سؤال سألته تلميذة للشيخ عبد الرحمان خليف (رحمه الله )كان طرحه عليها استاذ فلسفة مرتد فكانت هذه الاجابة الرائعة للشيخ :


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، فقد اتصلت برسالتك التي تعبّر عن شدة حيرتك بخصوص السؤال الذي طرحه أستاذ الفلسفة قائلا: (من يجيبني عن هذا السؤال أدخل معه في الإسلام، ووعد الحر دين... ). ثم قال: (تقولون إنّ الله عادل، فكيف يخلق إنسانا ضريرا محروما من رؤية الضوء، وإنسانا متمتّعا بالنظر!؟)

أيتها الفتاة المؤمنة، إن سؤال الأستاذ مبني على مغالطة مضحكة ومحزنة:

1) أما كونها مضحكة فلأن حضرته قد خلط بين الهبة والعدل، وبيان هذا هو أن جميع العقلاء يعلمون أن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه.

إذا عرفنا معنى العدل فنسأل الأستاذ الفاضل: هل للأعمى حق ثابت قبل أن يخلقه الله حتى يطالب به؟ وهل لغير الأعمى حق على الله قبل أن يخلقه؟

إن كل نعمة يتمتع بها المخلوق ما هي إلا هبة من الخالق، وكل واهب لشيء ما هو إلا مخير بين أن يهب أو لا يهب، أفلا ترين أننا لو شاهدنا قاضيا خرج من قاعة المحكمة فوجد في الطريق ثلاثة أشخاص، فأعطى لواحد دينارا هبة منه وأعطى للثاني نصف دينار، ولم يعط للثالث أي شيء، فهل نصف هذا القاضي بأنه غير عادل؟

إننا نخطئ خطأ واضحا إذا وصفناه بأنه غير عادل، مادام يتصرف في مواهبه بالعطاء والحرمان وهو في ذلك مخير كما يشاء.

فتبين أن هناك فرقا واضحا بين الهبة والعدل والحس السليم لا ينكر هذه الحقيقة إلا من طريق المكابرة والعناد.

ولو قلنا أن الخالق سبحانه يجب أن يُسوّي بين المخلوقات على الصورة التي توهمها حضرة الأستاذ الفاضل، لكان من حق الحمار أن يقول لماذا لم تخلقني فيلسوفا، وأتولى التدريس في المعاهد؟ ولكان من القرد أن يقول لماذا لم تخلقني غزالا؟ ولكان من حق الفأر أن يقول لماذا لم تخلقني فيلا؟ ...الخ

وهكذا يصبح كل ذي مرتبة دنيا محتجا بأن ( من حقه ) أن يكون في المرتبة العليا.

ولما كانت عطايا الله ومواهبه لا يستحقها أحد من أجل أي شيء قدمه قبل أن يخلقه الله على الوضع الذي اختاره له. لما كانت عطاياه كذلك تبين أن الخالق هو فيها بالخيار التام.

إن من الناس من خلق بصيرا، ومن الناس من خلق أعمى ولا بد أن نسلم بأن كل ذلك لحكمة إلهية.

ولماذا نسلم بحكمة خالق الكون؟

لأننا رأينا حكمته واضحة عند أدنى تأمل، وإنها لحِكَم لا تكاد تحصى، فالأرض مثلا تبعد عن الشمس بمائة وخمسين مليون كيلومتر في المعدل، فلو ابتعدت عن الشمس أكثر من هذا القدر لتجمد كل ما فيها، ولو اقتربت من الشمس أكثر لاحترق كل ما فيها، فهل كان مدارها في هذا الفلك المحدود من طريق الصدفة أو من الحكمة البالغة؟

وهكذا نرى حكمة الله منبثة في كل ما أوجد، أنظري مثلا إلى بصمات أصابع الإنسان، وكيف تنوعت إلى عشرين شكلا في الشخص الواحد، حتى لا تلتبس أية شخصية بأخرى ابتداء من آدم إلى آخر فرد من ذريته. فهل كان هذا التنويع العجيب صدفة؟ أو أن الطبيعة ذكية إلى هذا الحد؟ أو أن ذلك صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه؟

ونسأل أنفسنا: لماذا كانت عيون الإنسان في رأسه، لماذا لم تكن في منكبه أو بطنه أو ظهره أو ركبتيه أو في يديه؟ وبنفس هذه الطريقة نتساءل عن اللسان والأسنان والآذان ...الخ

ولو ذهبنا إلى استقصاء عجائب صنع الخالق لتبيّنت لنا حقائق عجيبة يتألم كل ذي عقل من غفلته من ملاحظتها وعدم انتباهه إليها.

ولما كانت حكم الله يدرك المرء بعضها بالتأمل وجب أن نسلم أن من خلقه أعمى لابد أن يكون لحكمة، ومن الخطإ أن نجزم بأن الحكمة في عمى المعري هي نفس الحكمة في عمى طه حسين، فقد يكون الشخصان متصفين بصفة واحدة مع تنوع الحكم بشأنهما.

ويمكن أن ندرك ـ بصفة عامة ـ أن الشخص الأعمى جعله الله عبرة للأصحاء ليدركوا الفضل العظيم الذي وهبه الله لهم دون أن كان لهم حق في ذلك فينتبهوا إلى شكره، وتقدير فضله عليهم.

ثم إن الحياة ـ وإن طالت بالإنسان ـ ما هي إلا مرحلة من مراحل الوجود، وسينتقل الأعمى والبصير عنها إلى حياة أخرى دائمة، وما حياة الإنسان في هذه الدنيا بالنسبة إلى الحياة الدائمة إلا كنقطة في المحيط، ومثل الأعمى والبصير في هذه الدنيا كمثل شخصين جلس أحدهما على أريكة ذات حشايا أنيقة، وجلس الثاني على كرسي خشبي مجرد من الحشايا وبعد جلوسهما فترة محددة لا بد أن يتركا الكرسيين، فالبصير بمنزلة الجالس على الأريكة والأعمى بمنزلة الجالس على الكرسي الخشبي، ثم لابد أن يتحولا لملاقاة أعمالهما، وعندئذ يجازي الله كلا منهما على أعماله جزاءا وفاقا بالقسط والعدل.

إن هذا القضاء بين المخلوقات مع جزاء كل على عمله هو ميدان العدل الذي هو إعطاء كل ذي حق حقه.

ولا شك أن الله سيتكرم على الأعمى عندئذ تكرما يليق بالفضل الإلهي العظيم، جزاء له على صبره على عاهته التي اقتضتها الحكمة الإلهية حيث جعله الله عبرة لغيره، على أن الحكمة لا بد أن تختلف بحسب الأشخاص، فبعضها ندركه، وبعضها قد لا ندركه.

2) وأما كون المغالطة محزنة فلأن حضرة الأستاذ ما توجه بهذا السؤال ـ فيما يبدو ـ إلا بقصد زعزعة العقيدة في نفوس أبنائنا لا قدر الله وإن مثل هذه المشاغبات خطرها أشد من الموت مع أنها بمنأى عن الصواب، وما هي إلا من المغالطات كما تبيّن لك ذلك في العرض السابق.

أسأل الله أن يهديه سواء السبيل، وأن يوفقه للتأمل والتبصر في كل قضية، حتى لا يتسرع وينساق مع النظر السطحي، وكان من المفروض في أمثاله أن يكون من رجال التأمل الرصين، لا أن يردد ما سمعه أو قرأه لأناس سطحيين ولو كان يعتبرهم من كبار الفلاسفة.

أما قوله من يجيبني أدخل معه في الإسلام، فهذا اعتراف منه بأن الرجل مرتدّ، والرّدة شأنها خطير، فأرجوك عرض هذا الجواب عليه لعله يعود إلى الإسلام بالمتاب، والله يقبل التوبة عن عباده. إنّ هذا ما نرجو الله أن يهديه إليه.

وأما أنت فإني أحمد الله على أن ثبتك على الدين الحق وأسأله تعالى أن يزيدك ثباتا وتوفيقا.

ثم إني لأرجو أن تصوري هذا الجواب وتوزعيه على أكبر عدد ممكن من زملائك، فإن الله يثيبك ثواب من ساعد على توضيح هذه الحقيقة، والحمد لله رب العالمين.