حجة الوداع:
عمراته: اعتمر خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا عمرته التي مع حجته. عمرة زمن الحديبية وعمرة من العام المقبل وعمرته من الجعرانة حين قسم غنائم حنين.
الأذان بالحج: وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج. فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا، ثم صلى العصر بذي الحليفة وهو العقيق ركعتين. وقد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسائه ثم أصبح محرما وقد طيبته عائشة رضي الله عنها عند إحرامه. ثم انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته حتى إذا استوى على البيداء أهّل هو وأصحابه بالحج وذلك لخمس بقين من ذي القعدة . فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر.
إهلاله صلى الله عليه وسلم: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به. وقد جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية والإهلال. حتى إذا كانوا بسرف أو قريبا منا حاضت عائشة فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال لها: إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج غير ان لا تطوفي حتى تغتسلي.
دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام: فأتى صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء. فطافرسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت مضطبعا وعليه برد ورمل ثلاثا ومشى أربعا وكان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فجعل المقام بينه وبين البيت وكان يقرأ في الركعتين {قل يأيها الكافرون} و {قل هو الله أحد}، ثم رجع إلى الركن فاستلمه.
خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الصفا والمروة: ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ثم نزل إلى المروة حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي سعى وكان إزاره يدور به من شدة السعي وهو يقول لأصحابه: اسعوا إن الله كتب عليكم السعي، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
ولم يحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل بدنه لأنه قلدها وأمر الناس أن يجعلوها عمرة وأن يحلوها إلى نسائهم.ففشت في ذلك القالة. فقال جابر: فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقام خطيبا فقال: بلغني أن أقواما يقولون كذا وكذا والله إني لأبرأ وأتقي لله منهم، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت. فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ومن كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة. فأحل الناس بعدما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم. ولم يحل الرسول صلى الله عليه وسلم من عمرته وقال: إني لبّدت رأسي وقلّدت هديي فلا أحل حتى أنحر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل بأعلى مكة ثم الجحون وهو مهل بالحج ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة بالبطحاء الظهر ركعتين والعصر ركعتين. فلما كان يوم التروية أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أحلّ أن يحرم إذا توجه إلى منى فأهلوا من الأبطح ثم توجهوا إلى منى.
وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفة: ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، ثم سار من منى إلى عرفات فكان يهل المهل منهم فلا ينكر عليه ويكبر المكبر منهم فلا ينكر عليه. وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة. حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتي بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ووصى صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا ، وأشهد الناس أن بلغهم وأدى ونصح. ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا. وقال خير الدعاء دعاء يوم عرفة. ثم سأل عن الحج بعرفة قال الحج عرفة ومن أدرك ليلة جمع قبل صلاة فقد تم حجه وأيام منى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه. وشك الناس في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه زوجه ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها بحلاب اللبن وهو واقف في الموقف على بعيره فشرب منه والناس ينظرون إليه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص .
نزوله مزدلفة: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى مزدلفة فنزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلى. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ثم اضطجع حتى طلع الفجر. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر حتى تبين له الصبح بإذان وإقامة.
إتيانه المشعر الحرام: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده وقال: وقفت ههنا بجمع وجمع كلها موقف. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه غداة مزدلفة: هلم القط لي. فلقط له عبد الله حصيات من حصى الحذف فلما وضعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين، فإنه هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين.
رمي الجمرات: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير سيرا لينا كيسره بالأمس حتى أتى على وادي محسر فدفع فيه حتى استوت به الأرض ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجميرة الكبرى. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، وخلفه الفضل بن العباس يستره وهو على راحلته ، حتى رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ولم يقف يكبر مع كل حصاة منها.
يوم النحر: وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم النحر بمنى على ناقته واضع رجليه في الغرز يتطاول يسمع الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا كثيرا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنحر فنحر بيده ثلاثا وستين بدنة بعدد سني عمره، وقال: نحرت ههنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا أن يقوم على بدنه وأمره أن يقسم بدنه كلها لحومها وجلودها وجلالها في المساكين، وان لا يعطي الجزار منها. ثم حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. ثم طيبت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحل فركب فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم زمزم وشرب منه.
الرجوع إلى منى أيام التشريق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمى الثالثة ولا يقف عندها. وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بمنى ونزلهم منازلهم وعلمهم مناسكهم وقال صلى الله عليه وسلم إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، رجب. وقال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم فلا ترجعن بعدي كفار يضرب بعضكم رقاب بعض. إنما هن أربع لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تزنوا.
وداع رسول الله صلى الله عليه وسلم: وودع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: هذا يوم الحج الأكبر. فقالوا: هذه حجة الوداع. ثم نفر النبي صلى الله عليه وسلم من منى ونزل بالمحصب ليكون أسمح لخروجه وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء. فلما كانت ليلة الحصبة قالت عائشة: يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن ابي بكر فأردفها على جمله ، فاعتمرت عائشة. ثم ركب صلى الله عليه وسلم إلى البيت فطاف به وأمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض, وطاف النبي صلى الله عليه وسلم طواف الوداع حول الكعبة على بعيره ويستلم الركن بمحجن معه.
عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة:
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة من الثنية السفلى وكان قد دخلها من الثنية العليا وحمل من ماء زمزم. وقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجه وكان يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير خم قال: أتعلمون أني أول بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فإن عليا مولاه، اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه
مرضه صلى الله عليه وسلم ووفاته: وألقى خير الأنام صلى الله عليه وسلم عصى الترحال بعد قدومه من حج بيت الله الحرام ليلقى في آخر الليالي والأيام سكرات الموت. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما. وكان جبريل يعارضه بالقرآن كل عام وأنه عارضه به في العام الذي قبض فيه مرتين. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض لأصحابه بدنوا أجله المحتم إذ جلس ذات يوم على المنبر فقال: إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده. فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فعجب الناس له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:يا أبا بكر لا تبك إن أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر. ولم يقتصر وداع خير البشر لمن حضر بل شمل وداعه من مات وغبر. فلما كانت ليلة أم المؤمنين عائشة فلم يلبث إلا يثما ظن أنها قد رقدت فتح الباب وخرج. فانطلقت السيدة عائشة على أثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات. وقد كان جبريل قد أتى للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له:إن الله يأمرك أن تأتي أهل البقيع فيستغفر لهم.
اشتداد المرض عليه صلى الله عليه وسلم: اشتد الوجع على النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى بالناس صلاة المغرب آخر صلاة في الناس. فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن زوجاته أن يكون في بيت عائشة حتى مات عندها. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما دخل بيت عائشة واشتد وجعه: هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس. وكان يقول في مرضه الذي مات فيه لعائشة: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيده فلما اشتكى وجعه الذي توفى فيه طفقت عائشة رضي الله عنها تنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث وتمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفى فيه بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد .وقد مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من الأنصار وهم يبكون فقال العباس ما يبكيكم.؟ قالوا ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا. فدخل العباس على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس وعليه ملحفه متعطفا بها على منكبيه وعليه عصابة دسماء حتى جلس على المنبر وخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام فأوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي. فكان آخر مجلس جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصلى بهم.
وأوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثانية. ولما نزل النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي لم يقم منه: طفق يطرح خميصه له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو كذلك يقول: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم عنده، فلم يغادر منهن امرأة فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبا بابنتي فأجلسها عن يمينه أو شماله ثم أسر إليها حديثا فبكت بكاءا شديدا فلما رأى حزنها سارها بالثانية فإذا هي تضحك. الأولى أنه قد حضر أجله، وأنها أول أهلها لحوقا به فبكت . والثانية قال لها: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين فضحكت.
وجاء بلال يؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقال: مروا أبو بكر فليصل بالناس. فقال أبو بكر: يا عمر صل بالناس. فقال عمر: أنت أحق بذلك. فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفه فخرج بين رجلين العباس وعلي لصلاة الظهر من يوم الخميس وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر. فأومأ إليه النبي أن لا يتأخر وقال لهما: اجلساني إلى جنبه.
فبينما المسلمون وهم في صلاة الفجر من الاثنين وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجر عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك. وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بيده: أن أتموا صلاتك. فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله على ما رأى من حسن حالهم ورجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم. وكانت عامة وصيته صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه.
قالت عائشة رضي الله عنها: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري, وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. دخل علي عبدالرحمن بن أبي بكر وبيده سواك رطب يستن به فرأيته وعرفت أنه يحب السواك فأخذته منه فقضمته ونفضته وطيبته فلينته ثم دفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به. وبين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ركوة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات. فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه وكانت نساؤه تعوذه بدعاء إذا مرض فذهبت عائشة تعوذه. فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم شخص بصره نحو سقف البيت ورفع يده إلى السماء ثم قال في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى. وسمعته وأصغيت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلي ظهره يقول: اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى. ثم قبض ومالت يده.
ولما فاضت الروح الزكية من جسد خير البرية عليه أفضل صلاة وأزكى تحية استأذن عمر بن الخطاب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما عائشة فأذنت لهما وجذبت إليها الحجاب. ثم أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة فرفعت عائشة رضي الله عنها الحجاب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة .ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا.
ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المسجد وعمر بن الخطاب يخطب الناس ويتكلم ويقول: إن رسول اله صلى الله عليه وسلم لم يمت ولكن ربه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى فمكث عن قومه أبعين ليلة والله إني لأرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات. فقال أبو بكر: أيها الحالف، على رسلك، اجلس يا عمر. فأبى أن يجلس فأقبل الناس إلى أبو بكر وتركوا عمر فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه، ثم قال: فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. فشج الناس يبكون.
بيعة أبو بكر رضي الله عنه: وجلس عمر بن الخطاب على المنبر الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر رضي الله عنه صامت لا يتكلم، فقال عمر: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبرنا فإن يك محمد صلى الله عليه وسلم قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به بما هدى الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين وهو ذو شيبة المسلمين فإنه أولى المسلمين بأموركم. ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤم بالناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر. فقال عمر: فقوموا فبايعوه ، وقال لأبي بكر:اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر. فقال عمر: نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذ عمر يده فبايعه وبايعه الناس.
غسله صلى الله عليه وسلم وكفنه: فلما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري أنجرد النبي صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه. وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أبواب يمانية بيض ليس فيها قميص أو عمامة.
واختلف المسلمون في المكان الذي يحفر له، فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه. فقال أبو بكر: ادفنوه في فراشه. ثم اختلفوا في اللحد والشق فهدى الله العباس إلى أن يرسل رجلين، رجل إلى أبي عبيدة وكان يضرح كضريح أهل مكة، ورجل إلى أبي طلحة وكان يحفر لأهل المدينة فمان يلحد ثم قال العباس: اللهم خر لرسولك. فلم يجد صاحب أبي عبيدة أبا عبيدة، ووجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء اللحد إلى رسول الله. فلما فرغوا من جهازه وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم على سريره في بيته ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يصلون عليه ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
قالت عائشة: توفي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ودفن ليلة الأربعاء. وتوفي وهو ابن ثلاث وستين وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير, مات وما ترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة.
وقال أبو بكر لعمر بن الخطاب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها. فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها : ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.