمال يعمل بها ، وأحوال ترتب له على علومه وأعماله . وأفضل العلم والعمل والحال : العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ، والعمل بمرضاته ، وانجذاب القلب إليه بالحب والخوف والرجاء . فهذا أشرف ما في الدنيا ، وجزاؤه أشراف ما في الآخرة ، وأجل المقاصد معرفة الله ومعرفة الله ومحبته والأنس بقربه ، والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره .
وتأمل تولية النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص و خالد بن الوليد وغيرهما من أمرائه وعماله ، وترك تولية أبي ذر ، بل قال له : إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تؤمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم ، وأمره وغيره بالصيام ، وقال : عليك بالصوم ، فإنه لا عدل له ، وأمر آخر بأن لا يغضب ، وأمر ثالثاً بأن لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله . ومتى أراد الله بالعبد كمالاً وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعد له ، قابل له ، قد هيئ له ، فإذا استفرغ وسعه بز على غيره وفاق الناس فيه ، كما قيل :
ما زال يسبق حتى قال حاسده هذا طريق إلى العلياء مختصر
وهذا كالمريض الذي يشكو وجع البطن مثلاً ، إذا استعمل دواء ذلك الداء انتفع به ، وإذا استعمل دواء وجع الرأس لم يصادف داءه . فالشح المطاع مثلاً من المهلكات ولا يزيله صيام مائة عام ولا قيام ليلها . وكذلك داء اتباع الهوى والإعجاب بالنفس ، لا يلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراغ الوسع في العلم والذكر والزهد ، وإنما يزيله إخراجه من القلب بضده . ولو قيل أفضل : الخبز أو الماء ؟ لكان الجواب : أن هذا في موضعه أفضل ، وهذا في موضعه أفضل .
وإذا عرفت هذه القاعدة ، فالشكر ببذل الما عمل صالح يحصل للقلب حال ، وهو زوال البخل والشح بسبب خروج الدنيا منه ، فتهيء لمعرفة الله ومحبته . فهو دواء للداء الذي في القلب يمنعه من المقصود . وأما الفقير الزاهد فقد استراح من هذا الداء والدواء ، وتوفرت قوته على استفراغ الوسع في حصول المقصود .
ثم أوردوا على أنفسهم سؤالاً ، فقالوا : فإن قيل : فقد حث الشرع على الأعمال وانفصلوا عنه ، بأن قالوا الطبيب : إذا أثنى على الدواء لم يدل على أن الدواء يراد لعينه ، ولا أنه أفضل من الشفاء الحاصل به . ولكن الأعمال علاج لمرض القلوب ، ومرض القلوب مما لا يشعر به غالباً ، فوقع الحث على العمل المقصود ، وهو شفاء القلب . فالفقير الآخذ لصدقتك يستخرج منك داء البخل كالحجام يستخرج منك الدم المهلك .
قالوا : وإذا عرف هذا أن حال الصابر حال المحافظ على الصحة والقوة ، وحال الشاكر المتداوي بأنواع الأدوية لإزالة مواد السقم
""من الكتاب القيم لابن القيم ""عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين "
الروابط المفضلة