ويسألونك عن الإرجاء ...
الكاتب ..الربيعُ العاصفُ
بسم الله الرحمن الرحيم
سألتني أخا التوحيد والعقيدة أن أكتبَ لك بعضَ الورقات أكشف لك من خلالها عن معنى الإرجاء والمرجئة ...هذه الفرقة الضَّالة التي أصبحتْ ضاربةً أطنابها في مشارق الأرض ومغاربها ...وقلتَ لي أنَّ أغلبَ الناس لا يعرفون معنى كلمة إرجاء ومرجئة ...مع كثرة ترديد هذا الإسم المشين بين أوساط الشَّباب المسلم ...وقلت حبذا لو تنصحنا ببعض الكتب التي اعتنت بهذه الظاهرة ...ظاهرة الإرجاء ...لنحذرَ مقالاتهم ...وقديما قيل...
عرفتُ الشرَّ لا للشرِّ ولكنْ لتوقِّيه ومن لم يعرف الخيرَ من الشرِّ يقعْ فيه
أخي الحبيب فقد أعجبني منك أنك أصبتَ في سؤلك وطرحك ...إلا أني عاتبٌ عليك أنك وسَّدت هذا الأمرَ لغير أهله ...ولولا قلَّةُ العلماء الصَّادقين ونذرتهم لما أجبتك لذلك وأنا لا زلت في أول طريقي لطلب العلم ...لذلك إعلم أخي الحبيب أنَّ ما اختصرته في هذه العجالة ليس من بضاعتي المزجاة ...ولكن من كلام علماءنا الأجلاء رحم الله الأموات منهم وحفظ الله الأحياء ...فأقول ومن الله أستمد العون ...
الإرجاء على معنيين ...
أحدهما بمعنى التأخير كما في قوله تعالى ..."قالوا أرجه وأخاه" [سورة الأعراف الآية 111]
أي أمهله وأخرهُ .
والثاني إعطاءُ الرجاء .
أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح ، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد .
وأما بالمعنى الثاني فظاهر ، فإنهم كانوا يقولون ...لا تضر مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة ...اهـ الملل والنحل للشهرستاني ص 112
وقال البغدادي في كتاب الفَرْقُ بين الفِرَق ص 122
وإنما سموا "مرجئة" لأنهم أخروا العمل عن الإيمان ، والإرجاء بمعنى التأخير ، يقال ...أرجَيْته وأرجأته ، إذا أخرتُه . اهـ
والإرجاءُ في عصرنا كثيرٌ سواء عند العوام أو عند المنتسبين إلى الدين..
- فمن إرجاء العوام قولهم المشهور: (الإيمان في القلب) وعدم اعتبارهم للأعمال بل إهمالها أو التهاون بها وتركها بحجة الاكتفاء بصلاح القلب وصفاء النية.
- أما إرجاء المنتسبين إلى الدين أو الدعوة فهو غالباً ليس في تعريف مسمى الإيمان.. فهم يعرفّونه كمسمى تعريفاً سليماً فيقولون: الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.. أو يقولون هو قول وعمل وهو قول أهل السنة في الإيمان..
لكنهم عند تنزيل ذلك على الواقع وفي الناحية العملية خصوصاً مع نواقض الإيمان يظهر لك أن ركن العمل الذي أثبتوه في تعريف الإيمان مهمل عندهم بل يكاد يكون ساقطاً وملغياً..
نعم هم يقولون - أو أكثرهم - أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما قال أهل السنة.. لكن الذنوب جميعها عندهم ناقصة لكمال الإيمان فقط وليس فيها شيء ناقض لأصل الإيمان، اللهم إلا في حالة واحدة فقط أن يرتبط معها الجحود أو الاستحلال أو الاعتقاد، هكذا على إطلاقه مهما كان الذنب أو العمل، هذا مع أن النبي e قد بيّن فقال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة [وفي رواية الترمذي (باباًً)] فأفضلها [وعند الترمذي (أرفعها)] قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة.
فليس جميع شعب الإيمان وأبوابه متساوية، فشعبة (لا إله إلا الله) ليست كشعبة (الحياء) أو (إماطة الأذى عن الطريق).
بل منها ما في زواله نقص للإيمان فقط كالحياء..
ومنها ما في زواله نقض للإيمان كشعبة (لا إله إلا الله)..
والخوارج ومن وافقهم وتابعهم من غلاة المكفرة جعلوا زوال أي شعبة من شعب الإيمان ناقض ومزيل لأصل الإيمان..
فجاء مرجئةُ العصر - كرد فعل عليهم وعلى مذهبهم - فجعلوا زوال شعب الإيمان كلها ناقص للإيمان فقط، ولا شيء منها مزيل أو ناقض لأصله، اللهم إلا ما تعلق منها بجحدٍ أو اعتقاد.. والطائفتان ضالتان . اهـ"إمتاع النظر في كشفشبهات مرجئة العصر" لعاصم البرقاوي
ولعك أخي الحبيب تسأل عن وجه الحق في هذه المسألة ..فأقول لك
أما أهل الحق وأصحاب الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، فهم وسط في أبواب الإيمان والكفر.. فشعب الإيمان عندهم منها ما يؤثر فقط في كمال الإيمان ولا يُزيله.. وهذا النوع ينقسم إلى قسمين؛ الأول: ما كان من كمال الإيمان المستحب، والثاني: ما كان من كمال الإيمان الواجب.
ومن شعب الإيمان ما يُُزيل أصل الإيمان وينقضه.. فالإيمان على ذلك عندهم على ثلاثة أقسام:
* ما كان من كمال الإيمان المستحب وهو ما رغب فيه الشارع ولم يتوعد على التفريط فيه.
* وما كان من كمال الإيمان الواجب وهو ما توعد الشارع على التفريط فيه وعيداً لا يصل إلى وعيد الكفر.
* وما كان من أصل الإيمان وهو يتركب من كل شعبة يزول الإيمان وينتقض بزوالها.
ولا يتحكمون بشيء من ذلك فيجعلونه من هذا النوع أو ذاك إلا بدليل شرعي ونص من الله تعالى أو رسوله e)سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا(.. [البقرة: 32].
وأقرب فرق الإرجاء إلى مرجئة عصرنا هؤلاء في أبواب الإيمان والكفر هم المرجئة المريسية: مرجئة بغداد، وهم أتباع بشر بن غياث المريسي الذي كان يقول في الإيمان: "إنه تصديق بالقلب واللسان جميعاً، وأن الكفر هو الجحد والإنكار، لذا زعم أن السجود للصنم ليس بكفر ولكنه دلالة على الكفر...أنظر الفرق بين الفرق ص 123
وذلك لأن مرجئة عصرنا لا يرون أن هناك كفراً عملياً مخرجاً من الملّة إلا أن يرتبط باعتقاد أو جحد أو استحلال فذلك هو الكفر عندهم..
سواء كان ذلك من باب سب الله تعالى أو السجود للصنم أو التشريع مع الله أو الاستهزاء بدين الله.. فكل ذلك ليس كفراً بحد ذاته بل هو دليل على أن فاعله يعتقد الكفر، فالكفر هو معتقده أو جحوده أو استحلاله.. ففتحوا بذلك باب شر عظيم على أهل الإسلام ولج منه كل ملحد وزنديق وطاعن في دين الله تعالى بأمان واطمئنان...كما يقول البرقاوي

قال ابنُ القيم- رحمه الله- القصيدةالنونية ص 146
وكــذلك الإرجاء حين تقر بالمـ عبود تصبح كــامل الإيمانِ
فارم المصاحف في الحشوش وخرب البيت العتيقِ وجد في العصيانِ
واقتل إذا ما استطعت كل موحدٍ وتمسحن بالقس والصلبــانِ
واشتم جميع المرسلين ومن أتوا من عنده جهراً بلا كتمــانِ
وإذا رأيت حجارةً فأسجد لهـا بل خر للأصنام والأوثــانِ
وأقر أن الله جل جلالـــه هو وحده الباري لذي الأكوانِ
وأقر أن رسوله حقاً أتــى من عنده بالوحي والقـرآنِ
فتكون حقاً مؤمناً وجميع ذا وزرٌ عليك وليس بالكفــرانِ
هذا هو الإرجاء عند غلاتهم من كل جهمي أخي الشيطـانِ
يقول الشيخ العلاَّمة بكر أبو زيد -رحمه الله- كما في درء الفتنة ص 14
كثر الخوض في بيان حقيقة الإيمان ومسألة التكفير وأخذ من لا يريد خيرا بالمسلمين يلقي بذورها المنحرفة بينهم من خلال وجهتين ضالتين ومذهبين باطلين :
أحدهما : في جانب الغلو والإفراط في نصوص الوعيد وهو مذهب الخوارج الذين ضلوا في بيان حقيقة الإيمان فجعلوه بشقيه شيئاً واحداً ، إذا زال بعضه زال جميعه فأنتج هذا مذهبهم الضال : " وهو تكفير مرتكب الكبيرة " .
ومن آثاره : فتح باب التكفير على مصراعيه ، مما يصيب الأمة بالتصدع والانشقاق وهتك حرمات المسلم في دينه وعرضه .
وثانيهما : في جانب التقصير والجفاء والتفريط في فهم نصوص الوعد ، والصدِّ عن نصوص الوعيد وهو مذهب المرجئة الذين ضلوا في بيان حقيقة الإيمان فجعلوه شيئاً واحداً لا يتفاضل وأهله فيه سواء ، وهو : " التصديق بالقلب مجرداً من أعمال القلب والجوارح " وجعلوا الكفر هو " التكذيب بالقلب ، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه " فأنتج هذا مذهبهم الضال : " وهو حصر الكفر بكفر الجحود والتكذيب " المسمى : " كفر الاستحلال " .
ومن آثاره : فتح باب التخلي عن الواجبات والوقوع في المحرمات وتجسير كل فاسق وقاطع طريق على الموبقات مما يؤدِّي إلى الإنسلاخ من الدين وهتك حرمات الإسلام . نعوذ بالله من الخذلان .
كما يلزم عليه عدم تكفير الكفار ، لأنهم في الباطن لا يكذبون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما يجحدونها في الظاهر كما قال الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : {{ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون }} [ الأنعام/33 ] .
وقال - سبحانه - عن فرعون وقومه : {{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماًَ وعلواً }} [ النحل/14 ] .
و لهذا قال إبراهيم النخعي – رحمه الله تعالى – " لفتنتهم – يعني المرجئة – أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة " .
وقال الإمام الزهري - رحمه الله تعالى - : " ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من هذه - يعني : الإرجاء – " رواه ابن بطة في : "الإبانة" .
و قال الأوزاعي - رحمه الله تعالى - : " كان يحيى بن كثير و قتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء " .
و قال شريك القاضي - رحمه الله تعالى – وذكر المرجئة فقال : " هم أخبث قوم , حسبك بالرفض خبثا , و لكن المرجئة يكذبون على الله " .
وقال سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - : " تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري " [ الفتاوى : 7/394 - 395 ]
و عن سعيد بن جبير - رحمه الله تعالى - : " أن المرجئة يهود أهل القبلة , و صابئة هذه الأمة " [ رواه ابن بطة وغيره ]
إلى أن قال رحمه الله ...
وبالجملة فهذان المذهبان : مذهب الخوارج ومذهب المرجئة , باطلان , مُردِيَان ، أثَّرا ضلالاً في الاعتقاد , وظلما للعباد ، وخرابا للديار , وإشعالا للفتن , ووهاءً في المد الإسلامي , وهتكاً لحرماته وضرورياته , إلى غير ذلك من المفاسد والأضرار التي يجمعها الخروج على ما دلت عليه نصوص الوحيين الشريفين ، والجهل بدلائلها تارة ، وسوء الفهم لها تارة أخرى وتوظيفها في غير ما دلت عليه , وبتر كلام العالِم تارة , والأخذ بمتشابه قوله تارة أخرى .
وقد هدى الله ( جماعة المسلمين ) أهل السنة والجماعة - الذين مَحَّضُوا الإسلام ولم يشوبوه بغيره - إلى القول الحق , والمذهب العدل , والمعتقد الوسط بين الإفراط والتفريط مما قامت عليه دلائل الكتاب والسنة ، ومضى عليه سلف الأمة من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا , وقد بينه علماء الاسلام في كتب الاعتقاد , وفي ( باب حكم المرتد ) من كتب فقه الشريعة المطهرة , من أن الإيمان : قول باللسان ، واعتقاد بالقلب , وعمل بالجوارح , يزيد بالطاعة , وينقص بالمعصية ولا يزول بها , فجمعوا بين نصوص الوعد والوعيد ونزلوها منزلتها , وأن الكفر يكون بالاعتقاد وبالقول وبالفعل وبالشك وبالترك , وليس محصورا بالتكذيب بالقلب كما تقوله المرجئة , ولا يلزم من زوال بعض الإيمان زوال كله كما تقوله الخوارج . اهـ
قال الربيع ...وأختم هذا المقال بذكر بعض الكتب المهمة في هذا الباب ...
كتاب الإيمان لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية -رحمه الله-
كتاب ظاهرة الإرجاء لسفر الحوالي
كتاب الصارم المسلوم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية -رحمه الله-
كتاب نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز آل عبد اللطيف
نواقض الإيمان الإعتقادية للوهيبي
إمتاع النظر في كشفشبهات مرجئة العصر لعاصم البرقاوي
تبصـير العـقلاء بتلبيسات أهل التجهّم والإرجاء لعاصم البرقاوي

وأكتفي بهذا القدر...ويكفيني من القلادة ما أحاط بالعنق....
كتبه الربيع العاصف في زمن الجبن والخنوع
02-04-2009