بسم الله الرحمن الرحيم
قد اختلف اهل العلم في تفسير هذه الآية على قولين :
1 - أن المقصود الكتاب الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة .
2 - أن المقصود القرآن لا يمسه إلا الطاهر أما المحدث حدثا أكبر أو أصغر على خلاف بين أهل العلم فإنه لا يمسه .
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية في " شرح العمدة (1/384) القول الأول ، فقال :
والصحيح اللوح المحفوظ الذي في السماء مراد من هذه الآية وكذلك الملائكة مرادون من قوله المهطرون لوجوه :
أحدهما : إن هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومن بعدهم حتى الفقهاء الذين قالوا : لا يمس القرآن إلا طاهر من أئمة المذاهب صرحوا بذلك وشبهوا هذه الآية بقوله : " كَلَّا إِنَّهَا . تَذْكِرَةٌ . فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ . مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [ عبس : 11 - 16] .
وثانيها : أنه أخبر أن القرآن جميعه في كتاب ، وحين نزلت هذه الآية لم يكن نزل إلا بعض المكي منه ، ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
وثالثها : أنه قال : " فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ " [ الواقعة : 78] ، والمكنون : المصون المحرر الذي لا تناله أيدي المضلين ؛ فهذه صفة اللوح المحفوظ .
ورابعها : أن قوله : " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [ الواقعة :79] ، صفة للكتاب ، ولو كان معناها الأمر ، لم يصح الوصف بها ، وإنما يوصف بالجملة الخبرية .
وخامسها : أنه لو كان معنى الكلام الأمر لقيل : فلا يمسه لتوسط الأمر بما قبله .
وسادسها : أنه لو قال : " الْمُطَهَّرُونَ " وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم ، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل : المتطهرون ، كما قال تعالى : " فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ " [التوبة :108] ، وقال تعالى : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [ البقرة : 222] .
وسابعها : أن هذا مسوق لبيان شرف القرآن وعلوه وحفظه .
وقال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2/417) :
قلت : مثاله قوله تعالى : " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [ الواقعة :79] قال - يقصد الإمام ابن القيم شيخَ الإسلام - : والصحيح في الآية أن المراد به الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة :
- منها : أنه وصفه بأنه مكنون والمكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة .
- ومنها : أنه قال : " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [ الواقعة :79] ، وهم الملائكة ، ولو أراد المتوضئين لقال : لا يمسه إلا المتطهرون ، كما قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [ البقرة : 222] . فالملائكة مطهرون ، والمؤمنون متطهرون .
- ومنها : أن هذا إخبار ، ولو كان نهيا لقال : لا يمسسه بالجزم ، والأصل في الخبر أن يكون خبرا صورة ومعنى .
- ومنها : أن هذا رد على من قال : إن الشيطان جاء بهذا القرآن ؛ فأخبر تعالى : أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين ، ولا وصول لها إليه كما قال تعالى في آية الشعراء : " وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [ عراء : 210 - 211] وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة .
- ومنها : أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس : " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ . مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [ عبس : 12 - 16] ، قال مالك في موطئه : أحسن ما سمعت في تفسير : " لَا يَمَسُّهُ إالْمُطَهَّرُونَ " أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس :
- ومنها : أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد ، وإثبات الصانع ، والرد على الكفار ، وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف .
- ومنها : أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان ، ولا ينال منه ، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية ؛ فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك .ا.هـ.
وفي تفاسير اخرى
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى" لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ": اختلف في معنى "لا يمسه" هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في "المطهرون" من هم؟ فقال أنس وسعيد وابن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة.
وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم, فجبريل النازل به مطهر, والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون.
الكلبي: هم السفرة الكرام البررة.
وهذا كله قول واحد, وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله "لا يمسه إلا المطهرون" أنها بمنزلة الآية التي في "عبس وتولى" [عبس: 1]: "فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة" [عبس: 12-16] يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة عبس.
وقيل: معنى "لا يمسه" لا ينزل به "إلا المطهرون" أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء.
وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون.
وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل, وهو اختيار مالك.
وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا, وهو الأظهر.
وقد روى مالك وغيره أن في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته: (من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد) وكان في كتابه: ألا يمس القرآن إلا طاهر.
وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر).
وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: "لا يمسه إلا المطهرون" فقام واغتسل وأسلم.
وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: "لا يمسه إلا المطهرون" من الأحداث والأنجاس.
الكلبي: من الشرك.
الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا.
وقيل: معنى "لا يمسه" لا يقرؤه "إلا المطهرون" إلا الموحدون, قاله محمد بن فضيل وعبدة.
قال عكرمة: كان ابن عباس ينهي أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون, أي المؤمنون بالقرآن.
ابن العربي: وهو اختيار البخاري, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا).
وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق.
وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء.
وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون.
ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع, أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا, فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع, وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي.
وقال الإمام الطبري ملخصا القول في المسألة: والصواب من القول من ذلك عندنا, أن الله جل ثناؤه, أخبر أن لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون فعم بخبره المطهرين, ولم يخصص بعضا دون بعض; فالملائكة من المطهرين, والرسل والأنبياء من المطهرين وكل من كان مطهرا من الذنوب, فهو ممن استثني, وعني بقوله: {إلا المطهرون} .
الروابط المفضلة