إحضار العقل في القراءة


يقول المحاسبي في واحدة من وصاياه الطيبة لنا :



عليك بإحضار عقلك فبذلك تفهم وتذكر ألم تسمعه عز وجل يقول ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق : 37].



قال مجاهد ﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ﴾ لا يحدث نفسه بغير ما يسمع ﴿وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ قال : شاهد القلب.



فإن سألت: فكيف أحضر عقلي حتى يكون شاهدا لا يغيب عن فهم كلام ربي جل وتعالى ؟



الجواب : بأن تجمع فهمك حتى لا يكون فهمك متفرقا في شيء غير طلب الفهم لكلام مولاك.



فإن سألت : وكيف أجمع همي حتى لا يتفرق في شيء سوى ذلك ؟

قلت : تمنع عقلك من النظر في شيء سوى طلب فهم كتاب ربك جل وتعالى .



قلت : بأن لا تشغل جوارحك بما لا يشتغل به عقلك وأن تستعمل كل جارحة بما يعينك على الفهم كنظرك في مصحف واستماعك إلى تلاوتك أو تلاوة غيرك ، وتمنع عقلك من فكر وذكر يقوى طلب فهم كلام مولاك؛ لأنك إذا لم تشغل جوارحك بشيء غير ذلك، ومنع عقلك عن النظر والفكر في غير ذلك اجتمع همك وحضر.



وإذا حضر عقلك زكا ذهنك ، وإذا زكا ذهنك قويت على طلب الفهم، واستبان فيه اليقين، وصفا فيه الذكر، وقوي فيه الفكر.



وبذلك مَدَح المستمعين لتلاوة كتابه بالفهم فقال عز و جل :﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ﴾ [الأحقاف : 29] أي: قالوا : صه ، أفلا نسمع الله عز و جل ؟



مدحهم بأن سكتوا عن الكلام لئلا يشتغلوا عن فهم ما يتلو نبيه عليه الصلاة والسلام عليهم ، قالوا هذا وهم لم يعلموا ما فيه وما هو ، ﴿ فَلَمَّا قُضِيَ ﴾ وفهموا عن الله عز و جل ما تلا عليهم نبيه عليه السلام ﴿ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ تحدثوا فقالوا: ﴿ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ﴾



وقالوا:﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ﴾ [الجن : 1 ، 2] ...الآيات .



لقد نطقوا بالحكم عن فهم بيِّن ، وعن عقول ذكية في استماع آيات في مقام واحد ، فدعوا إلى إجابة الله عز و جل وأمَّلوا المغفرة والنجاة من العذاب الأليم، وأخبروا أنه من أعرض عما تلا نبيه صلى الله عليه وسلم من كلام ربه عز و جل لا يعرف الله وأن مصيره إليه .



هذا الأدب والفهم من استماع آيات في مقام واحد في أقل من ساعة..

فكيف بمن وعى القرآن كله من صغره ، ويكرر تلاوته من صباه إلى كبره ، وعمر السنين الكثيرة ، لم يعقل عن ربه ولم يفهم كلام مولاه فيقوم بحقه.



انتبه!

لقد ذم مولانا عز و جل المتشاغلين عند استماعهم بالمحادثة فقال تعالى:﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ﴾ [الإسراء : 47].



فاحرص أن لا يكون فيك خلق ذم الله عز و جل به كافرا، وإن كنت مؤمنا ، فإن من كمال الإيمان مخالفة أهل الكفر بالقول والفعل فيما نهى الله عز و جل عنه.



بالاستماع والانصات تستجلب الرحمة:

ولقد وعد ربنا عز و جل بالرحمة ، وأمرنا أن نطلبها منه بالاستماع، والإنصات لفهم كلامه، فقال: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف : 204] ، فجعل الاستماع بترك الكلام لتفهم كلامه يوجب الرحمة.



معرفة قدر القرآن وقوة تأثيره:

والمحاسبي يلفت الانتباه إلى أن معرفة قدر القرآن وقوة تأثيره من شأنها أن تزيدنا انبهارا به وتقديرا له ، ومِن ثَمَّ التلهف عليه وقراءته بتدبر وتفهم فيقول – رحمه الله – :



لقد عظم الله عز وجل القرآن وسماه : برهانا ، ونورا ، ورحمة ، وموعظة ، ومجيدا ، وبصائر ، وهدى ، وفرقانا ، وشفاء لما في الصدور .. ليعظم قدره عند المؤمنين فيقبلوا عليه منبهرين ، ومقدرين ، ومتدبرين فينالوا به شفاء قلوبهم..



وأخبرنا كذلك عن قوة تأثره ليعظم قدره لدينا ، وأخبرنا أنه أحسن من أي حديث ، ومن كل قصص .



ثم أخبرنا عز وجل أنه قد انتهى في الحكمة فقال : ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ [القمر : 5].



وأخبر أنه لا مبدل لكلماته..



وأخبر أنه لا يفنى ولا ينفد :﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف : 109].



الأثر العظيم لمداومة قراءة القرآن بتدبر:

لا يعظم قدر كلام الله عندنا إلا بتكرار التلاق والدوام على تقصي العقل تقصي ذلك والتيقظ له حتى نفهم ما قال فينتبه العقل من غفلته ويشاهد علم الغيوب ببصيرته ، ويتوهم ..



فعند ذلك يعقل التالي عن ربه عز و جل..



وما أقبل عبد على الله جل وعز إلا أقبل الله عليه وأسرع إليه الإجابة فكذلك إذا أقبل على الله تعالى وذكره بطلب الفهم أسرع إليه بالإفهام له..



التحذير من ترك التدبر:

.. ومن الوسائل المحفزة لحُسن التعامل مع القرآن : تخويف النفس من مغبة ترك التدبر .. يقول المحاسبي :



فغدا نُقدِم على الله جل وعز فنلقاه، ويُسائلنا عن كتابه الذي أُنزل إلينا مخاطبا لنا به ، وكيف فهمنا عنه وكيف عملنا به، وهل أجْلَلْناه ورَهِبْناه، وهل قمنا بحقه الذي أمرنا به وجانبنا ما نهانا عنه ؟



قال عز وجل : ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون : 105]





فهم القرآن (0 / 318)



(منقول)