من مقاصد الإسلام .. سلامة الصدر ، الود ، التراحم ، الأخوة ، التعاطف .. وإن علينا لتبقى علاقاتنا مثبتة الجذور قوية البنيان؛ أن نقبل على الناس وصدورنا سليمة .. نقبل عليهم بنفوس صافية ، ووجه باش .. وأن نحسن الظن في التعامل مع بعضنا ، ونخلع المنظارَ الأسودَ عند النظر إلى أعمال الناس ، ومواقفهم ، وأقوالهم.
حين تتأمل كثيراً من علاقات المسلمين ؛ ينقلب بصرك خاسئاً حسيراً على روابط تمزقت ، وعرى تخلخلت ؛ لظنون وريب ، وشكوك وأوهام .
كثيراً ما يطرق سمعك في مجالس المسلمين العامةِ والخاصةِ فلان قصد كذا ، ونوى كذا ، وأراد من فعله أو قوله كذا .. سوء ظنٍ مقيت .. يؤجج مشاعر الحقد والكراهية .. يهدم الروابط الاجتماعية .. يزلزل أواصر الأخوة .. يقطع حبال الأقربين .. ويزرع الشوك بين أفراد المجتمع .. بل كم رأينا وسمعنا أحداثاً جساماً وكوارث سود ؛ نتيجة سوء ظن جاء في غير محله .
إذا تسرب سوء الظن إلى النفوس أدى بها إلى الاتهام المتعجل ، وتتبع العورات ، وتسقط الهفوات ، والتجسس الدنيء؛ ولذا ترى من يسيء الظن يقول : (( سأحاول أن أتحقق )) فيتجسس وقد يغتاب ، وقد يذكر أخاه بسوء فيرتكب ذنوباً مترادفة ، ومعاصي قاصمة .. وهنا مكمن الخطورة أن تبنى على أوهام سوء الظن علاقات المسلمين وتؤسس ولاءاتهم فتغدوا الظنون محور الحب والبغض .. وهذا وأد لمشاعر الود ، وهدم لمعاني المحبة .
إن شيوع سوء الظن يؤدي إلى أن يتراشق الناس بالتهم ، ثم يسحبون الثقة من بعض ؛ فيتباغضون ويتدابرون ويتقاطعون .. الأمر الذي يؤدي إلى ذهاب ريحنا وفشلنا .
الظن مبني على التخمين بسبب كلمة أو عمل محتمل ، والظن يجعل تصرف صاحبه خاضعاً لما في نفسه من تهمة لأخيه المسلم ؛ فيتحكم الظن في التسويلات النفسية ، والاتجاهات القلبية حتى تجد من يظن السوء يحمل لمن يظن به أطناناً من التهم بناها خياله ، وكلستها أوهامه نتيجة سوء ظنه بأخيه .
بل إن تحية الإسلام إن كانت محفوفة بسوء الظن ، كانت شتيمة منكرة .. وإن الابتسامة إن كانت مقرونة بسوء الظن فُسّرت استهانة واستهزاء .. والعطاء والمدح يفسران على وجه قد يقود إلى المعارك والاصطدام .
(( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً )) الحجرات آيه (12)
عن سعيد بن المسيب قال : (( كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً ".. )) .
إن هذا المنهج يتأكد مع أهل الفضل والخير ، وهذا من فقه المقاصد والنيات الذي قد يفوت إدراكه على بعض الناس حين يحكمون على أخطاء الآخرين دون اعتبار حال الشخص ونيته ومقصده .. فربما تكون زلة لسان ولا يقصد المعنى الخبيث كما بين ذلك ابن القيم – رحمه الله – حيث يقول : (( والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل ، ويريد بها الآخر محض الحق ، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عنه )) .
ولهذا لم يحكم بالكفر على الذي أخطأ من شدة الفرح فقال : (( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )) ؛ لأنه لم يقصد تأليه نفسه .
هذا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ينقل مقالة بعض المخالفين له ثم يقول : (( هذا الكلام فيه إجمال ، والمحق يحمله محملاً حسناً ، وغير المحق يدخل فيه أشياء … )) .
هذا هو المنهج السامق ، والتجرد الكامل الذي تربى عليه السلف الصالح .. عدلٌ وإنصاف رسمه للأمة علماء الأمة .. لقد حملوا العبارات المحتملة على الوجه الحسن .. يغذي ذلك صدر سليم ، وتجرد من الهوى ، مع سخاء نفس ونصح للأمة.. فأين نحن من هذا المنهج .

ليس من منهج السلف تأويل الألفاظ ، ولي المعاني ، والفرح بالعثرات ، ومعاملة المسلمين بسوء الظن .
ورحم الله القلاعي إذ يقول : (( فقد يوحش اللفظ وكله ود ، ويكره الشيء وليس من فعله بد ، هذه العرب تقول : لا أبالك في الأمر إذا هم ، وقاتله الله ولا يريدون الذم ، وويل أمه للأمر إذا تم ، ومن الدعاء تربت يمينك ، ولذوي الألباب أن ينظروا في القول إلى قائله ، فإن كان ولياً فهو الولاء وإن خشن ، وإن كان عدواً فهو البلاء وإن حسن )) .
من سوء الظن حمل أقوال الآخرين وأفعالهم على محمل سيء بتضخيم السيئات والنظر إليهم بمنظار الاتهام والإدانة دون البحث عن الأسباب أو التماس المعاذير ، وتفسير كل قول أو فعل يحتمل وجهين : وجه خير ووجه شر ؛ بوجه الشر .. فسبحان الله ! كيف يحكمون على النيات والمقاصد ؟!

لسوء الظن أسباب ، أبرزها : نشوء الفرد في بيئة معروفة بسوء الخلق ، وسوء الظن من بيتٍ أو أصدقاء ؛ فيصبح سيء النية خبيث الطوية .
من اتبع هواه وقع في الظنون الكاذبة ؛ لأن حب الشيء يعمي ويصم .. فإذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا الميل ينسيه أخطاءه ويحمله على تحسين الظن به ، وإن كان مخطئاً في الواقع، وإذا أبغض إنسان آخر فإنه لا يميل إليه بهواه فيحمله هذا على سوء الظن وما يتبعه من التماس العثرات ، وتصيد الأخطاء وإن كان مصيباً في الواقع .
بعض الناس يغتر بشخصه ويعجب بنفسه ؛ فيرى نفسه دائماً على حق والآخرين على باطل ، ويزكي نفسه ويحتقر الآخرين ؛ فيورثه ذلك سوء ظن مقيت .
إن ظاهرة إساءة الظن بالمسلمين قد استشرت في زماننا ، وأصبحت آفة تهدد الترابط والوحدة بين أفراد المجتمع المسلم ، وهذا يؤثر سلباً على قوة المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

من العلاج
:
التماس المعاذير للناس .. ترك تتبع العورات والتماس الزلات .. التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في الحكم على الأشياء والأشخاص من الاعتماد على الظاهر ، وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى .
قال تعالى : (( وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً )) سورة النجم آية (28) .
وفقنا الله لحسن الظن في أخوننا وجنبنا سوء الظن أنه سميعٌ مجيب.

=======================================
من خطبة الجمعة اليوم 12 / 6 / 1430 هـ