علاج الأسس المنهارة


ذكر آثار الذنوب


الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة يرحمه الله


قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إني لأحسبُ أنَّ الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله . من "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر 196:1 .

الإمام أبو حنيفة يستغفر أو يصلي لاستكشاف المسألة
وجاء في "طبقات الحنفية" لعلي القاري 487:2 (كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ورضي الله عنه إذا أشكلت عليه مسألة قال لأصحابه: ما هذا إلا لذنبٍ أحدثته ! وكان يستغفر، وربما قام وصلى، فتنكشف له المسألة، ويقول: رجوتُ أني تِيبَ عليّ . فبلغ ذلك الفضيل بن عياض، فبكى بكاء شديداً ثم قال: ذلك لقلة ذنبه، فأما غيره فلا ينتبه لهذا) .
وجاء في "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر 129:11 ، في ترجمة (وكيع بن الجراح الكوفي) وهو احد الأئمة الأعلام الحُفاظ، وقد كان الناس يحفظون تكلُفاً ، ويحفظ هو طبعاً (قال علي بن خشرم: رأيت وكيعاً وما رأيت بيده كتاباً قط ، انما هو يحفظ، فسألته عن دواء الحفظ، فقال:ترك المعاصي ، ما جربت مثله للحفظ ) .
وهو الذي عناه الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله:

شكوتُ إلى وكيعٍ سُوءَ حفظي **** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأنَّ العلم نورٌ ****ونور الله لا يُهدى لعاصي


قول الصحابي ابن عباس: للحسنة نور وللسيئة ظلمة
وقد وازن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بين آثار الحسنات والسيئات على ظاهر الانسان وباطنه، فقال رضي الله عنه: (إنَّ للحسنة نوراً في القلب، وزَيْناً في الوجه ، وقوة في البدن ، وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق . وان للسيئة ظلمة في القلب ، وشيناً في الوجه ، ووهناً في البدن ، ونقصاً في الرزق ، وبِغْضَة في قلوب الخلق) .

بيان الإمام ابن القيم آثارَ ترك الذنوب
واستوفى الشيخ ابنُ القيم في كتابه (الفوائد) وكتابه (الجواب الكافي) بيان اضرار الذنوب والمعاصي استيفاء جامعاً، وقابَلَ بين آثار فعلِ الذنوب وآثار تركها مقابلةً صادقةً دقيقة، تدفع بكل ذي لُبٍّوعقل الى ترك الذنوب والبعد عن أسبابها، والى التحلي بالطاعات وما يبعث عليها، وها أنا ذا ناقل لك كلامه –على طوله- لنفاسته واستيفائه وصدق واقعه، فراعِهِ سمعَكَ، ووجِّهْ له قلبك، وأعمِل له عقلك، والله يتولى الصالحين .
قال رحمه الله تعالى في كتاب (الفوائد) 41و97و139و150-151:
( الذنوب جراحات، ورُبَّ جرحٌ وقع في مقتل !! وما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله. وأبعدُ القلوب عن الله القلب القاسي! وإذا قسا القلب قَحَطت العينُ، وقسوة القلب من أربعة أشياء اذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة .
واعلم ان الصبر عن الشهوة اسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإن الشهوة: إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذةً أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً اضاعته حسرة وندامة وإما أن تَثلِمَ عِرضاً توفيره انفع للعبد من ثَلمه، وإما أن تُذهِبَ مالاً بقاؤهُ خيرٌ من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خيرٌ من وضعه، وإما ان تسلب نعمةً بقاؤها ألذُّ وأطيب من قضاء الشهوة .
وإما أن تُطَرِّقُ لوَضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلبَ هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نَيْل الشهوة، وإما أن تُشمِتَ عدواً وتُحزنَ ولياً-يعني صديقاً- وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، واما أن تحدث عيباً يبقى صفة ولا تزول، فإن الاعمال تورثُ الصفات والاخلاق.
فسبحان الله رب العالمين، لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي الا اقامة المروءة وصون العرض، وحفظ الجاه، وصيانة المال الذي جعله الله قِواماً لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق، وجواز القول بينهم، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الَهمّ والغمّ والحزن ، وعز النفس عن احتمال الذل ، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية وحصول المخرج لمتّقي الذنوب مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس وانتصارهم وحميتهم له اذا أوذيَ وظلم، وذبهم عن عرضه اذا اغتابه مغتاب، وسرعة اجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقُرْبُ الملائكة منه، وبعد شياطين الانس والجن منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه وخطبتهم لمودَّته وصُحبته وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه وصغر الدنيا في قلبه وكبر الآخرة عنده وحرصه على الملك الكبير والفوز العظيم فيها، وذوقُ حلاوة الطاعة، ووجدُ حلاوة الايمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة، وفرحُ الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت والزيادة في عقله وفهمه وايمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له، وإقباله عليه، وفرحه بتوبته: لكفى باعثاً له على ترك الذنوب والمعاصي، وهكذا يجازيه الله بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه.
فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا، فإذا مات تلقَّته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها الى روضة من رياض الجنة ينعم فيها الى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق وهو في ظل العرش فإذا انصرفوا من بين يدي الله، أخذ الله به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) انتهى كلام ابن القيم في كتابه ( الفوائد) في بيان آثار ترك الذنوب .

آثار فعل الذنوب وفيها البلايا والرزايا
وقد عدَّدَ رحمه الله تعالى في كتابه النافع العُجاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) آثار فعل الذنوب والمعاصي على فاعلها واستوفاها أثراً أثراً بالشرح والبيان والدليل والتوجيه، في أكثر من مائة صفحة من ص52- 166 . وأنا انقل لك جملة من عناوين آثارها، قال رحمه الله تعالى: ( وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله، منها حرمان العلم والرزق، وحصول الوحشة بين العاصي وبين الله ، وبينه وبين الخلق، وتعسير أموره، وظلمة القلب والوجه والقبر، ووهن القلب والبدن، وحرمان الطاعة، ومحق العمر وأنها تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضاً، وتضعف إرادة القلب وانابته الى الله، ويزول بها عن القلب استقباح الذنوب!.
وهي سبب لهوان العبد على الله، وتُلحِق ضررَه غيرَه من الآدميين والحيوانات، وتورث الذل ، وتفسد العقل ويُطبَع على قلب صاحبها ، وتُدخله تحت لعنة رسول الله rوتَحرِمه الدخول في أدعيته r وادعية الملائكة لمن امتثل أمر الله واتبع كتاب الله وسنة رسولهr .
وهي سبب لعقوبات البرزخ المتنوعة، وتحدث في الارض أنواعاً من الفساد في المياه والهواء والزروع والثمار والمساكن، وتذهب الحياء والغيرة وتعظيم الرب، وتستدعي نسيان الله للعبد وهناك الهلاك! وتخرج العبد من دائرة الاحسان وتَحرِمه من ثواب المحسنين وتُزيل النعم وتُحِلُّ النقم، وتوجب خوفَ صاحبها ورعبه، ويصير القلب مريضاً او ميتاً بعد أن كان حياً صحيحاً، وتُعمي البصيرة!
ولايزال العاصي في اسر الشيطان واسر النفس الأمارة بالسوء وسجن الشهوات، وتسقط منه الجاه والمنزلة، وتسلبه اسماء المدح، وتكسبه اسماء الذم، وتمحق بركة العلم والعمل والرزق والعمر وكل شيء ! وتَخون العبد أحوج ما يكون الى نفسه وتباعد عن العبد ولَيّه من الملائكة، وتقرِّب إليه اعداءه الشياطين، وتؤثِّر في القلوب الآثار القبيحة من الرَّين والطبع والختم والنفاق وسوء الاخلاق ، وقبول الشكوك والشُّبَه وغيرها من الامراض القاتلة وبالجملة فجميع شرور الدنيا والاخرة التي على القلوب، والتي على الابدان، العامة والخاصة، اسبابها الذنوب والمعاصي!). انتهى.
وقد أجمل هذه المعاني العظيمة في أثر فعل الحسنة، وفي أثر فعل السيئة التابعي الجليل(سليمان بن طرخان التيمي البصري)، الحافظ الامام شيخ الاسلام عابد اهل البصرة وعالمها، والمتوفى سنة 143 رحمه الله تعالى بقوله: ( الحسنة نور في القلب وقوة في العمل ، والسيئة ظلمة في القلب وضغف في العمل) كما في ترجمته العظيمة في (حلية الاولياء) 30:3 وانصحك بقراءة ترجمته فيها، وفي ( تذكرة الحفاظ) للذهبي 150:1 فهيَّ مما يشحذ العزائم للخير والطاعة لله تعالى .

من آثار الذنوب إمساك المطر، وبيتا شعرٍ في ذلك
وقد قيل في هذا القبيل:
يَـمُرُّ السَّحابُ على بلدةٍ **** بمــاءٍ مَعينٍ من المُعْصِراتْ
يُريدُ النزولَ فلا يستطيـ **** ـعُ لما حَلَّ بها من المنكَراتْ!

ومعذرة من هذه الإطالة ، فإنها في السعي للنجاة من أكبر داءٍ (الذنوب) ونحن الضعفاء نذنب كثيراً، ونعصي كثيراً، فنحتاج الى أن نُشحَن بالموعظة شحناً ، لعلَّنا نكف عن الذنوب ، ونتوب الى علام الغيوب .

تحذير الامام ابن الجوزي من الذنوب
وهذه كلمة نافعة للامام ابن الجوزي قالها في كتابه (صيد الخاطر) ، 185:1 و272:2 من أطيب الكلمات وأقواها في الدعوة الى ترك الذنوب ، قال رحمه الله تعالى: (الحذرَ الحذرَ من المعاصي، فإنها سيئة العواقب، والحذرَ الحذرَ من الذنوب خصوصاً ذنوب الخَلَوات، فإن المبارزة لله تعالى تُسقِط العبد من عينه سبحانه . ولا ينال لذة المعاصي الا دائم الغفلة، فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذُّ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها، وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي –وهو الله تعالى- فيتنغَّص عيشه في حال التذاذه ، فإن غلبَه سُكرُ الهوى كان القلب متنغصاً بهذه المراقَبات ، وإن كان الطبع في شهوته فما هي الا لحظة ، ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان، مع طول الزمان ، حتى انه لو تيقَّن العفوَ وقف بإزائه حذرُ العتاب. فأفٍّ للذنوب‍‍‍‍‍‍‍‍!ما اقبح آثارها وأسوأ أخبارها! ولا كانت شهوة لا تنالُ إلا بمقدار قوة الغفلة ‍‍!) انتهى بتصرف يسير .
الأستاذ السباعي يقول : المذنب المصر حيوان‍‍!
ورحم الله أخانا الأستاذ المجاهد الداعية الكبير الشيخ مصطفى السباعي إذ يقول في كتابه (هكذا علمتني الحياة) ص32 : (إذا همَّت نفسك بالمعصية فذكِّرها بالله، فإذا لم ترجع فذكِّرها بأخلاق الرجال، فإذا لم ترجع فذكِّرها بالفضيحة إذا علِم بها الناس، فإذا لم ترجع فاعلم أنك تلك الساعةَ انقلبتَ إلى حيوان ‍‍!) . انتهى .


فيا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك .
انتهى من تعليقات العلامة عبد الفتاح ابو غدة على رسالة المسترشدين .