إرادة الملائكة للملائكة إرادةٌ مُحدّدّة و مَثَل هذه الإرادة المحدودة كمثَل الفرس الذي يُربط من عنقه إلى الشجرة فيمكنه أن يدور حولها كما يشاء و لكن في دائرة محدودة لا تتعدّى طول الحبل. و هكذا أيضًا الملائكة فإنّها تتحرّك حول مركز معيّن و لا تبتعد عن نطاقِ مُعيّن. و هذا الحدّ هو الذي تعنيه الآية
(التحريم: 7)
و هكذا نلمس إرادة الملائكة المحدودة فيما يتعلّق بالأرض و ما يحدث فيها بصورة واضحة في الآية
(البقرة: 31)
فقد وَجّهوا السؤال إلى الله تعالى للإستفسار عن الفساد الذي سيُحدِثُه الإنسان في الأرض و ما هو النّظام أو التدبير الذي سَيُتَّخَذُ لذلك, و توجيه السؤال يدُلّ على أنّ للملائكة قوّة إرادة في بعض المسائل المعيّنة لا تتعدّى صدورها, و هي في دائرة الفضيلة و لا تصلُ إلى الشرّ وحدوده.
هذا و إنّ سياق الآية يدلّ على أنّ موقف الملائكة كان موقف المستفسر لا المعترض و لكن رُبَّ قائلٍ يقول أنّ الملائكة ليست لهم إرادة مستقلّة و أنّ الله تعالى هو الذي ألهمهم أن يسألوه هذا السؤال و ثمّ فعلوا ذلك. و لكن هذا الفرض خطأ بدليل قوله تعالى في الآية التالية (.. إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ) أي إن كُنتم مُحقّين في هذا السؤال. و هذا يدُلُّ على أنّ سؤالهم لم يَكُن موزعًا من عند الله تعالى بل صادرٌ عن إرادتهم. و ثابتٌ أيضًا من الأحاديث أنّ للملائكة إرادة في بعض المسائل, فعن أبي سعيدٍ الخدري قال:"أَلا أُخبركم بما سمعته من فِيْ رسول الله صلىّ الله عليه و سلّم؟ سمعته أذُناي ووعاه قلبي.. إنّ عبدًا قتل تسعة و تسعين نفسًا ثمّ عرضت له التوبة فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجلٍ فأتاه. فقال: إنّني قتلتُ تسعةً و تسعين نفسًا فهل لي من توبة؟ قال: بعد تسعةٍ و تسعين نفسًا.. قال – أي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم- فانتضى سيفه فقتله فأكمل به المائة.
ثمّ عرضت له التوبة فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل فأتاه فقال: إنّني قتلتُ مئة نفسًا فهل لي من توبة؟ قال– أي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم- فقال (العالم ): ويحك و ما يحول بينك و بين التوبة؟ أُخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة كذا و كذا فاعبد ربَّك فيها. فخرج يريد القرية الصالحة فعرض له أجله في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب, قال إبليس: أنا أولى به لأنّه لم يعصني ساعةً قط. قال – أي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم- فقالت ملائكة الرحمة إنَّه خرج تائبًا." و في رواية أُخرى عن حميد الطويل عن بكر بن عبد الله عن ابن رافع, قال :"فبعث الله عزّ و جلّ ملَكًا فاختصموا إليه ثُمّ رجعوا. فقال – أي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم- أنظروا أي القريتين كانت أقرب فألحقوه بأهلها".
(سنن إبن ماجّه – كتاب الدّيَات- باب هل لقاتل مؤمنٍ توبة)
و يُستنتج من ذلك أنّ للملائكة قوّة إرادة. ثمّ أنّه يتّضح من الآية
(ص : 70)
أنّ الملائكة يتجادلون فيما بينهم في بعض المسائل و هذا لا يكون إلّا إذا كانت لهم قوّة إرادة و إنْ كانت محدودة جدًا.
علم الغيب يتّضح من القرآن المجيد أن ّالملائكة لا تعلم الغيب فقد جاء في سورة سبأ:
(ألاية 41-42)
فلو كان للملائكة عِلمٌ بالغيب لما أظهروا جهلهم بعبادة طائفةٍ من النّاس لهم. هذا و لا يُمكن أن يُقال أنَّ الله تبارك و تعالى وَجَّه إلى الملائكة هذا السؤال عبثًا أي دون أن يكون هناك من عبدوا الملائكة فعلًا, و إنّما وجّههُ عن حكمة و هو عزّ و جلّ مُنزّهٌ عن ذِكر شيءٍ غير حقيقيّ. ثم أنه يظهر من بعض الكتب السابقة أنّ بعض الناس كانوا يعبدون الملائكة فعلًا.
و من هذا نعلم أنّ بعض الملائكة الذين كانوا يُعبدون يُنكرون ذلك يوم الحساب لجهلهم بتلك العبادة. هذا و قد ورد في الأحاديث النبويّة ما يدلّ على أنّ الملائكة لا يعلمون الغيب, فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ رجلًا يُسمّى بأسماء المؤمنين و يفعل أفعال المؤمنين و لكن عندما يعرض الملائكة الكاتبون أعماله على الله تبارك وتعالى يأتي صوتٌ من السماء بأن يُرجعوه و يُعيدوا عملهُ إلى وجهه إذ أنّ صلاته لم تكُن لوجه الله سُبحانه و تعالى. و يتّضح من هذا أنّ الملائكة لم يُعطوا العِلم الحقيقيّ إذ لو كان عِندهم هذا العِلم لما رفعوا مِثل هذه الصلاة إلى الله تبارك و تعالى, و هي صلاةٌ ليست لوجهه و لا تستحقّ أن تُعرض عليه.
كلّ ملكٍ مُختصٌ بعملٍ مُعيّن و الحقيقة الثالثة عشر هي أنّ لكُلّ شيءٍ ملَكًا خاصًّا موكلٌ به, و يتّضح من ذلك مِمّا رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها بأنّها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم : "هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من أُحُد؟" قال صلى الله عليه وسلم :"لَقِيتُ مِن قومكِ ما لقيتُ و كان أشدّ ما لقيتُ مِنهُم يوم العَقبة إذ عرَضْتُ نفسي على ابن عبد كُلال فلم يُجِبْني إلى ما أردتُ فانطلقت و أنا مهمومٌ على وجهي فلم أستفق إلّا و أنا بقَرْنِ الثعالب فرفعتُ رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال إنّ الله قد سمع قول قومك و ما رَدُّوا عليك و قد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمر بما شِئت فيهم. فناداني ملَك الجبال فسلّم عليّ ثُمّ قال: يا محمّد ثم ّقال ذلك, فيما شِئت؟ إن شِئت أُطْبِقُ عليهم الأخشبين. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده و لا يُشرك به شيئًا".
(البخاري- كتاب بَدْءِ الخلق, و مُسلم- كتاب الجهاد و السير – باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين)
و ظاهرٌ من هذا الحديث أنّ ملَك الجبال مُوكّل بعملٍ مُعيّن و إلّا لَعَرضَ جبريل نفسه على الرسول صلى الله عليه وسلم ليتولّى تنفيذ ما يريده صلى الله عليه وسلم. و نلخص من ذلك إلى أنّ كلّ شيء مستقل على حِدى و له ملَكٌ موكل به.
إختلاف الملائكة باختلاف المظاهر و الصفات ذكرنا فيما سبق أنّ الملائكة تظهِر مختلف الصفات الإلهيّة فمن الملائكة من يكونون مظهرًا لطاقة واحدة والآخرين لأكثر من طاقة حيث قيل:
(الآية - 2)
و يؤُخذ من هذه الآية أنّ الملائكة غير متساويين من حيث القوى و القدرات و إِنّما زُوِّدوا باستعداد المناسب من حيث نوع العمل الموكلين به و حسب حاجة الوقت, و أنَّهم يُرسلون للنّاس تِبعًا لظروفهم و استعدادهم. و عندما بلغت الدنيا أعلى درجاتها في زمن الرسّول صلى الله عليه وسلم أُرسل جيربل في صورته الكاملة التي جاء وصفها في الحديث بأنّ له ستمائة جناح (راجع أحاديث الإسراء و المعراج) و هو ما يُشير إلى أنّ جبريل عليه السلام مظهرٌ لستمائة صفة من صفات ربّ العالمين.
هذا و من الخطأ أن نقول أن ّصفات الله تعالى أقلّ من ستمائة و من ثُمّ كيف يصحّ أن يكون جبريل عليه السلام مظهرًا لعدد أكثر من الصفات. و الردّ على مثل هذا التصوّر الخطأ هو أنّ صفات الله تعالى هي في الحقيقة لا تُحصى و لا تُعدّ و لكن منها ستمائة فقط هي التي للإنسان علاقة بها أو هي التي لها تأثير على الإنسان و لذا جاء جبريل عليه السلام بمظهر هذه الصفات. و نشير بهذه المناسبة إلى أنّ للمسيح الموعود عليه السلام في هذه المسألة قولًا بالغ الدّقة و هو أنّ علم القرآن الكريم قد أُعطيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بِقدْرٍ أكثر مِمّا أُعطيَ لجبريل عليه السلام نفسه. و هذا حقّ لأنّ جبريل عليه السلام لم يكُن بمفرده بل كان هناك ملائكة آخرون في تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم و لهم صفات أو أجنحة أُخرى كما ذكرنا آنفًا.
الروابط المفضلة