الذين أصبحوا عبدا لأنفسهم

(من سلسلة البحوث"في ضوء القرآن الكريم" مفاهيم ينبغي أن تصحح)



هم الذين يحبون أن يعيشوا بما تهوى أنفسهم تلذ أعينهم، وينزعجون إذا جاءتهم الرسول بأمر من الله لأنهم يودون أن الله يعطي لهم كل شيء ما عدا الأمر. قال الله تعالى: «إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا» (النساء، 4/150-151).

وقد جرى بيني وبين أحد من الذي لا يقبلون أمر رسول الله هذا الحوار:

قال: أنا أؤمن بالله يقينا.

قلت: كل إنسان لا بد وأن يؤمن.

قال: التجئ إليه وأستعين به حينا بعد حين، فيطمئن قلبي وأحس بالسعادة.

قلت كل واحد يقوم بما تقوم أنت، المهم أن تطيع بما جاء به الرسول من أمر الله تعالى. ألست تريد أن تعيش حسب هواك بدلا أن تطيع الرسول؟

قال: طبعا، الحياة حياتي؛ من يتدخل في حياتي؟ أنا أحيى مكا أريد.

قلت: ألا يتدخل من أعطاك الحياة؟

........؟

وقسم آخر منهم، يجعلون أوامر الله أقساما يقبلون بعضا منها ويرفضون البعض. والبعض منهم يدعون عدم إله؛ لذا نتناولهم تحت فريقين اثنين. فريق لا يؤمنون بوجود إله أصلا. وفريق آخر يؤمنون بوجود إله ولكنهم يقولون بأن هذا الإله لا دخل له في حياتنا.

ويقال لفريق من الذين لا يؤمنون بوجود إله "الملاحدة" منهم الزعماء آخرين منهم أتباع. والزعماء يجعلون الفطرة تابعة لأهوائهم بدلا من أن يتبعوها، يأتون بأفكار ونظريات. والبعض يتعاطفون مع الملاحدة خوفا من أن يفقدوا نفوذهم. والنقطة المشتركة بينهم أنهم يريدون أن يعيشوا أو يبنوا الحياة حسبما يهوي أنفسهم. قال الله تعالى: «أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون» (الجاثية، 45/23).

وهم أناس قد افرطوا في حب النفس، واعتبروا أنفسهم مركز الكون وأفكارهم أفكارا عالمية، لأنهم يعيشون في عالم ضيق. كما أنهم متوترون وسريعوا الغضب لأنه لا قدرة عندهم لحل مشاكلهم. قال الله تعالى: «أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام[1] بل هم أضل سبيلا» (الفرقان، 25/43-44).

والذي يتمسك بفكرة الالحاد خوفا من أن يفقد منصبه، فقد وقع في أشد مأزق لا مناص له. وكلما رأوا آية تدحضهم ازدادوا توترا. كما نرى فرعون الذي هو واحد منهم، لم يؤمن موسى مع أنه لا يشك كون موسى رسولا من الله. وربنا يحكي هذا بقوله: «فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين» (النمل، 27/13-14).

ويخبرنا الله تعالى بالآيات التالية بأن فرعون كان ملحدا: «وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل» (الأعراف، 7/104-105). «قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك المسجونين» (الشعراء، 26/23-29).

في أول الأمر حاول فرعون أن يجيب موسى (عليه الصلاة والسلام) بتظاهر يشير إلى أنه عاقل، وحكيم، وصابر، وحازم، ولكن عندما فشل أخذه التوتر والاضطراب وبدأ بتهديد موسى (عليه الصلاة والسلام). قال الله تعالى: «ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى» (طه، 20/56-59). «وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم» (يونس، 10/79). «فجمع السحرة لميقات يوم معلوم» (الشعراء، 26/38).

واجتمع الناس والسحرة، وبدأ الاستعراض.. و«قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون» (الشعراء، 26/43-44). «فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى» (طه، 20/66). «فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون» (الشعراء، 26/45). «فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين» (الأعراف، 7/118-119). «فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين» (الشعراء، 26/46-49). «قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى» (طه، 20/72-73). «وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب» (غافر، 40/26-27).

وهم يعلمون أن الله موجود ولكنهم يجحدون. فإذا وقع عليهم العذاب وانقطع عنهم الأسباب يقولون آمنا.. كما حكى عن فرعون قوله حين أخذته الغرق؛ فقال الله تعالى: «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين» (يونس، 10/90).

والذين اتبعوا فرعون فيكون عاقبتهم كفرعون، قال الله تعالى: «فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين» (الزخرف، 43/54).

وكل من تأله نفسه فهو يعرف أن الله موجود، والذين ينكرون وجود الله أي الملاحدة هم يتميزون في الظاهر فقط وفي الحقيقة أنهم كمن أله نفسه. وأول من أله نفسه فهو إبليس. لما أمره الله تعالى أن يسجد لآدم لم يسجد لأنه رأى أن هذا الأمر لا يوافق هواه. قال الله تعالى: «وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم» (الحجر، 15/28-34). «أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» (البقرة، 2/34).

و عصيان إبليس كان لأمر الله ولم يكن لآدم، لأن الذي خالف هواه هو أمر الله تعالى. لذا قال الله تعالى له: «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» (الأعراف، 7/13). لم ينكر إبليس بأن الله موجود وواحد لذا قال بعد أن ضل: «إني أخاف الله والله شديد العقاب» (الأنفال، 8/48).

كما أنه يؤمن باليوم الآخر إذ هو يقول: «رب فأنظرني إلى يوم يبعثون» (الحجر، 15/36).

ولكنّ بدأ كفر إبليس باعتراضه لأمر الله تعالى، ونزاعه معه ثم ازداد كفره كلما عصى أمرا من أوامر الله تعالى. لأن إبليس سوى نفسه مع الله بالاعتراض عليه والنزاع معه، وبالتالي أنه تأله نفسه من دون الله تعالى.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] الأنعام لفظ يجمع الإبل والبقر والضأن والمعز.