لعبة على الورق

هبت نسيمات باردة على ذلك الجسد القوي فبدى وكأنه يرتجف فرقا من بطشها . جسد تظهر عليه علامات الشيخوخة رغم صغر سنه ، كأنه جسد قد نسيه الموت . بدى وكـأنه يرفع كفيه ليوارى جسده عن سياط البحر. كأنه يعذب . هويت نحوه لأساعده على الوقوف فمد يده الذاوية إلي وكأنه يقول لي: احملني أنا وهمي ، وترد علي عيناه الدامعتان بالرجاء ، ويظل يخطو تلك الخطوات بتثاقل كأنه لا يريد الرحيل عن ذلك الشاطئ ، أحس بأن كل شيء يودعه الشمس والبحر والموج. عيناه تحـدق بذلك الأفق البعيد كأنه يبحث عن ضالته . لعله يجدها.

هذا الرجل الذي لا أستطيع أن أبوح لكم عنه شيئا . لا أعرفه . ولكني عرفت من عينـاه ألم الحياة وكأن ذنوب العالم قد افترست جسـده ونحتته لتأخذه مكانا تأوي إليه. هو شـاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر. من يراه يحسبه شيخـا قد تجاوز السبعين ، عاصم وهذا هو اسمه خلق له حياة بعيدة كل البعد عن حياتنا ، مفتاحها البحر وأمواجه ، وبابها الوحدة ، ودارها الأحزان ، وسكانها المشفقين من الخلق. هذه الحياة لم تأتي من فراغ ولكنها جاءت نتيجة لتجربة مريرة عايشها أخي عاصم في زمان غابر من حياته. لعله الموت . لعلها المعصية.
عاش عاصم في هذه الجمجمة التي حبس نفسه فيها ، كأنه يقتص من نفسه بنفسه. وكأن القدر قد سجنه في نفسه. كثيرا ما كانت هيئته تخيفني أحيانا، فأراه في هيئة شبح خلفه الشيطان . وأحيانا كثيرة أحس بأنه متهم برئ حكم عليه بالإعدام، كانت تتنازعني الكثير من الشكـوك حوله ، ولكني لا أظهر لـه إلا الشفقة والرحمة والمحبة. لم أعهد نفسي قاسيا على أحد أبدا.

أدخلته شقتي الصغيرة ليلقي بجسده الهزيل على ذلك الكرسي المقابل لنافذة مطلة على البحر، هيأت الطعام ودعوته إليه بقولي الوليمة جاهزة يا أخي. وأنا موقن بأنه لن يرد علي ، وضعت له طبقـه أمامه وهو ينظر إلي معلما إياي بأنه لا يريد ، ولكن مع اصراري المتزايد عليه مد يده الهزيلة ليأكل لقمة يكـاد يبلعها بقوة. كأنها لا تريد أن تدخل هذا الجسد. يال العجب من هذا الإنسان !!

منذ سكن عاصـم منزلي نسيت الكلام . وحل مكانه الصمت ، منذ تلك الأيام وأنا أحب القراءة والهدوء. كنت دائما إنسانا مرحا كثير الحركة فهذا ما عرفه عني زملائي في العمل وجيراني وأهلي وأخواني ولكن عاصم لن يمكث معي طويلا .
كم أحببته !! كم أحببت عيناه البائستان !!
كم كان تأثيره كبيرا علي رغم صمته !!
كلماته المعهودة التي لم يملك غيرها نادرا ما أسمعها. السلام عليكم . شكرا لمساعدتك .
تعلقت به كثيرا رغم الغموض الذي أحياني به ورغم تلك التساؤلات التي أسرتني في حيرة دائمة ولا أجد لها باب تخرج منه .
كان دأبي معه أن أخرج من عملي تاركا إياه على ذلك الشاطئ لأعود له ظهرا وهو ما يزال جاثيا على تلك الصخرة الصماء ، فأصطحبه إلى شقتي .

مرت الأيام لاهثة لتوصلني أنا وعاصم إلى نهاية الرحلـة ، ها أنا ذا أجمع كتبه وملابسـه وأجمع كل ذكرياته معي لأودعه . والحسـرة تعتصر قلبي على فراقه ، ليودعني بكلمـات ما تزال حرارتها تشتعل في قلبي تذكرني دائما بأهمية الرحمة والكلمة الطيبة في حياتنا. قالها وهو يبتسم ابتسامة كأن الزمان قد تصدق بها عليه [ قضيت معك أياما سعيدة لا تنسى. فجزاك الله عني كل خير ] .
جاءت كلماته الدافئة لتعطيني الأمل بلقائه ضممته إلى صدري وكأني أضم قلبي إلى قلبي . ودعته قائلا: إلى لقاء قريب – إن شاء الله _ سيظل البحر يذكرك يا عاصـم ومكانك ينتظرك، وظـل ينظر إلي بعينين دامعتان و بابتسامة مضطربة تتأرجح بين الفرح والحزن .

تركني عاصم في ذلك المكان وحيدا ، ولكنه أهداني بعض الذكريات ، لعلها تؤنسني بعده ، كان يملأ المكان رغم صمته . رحلت هذه الصفحات من حياتي ليظل عاصم علامة للاستفهام لا تفك رموزها.
تعجلت الأيام بعد ذلك في نقل خبر موته لي. كم كان ذلك مؤلما !!
كم كان من الصعوبة بمكان أن تحب شخصا قد دمر نفسيا ورحل إلى الموت بنفسه !!
جاءت كلمات التعزية مثقلة على لسان صديقي أحمد.
عاصم ترك أجمل أيامه على ذلك الشاطئ معك يا سعد.
لم أتمالك نفسي من البكاء . ظلت أنفاسي الملطخة بنبرة من الحزن والأسى تنساب على قلبي بين الحين والآخر.
كم أفتقدك يا عاصم !!
كم رسمت في نفسي الأماني بلقائك وعاهدت البحر والشاطئ !!
رفعت صوتي في وجه أحمد : لماذا ؟ لماذا ؟
تبادرت كلماته إلى سمعي : استغفر الله. استغفر الله.
لماذا تركتني أتعلق به ؟ ومن تلك الجثة التي سكنت بيتي ودخلت قلبي ؟ من ؟
ذلك هو الشيطان بعينه.
ذهلت أصابتني نوبة من القشعريرة . ماذا تقول شيطان . أرددها وعرقي يتصبب وكل تلك التساؤلات حان لها الإفراج . ماذا تقول ؟! عاصم شيطان ؟! أجننت أنت؟!!!
نعم لقد كانت تصاحبه الشياطين في أقواله وأفعاله. وكان يتمرغ في أوحالها.
كيف قلت أنه مسكين يحتاج إلى المساعدة !! كيف كذب علي !! وبأي حق فعلت ذلك؟!!
أنا لم أكذب عليك أبدا إنها الحقيقة.
أي حقيقة تقصد ؟ حقيقة الشيطان الذي أدخلته بيتي وقلبي.
لم أتمالك نفسي من الصراخ . كاذب .كاذب.
أخي أسمع مني عذري. ثم أحكم علي بما تريد.
لا . لا تحاول خداعي مرة أخرى. لن أصدقك.
عاصم . عاصم . إنسان غلبه الشيطان ووضعته ذنوبه في شباك الحسرة.
إنسان منحوت من الصخور القاسية.
لم يعد كما كان . صدقني . لم يعد كما كان.
أنت تافه . وكل ما تقوله تفاهة . لقد ألقيت بي إلى الهاوية وانتهى الأمر. ماذا تريد أكثر من ذلك؟!
لست أنت يا سعد من تحكم علي ولم تسمع عذري !!
لست أنت !!
لست أنا. وهل تدري ما فعلته أنت . لا أجد لك عذرا في ذلك ( أنظر إليه بنظرات ملئها الحنق والغضب ) . لا أجد.
يرفع يديه ويشير إلي أن تمهل في حكمك علي.
أرد عليه ثائرا: لقد أجرمت في حقي . وهذا فعل لا يمكن التجاوز عنه. لا حول ولا قوة إلا بالله.
أخي لم أتصور أبدا أنك تبغض هذه الكلمة إلى هذا الحد.
ماذا تصورت إذن ؟!!!
تصورت أن تهبني لحظة من لحظات الرحمة التي بقلبك الطيب لأبرر بها عن فعلي . أليس كذلك يا أخي؟؟
نظرت إليه بعينين مترددتان مما شجعه على متابعة الحديث . عاصم إنسان طيب القلب كما تصورته تماما ولكن هناك نقطة سوداء في حياته منعته من السعادة طويلا. عاش عاصم دائما وهو يروح ويسرح مع أهوائه وشياطينه في دهاليز الذنوب و المعاصي يحمل في صدره قنابل الحقد والغضب والنفاق وعلى جوارحه تنساب روائح الحياة الماجنة تبث الأذى على الآخرين فتلوث حياتهم بالهموم والأحزان. كانت حساباته بعيدة عن الموت وأهواله ، كان أسير شهوته وكيفية الوصول إليها . قادته تلك الذنوب المهلكات إلى طريق الجحيم ساعة أعد لعبة على الورق ليخدع بها القدر. لعبة ذهب فيها جميع أفراد عائلته إلى الموت المحقق . لعله كان يحبهم لا يريد أن يفارقهم في الدنيا ولا في الآخرة فأعد هذه الخطة الشيطانية ووضعهم كأحجار الشطرنج على طاولة القدر ، ظن أنه يستطيع أن يتحدى القدر ونسي أن الله قاهر على عباده ، فما كان من الله إلا أن أبقاه هو وذهب بهم جميعا شهداء لخطة شيطانية بقي مدبرها يذوق سوء العذاب في هذه الحياة . ينتظر أن يصفح عنه القدر يوما.

ماذا أرتني أن أقول لك ؟!! أرتني أن أقول أن القدر عادل وعاصم إنما هو ميت في ثياب الأحياء ، أبقاه القدر ليريه عظمة الخالق في عباده. فأصبحت القلوب تشفق عليه لشدة بلائه. وسوء عاقبته.
ساعتها لن ترحمه كما رحمته وأنت لا تعرفه.

ظللت محدقا به ونظراتي مرسلة إلى البعيد حيث يرقد عاصم بين الجنادل والتراب وحيدا بعيدا عن أسرته. كنت تريدهـم معك راحلين دون لحظة للـوداع. ولكن الله – تعالى – أراد شيئـا آخر.
وجدت عذرا لأخي أحمد فيما فعل لعل الله – تعالى – أراد أن يطلعني على نهايـة البعد عنه. لعلل الله – تعالى – أحب مني أن أكتب هذه المشـاهد الحية التي عشتهـا معه. لأنقل بحق صورة تنبض بالحياة لثمار الذنوب . فكان عاصم ذلك المسافر في عقوبة الأقدار ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ).

فكرت طويلا في لقائه من جديد ومقابلته ولو لدقائق معدودة فما وجدت مناصا من مقابلته وهو ميت صامت. ترددت طويلا ولكن هذه هي الطريقة الوحيدة التي سمح لي القدر بها .

خرجت في مساء يوم جميل وأنا أحمل في قلبي كلمات ساخنة لعاصم لعلها ترضي رب العالمين عني سرت إليه بخطى مثقلة بالأسى على حالنا مع الله – سبحانه – كيف نعصيه جهارا نهارا !! ويرحمنا.
ولعل هذا القلب الذي تعلق بعاصم أكبر دليل على ما أقول. فقد زرع الله محبته في قلبي. ورواها بالشفقة عليه وأينع ثمارها برحيله. لعل عاصم ناجى ربه في ساعة توبة وزهد في الدنيا فقبل الله توبته وطهر ساحته ، أو لعل الله أبقاه في ذلك العذاب حتى يرفع روحه إليه طاهرة من دنس الخطـايا والذنوب ، هذه الأفكار هي التي استحكمت على تفكيري في تلك اللحظات الحاسمة ، ولعل تلك الدمـوع التي تترقرق مـن عيني عندما أذكره تعد في نظري غريبة الأطوار.

دخلت المقبرة بقلب خاشع منكسر لله تعالى، وكأن مروري بين تلك الأجداث منحني روح الآخرة فقد خطر بنفسي قول حبيبي – صلى اله عليه وسلم – ( فمن أراد أن يزور القبور فليزر فإنها تذكرنا الآخرة)
فأحسست بسكينة الموت . وقد أراد الله – تعال – أن يجمعني به كما جمعني به أول مـرة وقلبي يحمـل له أكاليل الرحمة والشفقة ، ناديته بقلبي قبل لساني .
أخي الذي أحببته لا أعرف كيف أحببته . لقد كان فراقك جرحا غائر بخلجات نفسي لا أجد له شفاء إلا الوقوف على قبرك.
أتيتك اليوم زائرا ومعاتبا. لعل عاصم الذي رأيته كان من التائبين إلى الله – تعالى- ولعل أثر الذنوب كان لي واعظا ومؤنبا ، جئتك اليوم وأنا بنفسي كلمات وعبرات أسكبها على كل تائه عن الله في هذه الحياة . فكم في هذه المقابر من منعم برحمة الله !! وكم فيها من معذب بغصب الله !!
كم في هذه المقابر من قتيل ذنوبه !! كم فيها من عبد للرحمن مؤمنا !! وكم فيها عبد لشيطان فاجرا !!
ها هي الشمس تتهيأ للرحيل كما رحلت شمسك يوما يا أخي.
لقد زرتك اليوم لتخبرني عن ثمار الذنوب وعن قسوتها وعن وقت قطافها. فلقد عهدتك يا أخي مؤنسا لي في وحدتي رغم صمتـك ، لعلك كنت تعتذر إلى الله عند تلك الأمواج وتشهدهـا على ذلك فشهد لك البحر والشاطئ والشمس. ولعل تلك العيون الدامعة كانت هي الدليل على ما أقول، فما أقسـى هذا الشيطان !! وما ألده من عدو !! وما أعظم رحمة الله !! لغل ما قد أخطه عنك يكون صـدقة لك تهدي ضالا سار على طريقك. أخي إن الذنوب لتعمل في الخفاء ومن وراء الكواليس عمل الشياطين ، تجتمع فيما بينها لتلقي بصاحبها في مهاوي الجحيم ، فيا أسفا على عمر انقضى في المهلكات !! ويا حسرة على فوت بعد الممات !!
كم نعارض الله في أمور كثيرة ولكنه – تعالى - يرحمنا ويلطف بنا لضعفنا وقلة حيلتنا ، جئتك اليوم لأقول لك جزاك الله عني كل خير يا أخي . فلقد كنت درسا لن أنساه في حياتي. كنت صـورة حية لضعـف المخلوق أمام الخالق ، فغفر الله لي ولك. وأسكنك فسيح جناته – آمين –.
وها أنا أودعك وداع من ترك الدنيا بلا رجعة فلقد كشفها الله لي بك. وما لي بزينتها من حاجة.

( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد )

أخيك المحب لك
سعد





















كبير لون