تعليقات العلامة عبد الفتاح أبي غدة
على رسالة المسترشدين (للمحاسبي)
(الجزء الثالثةعشر)
========================


وتواضع للحق واخضع له، وأدِمْ ذكر الله تنل قُربهُ


===========
[1]كما هو شأن المؤمنين الصالحين. فإنهم إذا عرفوا الحق سارعوا إليه، وإذا كشفوا الباطل في نفوسهم تنكروا له وعدلوا عنه. وقد وقع لعمرو بن عبيد أنه قال في مسألة رأياً فأخطأ فيه، فناقشه واصل بن عطاء فتبين لعمرو بن عبيد خطأه في تلك المسألة ، فرجع إلى الحق قائلاً: ما بيني وبين الحق من عداوة. والقول قولك، وأشهد من حضر أني تارك ما كنت عليه. فاستحسن الناس ذلك منه، إذ رجع من قول كان عليه، إلى قول آخر من غير شغب، واستدلوا بذلك على ديانته. من ((المنية والأمل)) لابن المرتضى ص 51.
قول عبيد الله العنبري: أرجع إلى الحق وأنا صاغر...
وحكى أبو نعيم في ((الحلية)) 9: 6، والحافظ ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) 7: 7 في ترجمة (عبيد الله بن الحسن العنبري) المتوفى سنة 168، أحد سادات أهل البصرة وفقهائها وعلمائها وكان قاضييها : ((قال عبد الرحمن بن مهدي تلميذه: كنا في جنازة فسألته عن مسألة فغلط فيها. فقلت له: أصلحك الله ، ألقول فيها كذا وكذا. فاطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: إذاً أرجِعْ وأنا صاغر. لأن أكونَ ذنباً في الحقِّ أحبُّ إليَّ من أن أكون رأساً في الباطل)) . رحمه الله تعالى.
وجاء في ((تهذيب التهذيب)) أيضاً 10: 22، في ترجمة (مالك بن مِغول الكوفي) المتوفي سنة 159 ((قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: سمعت بن عيينة يقول: قال رجل لمالك بن مِغْول: اتق الله ، فوضع خده بالأرض)) رحمه الله تعالى. ورضي عنه.
بيان ابن القيم فوائد ذكر الله وهي مغرية للذكر:
[1]في قول المؤلف المحاسبي رحمه الله تعالى: ((وأدم ذكر الله تنل قُربه)) إشارة منه إلى فائدة جُليَّ من فوائد ذكر الله عز وجل. وهي القرب من الله سبحانه. وقد استوفى الإمام الشيخ ابن القيم بيان فوائد ذكر الله تعالى، في كتابه ((الوابل الصيب)) ص 57 – 133 استيفاءً حسناً ، يُحبِّب الذكر إلى الغافلين والذاكرين جميعاً . فذكرها بدليلها فائدةً فائدة ، وأنا أنقل لك جملة من عناوين ما أشار إليه، فارعه سمعك لتكون من ((وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ)). قال رحمه الله تعالى:
((وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة : يرضي الرحمن ، يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره، أنه يزيل الهم والغم عن القلب، أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط، أنه يقوى القلب والبدن ،أنه ينور الوجه والقلب، أنه يجلب الرزق، أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة، أنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام ، ويورث المعرفة والإنابة والقرب، وحياة القلب، وذكر الله للعبد.
أنه قوت القلب والروح ويجلو صدأه، ، يحط الخطايا، ويرفع الدرجات، ويُحدث الأنس، ويزيل الوحشة، ويذكر بصاحبه، يُنجي من عذاب الله، ويوجب تنزيل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر، ويشغل عن الكلام الضار، ويسعد الذاكر، ويسعد به جليسه، ويؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة، وهو مع البكاء سبب لإظلال الله للذاكر، وبه تحصل العطايا والثواب المتنوع من الله تعالى.
وهو أيسر العبادات وأفضلها، وهو غراس الجنة، ويؤمن العبد من نسيان بره سبحانه. ويعم الأوقات والأحوال وليس شيء من الطاعات مثله. وهو نور للعبد في دنياه وقبره ويوم حشره، وبه تخرج أعمال العبد وأقواله ولها نور، وهو رأس الولاية وطريقها، ويزيل خلة القلب، ويفرِّق غمومه وهمومه، وينبه القلب من نومه، ويثمر المعارف والأحوال الجلية ، والذاكر قريب من مذكورة ، والله معه، وأكرم الخلق على الله: من لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله.
وهو يزيل قسوة القلب، وما استجلبت نعم الله، واستدفعت نِقمه بمثل ذكره. ويستجلب صلاة الله وملائكته –أي ثناءه وثناء ملائكته سبحانه- على الذاكر. ومجالس الذكر مجالس الملائكة ورياض الجنة، وجميع الأعمال إنما شُرعت لإقامة ذكر الله تعالى، وأفضل كل أهل عمل أكثرهم فيه لله ذكراً، وإدامة الذكر تنوب مناب كثير من الطاعات البدنية والمالية والمركبة منها.
وهو يعين على طاعة الله ، ويسهل كل صعب، وييسر الأمور، ويعطي الذاكر قوة في قلبه وبدنه، والذاكرون أسبق العمال في مضمار الآخرة، وهو سد بين العبد وبين نار جهنم، وتستغفر الملائكة للذاكر، وتتباهى الجبال وبقاع الأرض بمن يذكر الله عليها، وتشهد له . والذكر أمان من النفاق.
ويدخل في ذكر الله ذكر أسمائه وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه عما لا يليق به، والخبر عن أحكام ذلك، وذكر أمره ونهيه، ويكون الذكر بالقلب واللسان، وهو الأكمل، ثم القلب وحده، ثم اللسان وحده. وأفضل أنواع الذكر: القرآن ، ثم الذكر والثناء على الله ، ثم أنواع الأدعية)). انتهى كلام الإمام ابن القيم.

شمول ذكر الله لأنواع كثيرة:
وقال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 13: 23 عند شرح حديث البخاري: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد،...... استيقظ فذكر الله انحلت عقدة...)) قال رحمه الله تعالى: ((لَا يَتَعَيَّن لِلذِّكْرِ شَيْء مَخْصُوص لَا يُجْزِئ غَيْره ، بَلْ كُلّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ ذِكْر اللَّه أَجْزَأَ ، وَيَدْخُل فِي تِلَاوَة الْقُرْآن وَقِرَاءَة الْحَدِيث النَّبَوِيّ وَالِاشْتِغَال بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيّ)). انتهى
قوة الذكر وبركته عند الإمام ابن تيمية:
وقال الشيخ ابن القيم في الكتاب المذكور: ((الوابل الصيب)) ص 108 وهو يتحدث عن فوائد الذكر لله تعالى ويعددها: ((أن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه.
وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابه أمرا عجيبا فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعه وأكثر وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما)).
قوله: الذكر للقلب مثل الماء للسمك:
ويقول فيه أيضاً في ص 58 – 59 ((وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول : الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء ؟
وحضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلي وقال : هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي أو كلاما قريبا من هذا وقال لي مرة : لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلاما هذا معناه.
أنواع الذكر عند رسول الله e :
وقال الشيخ ابن القيم أيضاً رحمه الله تعالى في كتابه ((زاد المعاد))في (فصل في هديه r في الذكر) 2: 37.
((كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في ذكرا لله عز وجل بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وحمده وتسبيحه ذكرا منه له وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه.
فكان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه وفي مشيه وركوبه ومسيره ونزوله وظعنه وإقامته)).انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
الإشارة إلى الذكر المشروع والذكر الممنوع:
هذا ، وذكر الله تعالى باللسان، سراً وجهراً بانفراد أو جماعة مشروع بشروطه وآدابه، ولكن الذكر الذي يقوم به بعض الناس، بحركات موزونة مرتبة، وترنيمات متصنعة مطربة، وقفز ووثب، ونط وجذب، وانحناء للأمام ورفع ، والتفات عنيف ودفع، فالفطرة السليمة تنبو عنه، والقلب الخاشع يتبرأ منه، لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، كما قاله سعيد بن المسيب r.
وأشد من هذا نكراً: أنهم يذكرون اسم (الله) سبحانه، في أول دوران حلقاتهم بلفظ هاديء مفهوم، ثم يسارعون بالذكر والخلع والوثب، حتى لا يفهم عنهم ما يقولون! فما هي إلا أصوات تنخفض وترتفع، وأنفاس مبهورة تشتد وتندفع، وهمهمة تتردد، وحركات تتجدد، ويعدون ذلك ذكراً لله! فإنا لله –من قلة الأدب مع الله- وإنا إليه راجعون.