الآخرة كأنها مشاهدة
بديع الزمان : سعيد النورسي

يامَن يريد ان يرى دليلاً على حقيقة الآيتين الكريـمتين: ( فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يَره ` ومَن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يَره ) (الزلزال:7-8) اللتين تشيران الى التـجلي الأتـم لاسـم الله ((الـحفيظ)).
ان التـجلي الاعظم لاسـم الله الـحفيظ ونظير الـحقيقة الكبرى لـهاتين الآيتين مبثوثٌ في الارجاء كافة، يـمكنك أن تـجده بالنظر والتأمل في صحائف كتاب الكائنات، وذلك الكتاب الـمكتوب على مسطر الكتاب الـمبين وعلى موازينه ومقاييسه.


خذ – مثلاً – غُرفةً بقبضتك من اشتات بذور الازهار والاشجار، تلك البذيرات الـمـختلطة والـحبتّات الـمـختلفة الاجناس والانواع وهي الـمتشابهة في الاشكال والاجرام، أدفن هذه البُذيرات في ظلـمات تراب بسيط جامد، ثم اسقها بالـماء الذي لاميزان لـه ولايـميز بين الاشياء فاينـما توجهه يسيل ويذهب.



ثم عُدْ اليه عند الربيع الذي هو ميدان الـحشر السنوى، وانظر وتأمل كيف ان مَلَك الرعـّد ينفخُ في صُوره في الربيع كنفخ اسرافيل، مُنادياً الـمطر ومُبشراً البذيرات الـمدفونة تـحت الارض بالبعث بعد الـموت.



فانت ترى ان تلك البذيرات التي هي في منتهى الاختلاط والامتزاج مع غاية التشابه تـمتثل تـحت انوار تـجلـّي اسـم ((الـحفيظ))، إمتثالاً تاماً بلا خطأ الأوامر التكوينية الآتية اليها من بارئها الـحكيـم.
فتلائم اعمالـها وتوافق حركاتها مع تلك الاوامر بـحيث تستشف منها لـمعان كمال الـحكمة والعلـم والارادة والقصد والشعور.

الا ترى كيف تتـمايز تلك البذيرات الـمتـماثلة، ويفترق بعضها عن البعض الآخر. فهذه البُذيرة قد صارت شجرةَ تينٍ تنشر نِعم الفاطر الـحكيـم فوق رؤوسها وتنثرها عليها وتـمدّها الينا بايدي اغصانها.
وهاتان البُذيرتان الـمتشابهتان بها قد صارتا زهرة الشـمس وزهرة البنفسج.. وامثالـها كثير من الازهار الـجـميلة التي تتزين لأجلنا وتواجهنا بوجه طليق مبتسـم متوددةً الينا..


وهناك بذيراتٌ اخرى قد صارت فواكه طيبة نشتهيها، وسنابل ملأى، واشجاراً يافعة، تثير شهيتنا بطعومها الطيبة، وروائحها الزكية، واشكالـها البديعة فتدعونا الى انفسها، وتُفديها الينا، كي تصعد من مرتبة الـحياة النباتية الى مرتبة الـحياة الـحيوانية. حتى نـمت تلك البذيرات نـمواً واسعاً الى حد صارت تلك الغرفة منها – باذن خالقها – حديقة غنـّاء وجنةً فيحاء مزدهرة بالازهار الـمتنوعة والاشجار الـمـختلفة، فانظر هل ترى خطأ او فطوراً ( فارجع البصر هل ترى من فطور ) (الـملك:3).


لقد اظهرت كلُ بذرة بتـجلي اسـم الله الـحفيظ واحسانه ما ورثَته من ميراث ابيها واصلـها بلا نقصان وبلا التباس.





فالـحفيظ الذي يفعل هذا الـحفظ الـمعجز يشير به الى إظهار التـجلي الاكبر للـحفيظية يوم الـحشر الاكبر والقيامة العظمى.
نعم، ان اظهار كمال الـحفظ والعناية في مثل هذه الامور الزائلة التافهة بلا قصور، لـهو حجةٌ بالغة على مـحافظة ومـحاسبة ما لـه اهمية عظيـمة وتأثير ابدي كأفعال خلفاء الارض وآثارهم، واعمال حـملة الامانة واقوالـهم، وحسنات عبدة الواحد الاحد وسيئاتهم..
( أيـحسَبُ الانسانُ أنْ يُترَكَ سُدىً.. ) (القيامة:36) بلى إنه لـمبعوثٌ الى الابد، ومرشـّحٌ للسعادة الابدية او الشقاء الدائم، فيـحاسَبُ على السَبَد واللـَّبَد (1) فاما الثواب واما العقاب.
وهكذا فهناك ما لا يـحد ولا يُعد من دلائل التـجلي لإسـم الله الـحفيظ، وشواهد حقيقة الآية الـمذكورة.
فهذا الـمثال الذي تنسج على منوالـه ليس الاّ قبضة من صُبرة (2)، او غرفة من بـحر، او حبة من رمال الدهناء، ونقطة من تلال الفيفاء (3) ، وقطرة من زلال السـماء، فسبـحانه من حفيظ رقيب وشهيد حسيب.
( سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم ) (البقرة:32 )







===================
1- السبد : جمع أسباد : القليل من الشعر ، يقال : (ما له سبدٌ ولا لَبَد) أي لا شعر ولا صوف ، يقال : لمن لا شي له (انظر مجمع الأمثال للميداني .
2- الصُبرة : ما جُمع من الطعام بلا كيل ولا وزن .
3- الفيفاء : الصحراء الملساء ، والجمع : الفيافي .