القضاء والقدر


يفكر الإنسان ويتساءل بينه وبين نفسه في أمور غاية في الحساسية .. فيصبح كالقابض على جمرة إن تركها فقدها وإن ظل ممسكاً بها أحرقته .. كذلك هي تلك الأسئلة الدقيقة في أمور القضاء القدر ومدى تدخلها في الإحسان والإساءة، السعادة والشقاء .. فإن أوقن بتدخلها تساءل كيف يقدر الله لنا الشقاء والانغماس بالذنوب والمعاصي ثم يعذبنا؟ فينتهي به الأمر إلى اتهام الله بالظلم (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) .

وفي هذا المقام اخترت أن أوجز لكم المنهج الصحيح في القضاء والقدر تاركاً مناهج الزيغ والضلال حتى لا يختلط الأمر علينا خاصة وأن مسألة القضاء والقدر كتبت فيها مجلدات .. لنفرد ما اعتقد به من هدى الله بفضله من ورثة أنبيائه .



1. الله يعلم مسبقاً بما نحن عاملون وما ينتهي إليه أمرنا وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ عنده قبل أن يخلق السموات والأرض ولكن لا تتدخل القدرة الإلهية في مسألة اختيار الإحسان والخطأ ..

ودعوني أوضح لكم هذه النقطة بهذا المثال من حياتنا العملية (ولله المثل الأعلى) .. لنفترض أن مدرس يدرس طلاب سنة كاملة فإن معايشته لهم تجعل من اليسير عليه أن يعرف أن زيد سينجح وعبيد سيرسب .. وعلمه هذا لا يقتضي بالضرورة أن يقوم بترسيب عبيد فهو راسب لا محالة من جراء إهماله طيلة العام ولن يسعى لإنجاح زيد فهو ناجح لا محالة .. فإن ساعد عبيد بإعطائه دروس إضافية فذلك من فضله وإحسانه وإن لم يفعل فلن يلام في ذلك .



2. أن الله عز وجل قد تنزه عن الشر ولن يدعو إلى النار (فالله يدعو إلى دار السلام والمغفرة بإذنه).. وقد خلق الله البشر بفطر سليمة ليس لها أي خيار بالشر قال تعالى : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) .. وترك لهم بعد ذلك حرية الاختيار بعد أن أعطاهم العقل وقوة التمييز بين الخير والشر ، وهذا مناط التكليف فمن يفقد العقل أو التمييز يُرفع عنه القلم . قال صلى الله عليه وسلم : (رفع القلم عن ثلاث : النائم حتى يستيقظ والصغير حتى يكبر والمجنون حتى يفيق ومن في حكمهم) .



3. لن يعذب الله أحد إلا بعد أن تقام عليه الحجة بأن يبعث رسول قال تعالى : {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وفي آية أخرى : {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقد بين تعالى ما يحدث بعد النشور : {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألمْ يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزّل الله من شيءٍ إن أنتم إلا في ظلالٍ كبير} .



4. إن الله لن يجبر الناس على الإحسان لأنه ذلك منافياً للحكمة التي اتصف بها .. فمثلاً (ولله المثل الأعلى) لو أنك أجبرت أحداً أن يفعل شيئاً طيباً ثم كافأته على ذلك ولم يفعله عن طيب خاطر فقد جانبت الحكمة ، ولن يجبر الناس على الخطيئة ويعذبهم لأن ذلك منافياً لصفة العدل التي اتصف بها، ولكن الله ييسر لك طرق الهداية وفي المقابل توجد طرقاً للغواية كالنفس والشيطان ولك كامل الاختيار بين الطريقين وطالما أنه يسر لك الطريقين فإن الهداية والإضلال اندرجت ضمن مشيئته وهذا ما يقصد بعدم خروج شيء عن مشيئته .