هل ترضى بالأختلاط

الحمد لله الهادي الى الخير والرشاد، وافضل صلواته على رسوله المصطفى وآله الامجاد.
اخوتنا واعزتنا المؤمنين... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً بكم، حديثها يدور حول العزلة والاختلاط، كمفهومين اجتماعيين، ولكل مجتمع ظروفه وحالاته، كذا لكل اسرة او فرد تربيته واحواله، من خلالها يتبنى المرء احياناً موقفاً اجتماعياً، فيختار الاختلاط بالمجتمع والاندماج معه، او يختار العزلة منشغلاً ببعض شؤونه ومهامه... وللاسلام موقفه الخاص، اذ يتبني الجوانب الايجابية لكل حالة في ظرف خاص، ويحذر من سلبياتها.
لنأتي ايها - الاخوة الاكارم- اولاً الى اهل العزلة، فنراهم يصححون موقفهم مستدلين بآيات واحاديث، ان العزلة من علامات الوصلة بالله والانس به، والوحشة من الناس وملهياتهم، ودواعي الشر فيهم... جاء في القرآن الكريم على لسان ابراهيم الخليل عليه السلام قوله: «واعتزلكم وما تدعون من دون الله» (سوره مريم: 48) ثم قال تعالى: «فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له اسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً» (مريم: 49)، ولعل الآيتين تشيران ان لافائدة من مخالطة الكافرين الا بمقدار دعوتهم الى حقائق الدين ويؤكد ذلك قول موسى عليه السلام: «وان لم تؤمنوا لي فاعتزلون» (الدخان:21) فانه عليه السلام فزع الى العزلة بعد الياس منهم. وفي اهل الكهف جاء قوله تعالى: «واذ اعتزلتموهم وما يعبدون الا الله فأوا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من امركم مرفقاً» (سورة الكهف: 16).
وقد اعتزل رسول الله صلى الله عليه وآله ودخل في شعب ابي طالب هو والمسلمون الاوائل مبتعداً عن قريش واذاها.
وجاءت العزلة ممدوحةً في اقتطاع فرص العمر للطاعات والعبادات، او للابتعاد عن مفاسد المجتمع اذا طغت وعجز المؤمنون عن انكارها باليد واللسان، وممدوحةً في اكتساب حالة النومة التي يراد بها الابتعاد عن اضواء الشهرة واسمعة والرياء، ودواعي الغرور والعجب والتسابق على حطام الدنيا ونسيان الآخرة والغفلة عن التكاليف الشرعية، وترك الخوض مع الناس في شرورهم وانحرافاتهم، ومن هنا جاء عن امير المؤمنين علي (عليه السلام) قوله: العزلة افضل شيم الاكياس (اي العقلاء) وقوله: «في اعتزال ابناء الدنيا (اي طلابها وحبابوها) جماع الصلاح».
ولعل في العزلة القلبية عن التعلق بالناس والعزلة النسبية عن المجتمع فوائد كثيرةً منها: التخلص من الذنوب والمهلكات والاخلاق الذميمة كالحسد والغيبة والرياء والكذب والبذاء وغيرها من المآثم، اذا كان الغالب على الناس الشر والفساد، فالامام علي (عليه السلام) يقول: «لا سلامة لمن اكثر مخالطة الناس» ويقول: «سلامة الذين في اعتزال الناس. من اعتزل الناس سلم من شرهم»... ثم في العزلة - أيها الاخوة الافاضل- فرصة لاداء العبادات، وللتفكر والتدبر ومحاسبة النفس واصلاحها، بعيداً عن دوامة الاختلاط بالمجتمع... حتى جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: «العزلة عبادة»، وعن الامام علي سلام الله عليه قوله: «الوصلة‌ بالله في الانقطاع عن الناس».
كذلك ايها الاخوة الاحبة لاهل الاختلاط دلائلهم على تصحيح موقفهم، فهم يستدلون على ضرورة الاختلاط الاخوي بقوله تعالى: «اذ كنتم اعداءً فالف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا» (آل عمران: 103) وقوله تعالى: «والف بين قلوبهم لو انفقت ما في الارض جميعاً ما الفت بين قلوبهم ولكن الله الف بينهم» (الانفال: 63) فامتن الله جل وعلا على عباده ان الف بينهم وقيل: المراد هناك بالتأليف هو نزع الغوائل والاحقاد من الصدور.
وقد احتج هولاء بأن النبي الاكرم )صلى الله عليه وآله وسلم( قال: «المؤمن الف مألوف، ولا خير فمن لايألف، ولا يؤلف!».. وانه صلى الله عليه وآله قال: «من فارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهلية!» اجل، اذ لابد للمؤمن ان يتضامن مع اخوانه المؤمنين في بعض الظروف والمواقف، ويتوحد الى صفوفهم، بل ويندمج معهم في العبادات كصلاة الجمعة والجماعة ومناسك الحج .. ثم كيف هو يتعلم المعارف ويعلمها، ويهتدي بالنصائح ويرشد بها، ويقضي حوائج اخوانه ويقضون حوائجه، ويرعى حقوق الناس والجواب والاخوان في التزاور وعيادة المرضى، وصلة الارحام والاصدقاء وتشييع الجنائز واصلاح ذات البين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر... اذا ثم يدخل في غمار المجتمع؟! اذ لا يتم النفع والانتفاع، ولا التأدب والتأديب ولا الايناس والاستئناس، ولا نيل الثواب وانالته، ولا اكتساب التجارب والمقامات الا من خلال المعاشرات والمخالطات ... التي ينبغي ان يراعى فيها الثوابت الشرعية والمحاذير العقلية، ‌فلا ينسى المرء انه عبد لله تعالى، فلا يتلف نفسه ووقته وحياته كلها مع الناس وينسى عبادته وشؤون اسرته، ومهامه الخاصة، ومشاريعه الشخصية.
وختاماً - ايها الاخوه الافاضل- لكل ظروفه، ولكل من العزلة والمخالطة فوائدهما واضرارهما، فالعاقل من اجتنى العوائد الطيبة واخذ لنفسه حظه منها، وتجنب كل ما يجر عليه وعلى ذويه سوءاً، فلله تبارك و تعالى علينا حق، وللازواج حق، وللعيال حق، ثم النفوس حق، فلابد من اعطاء كل ذي حق حقه، لا افراط ولا تفريط، ولا ضرر ولاضرار... فالمعاشرة المطلوبة‌ما امر الله عزوجل بها اداءً للتكاليف واصابة للحسنات وتطييباً لأجواء العائلة والمجتمع من خلال الصلات الطيبة وتبادل الخيرات كذا العزلة المطلوبة ما امر الله جل وعلا للتفرغ الى طاعته واكتساب المعارف وانجاز المهام والابتعاد عن المساوئ والرذائل.
واخيراً: مع هاتين الروايتين: قال الامام الحسن المجتبي صلوات الله عليه: «اصحب من اذا صحبته زانك، واذا خدمته صانك واذا اردت منه معونة اعانك، واذا قلت صدق قولك، واذا صلت شد صولك وان مددت يدك بفضل مدها، وان بدت عنك ثلمه سدها...» وسأل الحواريون عيسي ابن مريم (عليهما السلام): يا روح الله، من نجالس؟ فقال: «من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله»</SPAN>.
الراوي: لما رأي ابن ميثم البحراني العالم الفاضل ان اهل زمانه لا يقدرون العلم ويفضلون عليه المال ومظاهر الدنيا، اخذ بشيء من العزلة، فكتب اليه اهل العراق: علماء العراق:
شخص: العجب منك يا ابن ميثم، انك مع شدة مهارتك في جميع المعارف والعلوم قاطن في ظلوع الاعتزال، ومخيم في زواية موجبة لخمود نار الكمال!
الراوي: فكتب اليهم في جوابهم:
الراوي:

طلبت فنون العلم ابغي بها العلى
فقصر بي عما سموت به القل
تبين لي ان المحاسن كلها
فروع ... وان المال فيها هو الاصل
الراوي: وكان ابن ميثم يذم اهل زمانه بهذا اذ تقييمهم اصبح ميزانه المال، فكتب علماء ‌العراق اليه يعاتبونه:
شخص: اخطأت في ذلك- يا ابن ميثم- خطاً ظاهراً، وحكمك بأصالة المال عجب بل اقبل تصب.
الراوي: فكتب ابن ميثم هذه الابيات وهي لاحد الشعراء‌ المتقدمين:

قد قال قوم على قديم
ما المرء الا باكبريه
فقلت قوله امري حكيم
ما المرء الا بدرهميه
من لم يكن درهم لديه
لم تلتفت عرسه اليه
الراوي: وهو بذلك يحكي حالة المجتمع يومذاك، ولكنه رأي أن المراسلات معهم غير مقنعة، فذهب الى العراق بلباس خشنة وهيئة رثة ودخل بعض المدارس المشحونة بالعلماء‌ فسلم عليهم فجاء الرد ضعيفاً اذ لم يعرفوه واثناء المباحثه وقعت بينهم مسألة صعبة كلت فيها افها مهم، فأجاب عنها بتسعة اجوبة في غاية ‌الدقة‌ حتى اذا احضر الطعام لم يواكلوه بل افردوه بشء قليل على حدة. ثم عاد اليوم الثاني وقد لبس ملابس فاخرة بهيةً، فقاموا له تعظيماً، واستقبلوه تكريماً ووقروه واجلسوه في صدر المجلس مع الافاضل والاكابر، فلما شرعوا في المذاكرة تكلم معهم بكلمات عليلة لا وجه لها من العقل او الشرع، فلم يسمع الا كلمات التحسين والاذعان، والتعظيم... فلما حضرت مائدة الطعام قدم بانواع الادب، فالقى ‌الشيخ ابن ميثم البحراني عن كمه (اواخر ردن جبته) في ذلك الطعام وهو يقول:
البحراني: كلي يا كمي.. كلي يا كمي
البحراني: لقد اتيتم بهذه الاطعمة النفيسة لاجل اكمامي الواسعة، لا لنفسي اللامعة! والا فانا صاحبكم بالامس، ما رايت منكم تكريماً وتعظيماً‌ عندما جئتكم بهيئة الفقراء، وبعلم العلماء، واليوم جئتكم بلباس المترفين، وتحدثت بكلام الجاهلين، فرجحتم الجهل على العلم، والغنى على الفقر، وانا صاحب الابيات في اصالة المال عند الناس وقد قابلتموها بالتخطئة اليس كذلك؟!
الراوي: فاعترفوا بخطأهم، واعتذروا عن تقصيرهم معه، وادركوا ان اغلب الناس لايقدرون الا المظهر الخارجي، فالاولى اعتزالهم الا في الضرورات.