الله .. يحب التوابين , ويحب المتطهرين , بل يفرح بتوبة عبده إليه , أعظم من فرحة إنسان كان بأرض فلاة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه ,فانفلتت منه , فأيس منها , فجلس إلى جذع شجرة ينتظر الموت ,فأخذته إغفاءة ثم أفاق , فإذا بها واقفة عند رأسه , وعليه طعامه وشرابه , فقام إليها , وأمسك بزمامها ثم صاح من شدة الفرح : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) فسبحانه ما أعظمه وأرحمه , يفرح بتوبة عبده ليفوز بجنانه , ويحظى برضوانه , وهو ـ جلا وعلا ـ ينادي عباده المؤمنين بقوله
} وَتُوبُوا إلى اللهِ جَميِعاً أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفْلِحُونَ { " سورة النور , آية 31"
فالتوبةغسل القلب بماء الدموع وحرقة الندم , فهي حرقة في الفؤاد , ولوعة في النفس , وانكسار في الخاطر , ودمعة في العين .
إنها مبدأ طريق السالكين , ورأس مال الفائزين , وأول أقدام المريدين , ومفتاح استقامة المائلين , التائب يضرع ويتضرَّع , ويهتف ويبكي , إذا هدأ العباد لم يهدأ فؤاده , وإن سكن الخلق لم يسكن خوفه , وإذا استراحة الخليقة لم يفتر حنين قلبه , وقام بين يدي ربه بقلبه المحزون , وفؤاده المغموم مُنَكَّس رأسه , ومقعشر جلده , إذا تذكر عظيم ذنبه , وكثير خطئه , هاجت عليه أحزانه , واشتعلت حرقات فؤاده , وأسبل دمعه , فأنفاسه متوهجة , وزفراته بحرقة فؤاده متصلة , قد ضمر نفسه للسباق غدا , وتخفف من الدنيا لسرعة الممر على جسر جهنم .
يا نفس توبي فإن المـــوت قد حـــانا *** واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا أما ترين المــنايا كــــــيف تلقطــــنا *** لقطـــا وتلحـــق أخــرنا بــــأولانا في كل يـــــوم لنا ميـــت نشيـــــعه *** نــرى بمصــــرعه آثـارموتــــــانا يا نفس ما لي وللأمــــوال أتركـــها *** خلفي وأخـرج من دنــياي عريـــانا أبعــد خمســين قد قضيتـها لعـــبا *** قد آن أن تقصـري قــد آنقــــد آناما بالــــنا نتعامــى عن مصائـــرنا *** ننسى بغفلـــتنا من ليــس ينســــانا نزداد حرصا وهذا الدهــر يزجـرنا *** وكان زاجـرنا بالحـــرص أغـــــــرانا أين الملــــوك وأبــناء الملــوك ومـن *** كانت تخـر له الأذقــــــان إذ عـــانا صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا *** مستـــبدلين من الأوطـــان أوطــــانا خلوا مدائــــن كان العـــز مفرشــها *** واستفرشـوا حفرا غـــبرا وقيعـــانا يا راكضا في ميادين الهــوى مــرحا *** ورافــلا في ثياب الغـــي نشــــوانا مضى الزمان وولى العمـــــر في لعب *** يكفيك ما قد مضى قــد كان ما كانا ومن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفا تقطع قلبه في الآخرة إذا حقت الحقائق , وظهرت الوثائق , وحضرت الخلائق , وعاين ثواب المطيعين , وعقاب العاصين } يَوْمَ يَنظُرُ الْمًرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَني كُنتُ تُرَاباً { " سورة النبأ , آية 40 "
يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ( يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة )
هذا الذي غفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه , ومحي عنه ما سلف وما خلف من زلل , يتوب في اليوم مائة مرة , فكيف بمن تجارته المعاصي , وبضاعته السيئات , ثم يتنكر للاستغفار ويتجافى عن التوبة .؟؟!!
فالتوبة هروب من المعصية إلى الطاعة , ومن السيئة إلى الحسنة , ومن وحشة العصيان إلى الأنس بالرحمن , إنها فرار من الخالق إلى أعتابه , وهروب من الجبار إلى رحابه , وعياذ برضاه من سخطه , وبمعافاته من عقوبته , وبه منه لا يحصى ثناء عليه , لا ملجأ منه إلا إليه , ولا مفر عنه إلى سواه , } فَفِرُّوا إِلَى الله إِِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ { " سورة الذاريات , آية 50 "
والتوبة ملاذ مكين , وملجأ حصين , دنس المعاصي يغسل بماء التوبة , ولوثة الخطايا تزال بزلال الاستغفار .
أسأت ولم أحسن وجئتك تائبا *** وأنى العبد من مواليه مهــــرب يؤمل غفرانا فإن خاب ظـــنه *** فما أحد منه على الأرض أخيب انظر إلى فضله جل وعلا وجميل عفوه وبديع كرمه , فهو العلي العظيم , الغني الكريم , الحميد المجيد , الذي لا تنفعه طاعة ولاتضره معصية , ومع ذلك يفرح بتوبة عبده إليه وانطراحه بين يديه , هذا المعنى الجميل تعجز العبارات العادية عن بيانه , وتقصر الألفاظ المجردة عن إعلانه .
فيقدمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثوب من التمثيل قشيب , ولوم من التصوير عجيب , فيقول ( لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة , فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه , فأيس منها فأتى على شجرة فاضطجع في ظلها ـ وقد أيس من راحلته ـ فبينما هو كذلك إذا بها قائمة عنده , فأخذا بخطامها , ثم قال منشدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك , أخطأ من شدة الفرح )
ففي القلب شعث , لايملمه إلا الإقبال على الله , وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته , وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور إلا بمعرفته ,وصدق معاملته , وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه , وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضي بأمرهو نهيه , وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه , وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له , ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا.
المرجع / الله أهل الثناءوالمجد .
المؤلف / ناصر بن مسفر القحطاني .
منقول
الروابط المفضلة