تعليقات العلامة عبد الفتاح أبي غدة


على رسالة المسترشدين (للمحاسبي)


(الجزء الخامسة عشر)


========================


وابذلِ النصيحةَ لله للمؤمنين، وشاور في أمرك اللذين يخشون الله1. قال الله عزَّ وجل: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)) [سورة فاطر: 38] وقال النبي r : ((الدين النصيحة))[2].
واعلم أنَّ من نصحك فقد أحبك[3]، .......................

[1]قول المحاسبي: (وشاور في أمرك الذين يجشون الله) هذه الجملة من كلمة ناصحة لسيدنا عمر بن الخطاب t، رواها عنه ابم المبارك في كتاب ((الزهد)) ص 491 ، ونصها بتمامها: ((لا تعرض بما لا يعنيك واعتزل عدوك واحتفظ من خليلك الا الأمين فان الأمين ليس شيء من القوم يعدله ولا أمين إلا من يخشى الله ولا تصحب الفاجر فيحملك على الفجور ولا تفش اليه سرك وشاور في أمرك الذين يخشون الله تعالى)).

[2] رواه مسلم في ((صحيحه)) 2: 36 في كتاب الإيمان (باب بيان أن الدين النصيحة)، عن تميم الداري t.
أسلوب النصيحة الحسَن الناجع:
واعلم أن عبارتك ولهجتك في نصيحتك لبعض الناس، غيرُ عبارتك ولهجتك في نصيحتك للخليفة أو السلطان أو الحاكم أو الأمير أو الوالد أو الكير إذا أخطأ. وليست الشدة في الخطاب دائماً هي الأولى في النصح، وأنجع في الموعظة، وأدلَّ على الدين، وأبرأ للذمة.
نصيحة ابن الجوزي للخليفة المستضيء بالله:
وانظر موقف الإمام ابن الجوزي، ونصيحته للخليفة، كيف كان على غاية من الكياسة وحُسن الخطاب والتذكير، فقد تكلم يوماً في مجلس الخليفة العباسي الهاشمي المستضيء بالله –حسن بن يوسف- المتوفى سنة 574، وحكى له موعظة شيبان الراعي للخليفة هارون الرشيد ، ثم قال:
((يا أمير المؤمنين ان تكلمت خفت منك وان سكت خفت عليك فانا أقدم خوفي عليك لمحبتي لك، على خوفي منك، قول الناصح: اتق الله، خير من قول القائل: أنتم بيت مغفور لكم)). انتهى من ((طبقات المفسرين)) للداودي 1: 373، و ((المنتظم)) لابن الجوزي 1: 284.
فما أجزل هذا النصح؟ وما أدق التعبير فيه؟ وما آدبه وأوفاه؟ وانظر ما أجمل حذفه لمتعلق (تكلمتُ) و (سكت)، وحذفه لكاف الخطاب من قوله (قول الناصح) و (قول القائل)، فما قال: (إن تكلمت في نصحكم.. )، و(إن سكت عن نصحكم...)، و (قول الناصح لكم...)، و (قول القائل لكم...)، بل حذف كل ما يتصل بالخطاب، وأطلق الكلام عن المواجهة بهن لأن المقام يؤدي المطلوب، وإنما واجهه بالخطاب في الجملة الأخيرة المادحة: (...أنتم أهل بيت مغفور لكم)، فاعرف هذا.
وصف من يأمر السلطان أو ينهاه:
وإذا توجّهت همتك إلى نُصح السلطان، فلا تنس ما رسمه الإمام سفيان الثوري سيد أهل زمانه t في هذا الصدد، قال: ((لا يأمر السلطان بالمعروف إلا رجل عالم بما يأمر عالم بما ينهى رفيق فيما يأمر رفيق فيما ينهى عدل فيما يأمر عدل فيما ينهى)). من ترجمته من ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصفهاني 6: 379.

[3]وانظر مأجمل هذه النصيحة التي حوَّلت الحرم إلى حلال، والفجور إلى طاعة، فلله درُّ قائلها وفاعلها! إنه مغنية السلطان ملكشاه السلجوقي، المولود سنة 447، والمتوفى سنة 485 رحمه الله تعالىن فإنه مما أُثر عنه وعدَّ من عيون محاسنه: هو أنه أُحضرت له مغنية وهو بالري، فأُعجب بها‘ واستطاب غِناءها، وهمَّ بها.
فقالت له: يا سلطان ، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذب بالنار، فإنَّ الحلال أيسر، وبينه وبين الحرام كلمة! فقال: صدقت، واستدعى القاضي فزوجها منه، وابتنى بها، وتوفيَ عنها، رحمهما الله تعالى. انتهى. من ترجمته في ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان 2: 124. فيا ألله ما أصدقها من كلمة، وما أعظمها من حكمة ونصيحة ، وما أطيب سماعها على قلب المؤمن وسمعه، فكيف بطيب وقعها على قلب الممتثل لها، فاللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك، واحفظنا من طربات الهوى ! فإنها الردى والهلاك.