تعليقات العلامة عبد الفتاح أبي غدة
على رسالة المسترشدين (للمحاسبي)
(الجزء الثانية عشر)
========================


وكن بالحق، عاملاً به، يَزِدْك اللهُ نوراً وبصيرة ، ولا تكنْ ممن يأمرُ به ويَنْأى عنْهُ ، فيبوء بإثمه ، ويتعرَّض لمَقْتِ ربِّه ، قال اللهُ عز وجل : ]كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ[من سورة الصف: 3 ، وقال رسول الله r : ((مَن وَعَظَ ولم يَتَّعِظ ، وَزجَر ولم يَنزَجِر ، ونَهى ولم يَنْته ، فهو عند الله من الخائبين))[1].
ولا تخالط إلا عاقلاً تقياً ، ولا تجالس إلا عالماً بصيراً[2]. وقد سئل النبي r: أي جلسائنا خير ؟ قال: ((من ذكركم بالله رؤيته[3] ، وزادكم في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله))[4].

[1]هذا الحديث لم أقف عليه فيما رجعت إليه من كتب الحديث الصحيح والضعيف والموضوع ، فالله أعلم به.
الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلماء:

[2]وكان الحسن البصري y يقول: الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلماء. من ((جامع العلم وفضله))لابن عبد البر 1: 51. وقال سهل بن عبد الله التستري: من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء، فلينظر إلى مجالس العلماء. من ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم ص 129.
آثار مجالسة الأئمة الصالحين الكبار:

[3]وذلك لأن النظر إلى الذات القدوة أفعل في النفس من السماع عنها، وأبقى لآثار الخير في ناظرها، وقد كان لأصحاب رسول الله e من ذلك الحظ الأوفر، لمجالستهم له e ومشاهدتهم إياه وقربهم منه، فكانوا خير أُمة أُخرجت للناس بعد سيد الناس عليه الصلاة والسلام.
ورؤية الرجل الصالح القدوة إنما تذكر بالله، لما يُرى عليه من النور والإشراق، والأنس والطمأنينة، والسكينة، في سمته وهيبته وخشعته، في نطقه وصمته وإطراقه وحركته وسكونه ، وكل شؤونه، فلا ينظر ناظر إلا كان نظرُه إليه مُذَكراً له بالله، وكانت صورته موجهة له للإقبال على الله، أولئك الذين إذا رؤوا ذكر الله.

كيف ينطبع الخير في قلوب مجلِسي الصالحين:
قال الحكيم الترمذي رحمه الله تعالى، في ((نوادر الأصول)) ص 140 عند شرح قوله e: (من ذكركم بالله رؤيته) (هم الذين عليهم من الله سمات ظاهرة، قد علاهم بهاء القربة، ونور الجلال، وهيبة الكبرياء وأنس الوقار فإذا نظر الناظر إليه –أي إلى واحد منهم- ذكر الله تعالى، لما يرى من آثار الملكوت.
والقلب معدن هذه الأشياء، ومستقر النور، وشرب الوجه من ماء القلب، فإذا كان على القلب نور سلطان الوعد والوعيد، أدى إلى الوجه ذلك النور، فإذا وقع بصرك عليه ذكرك البر والتقوى، ووقع عليك منه مهابة الصلاح والعلم بأمر الله تعالى.
وإذا كان على القلب نور سلطان الله على وجه، فإذا وقع بصرك عليه ذكرك الصدق والحق، ووقع عليك منه مهابة الحق والاستقامة. وإذا كان على القلب نور سلطان الله تعالى وعظمته وجلاله، أدى ذاك إلى الوجه،فإذا وقع بصرك عليه ذكرك عظمة الله وجلاله وسلطانه.وإذا كان على القلب نور الله تعالى، وهو نور الأنوار نهتك رؤيته عن النقائص والمخالفات.
فشأن القلب أن يسقي عروق الوجه، وبشرته من ماء الحياة الذي يرطب به، ويتأدي إلى الوجه منه ما فيه غير ذلك، فكل نور من هذه الأنوار كان في قلب: شرب وجهه منه، قال تعالى: ]ولقاهم نضرة وسروراً[. أي سروراً في القلب، ونضرة في الوجه.
فإذا سر القلب برضا الله تعالى عن العبد، وبما يشرق فيه من نور: نضرت الوجوه بما ولج القلوب، وهو الذي دلَّ النبي eعلى الذكر لله عند رؤيته، وصيَّره علامة لأهل ولايته)). انتهى كلام الحكيم الترمذي مصححاً متمماً من ((فيض القدير)) للمناوي 3: 467.
قال عبد الفتاح: وقد كان هذا النوع الكريم في السلف منتشراً وكثيراً، وكان الناس يقصدون لقاءه للانتفاع بالنظر إليه، إذ كانت رؤيته وحدها تنير القلب، وتحرك الصلاح في النفس، وتحبب بالدين، وتذكر بالله تعالى.
قال الإمام ابن الجوزي في كتابه((صيد الخاطر)) 2: 303 ((قد كان جماعة من السلف يقصدون البعد الصالح للنظر إلى سمته وهديه. لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته)) انتهى. وقال أبو طالب المكي في ((قوت القلوب))((وقد كانوا يقصدون الأمصار للقاء العلماء والصالحين، للنظر إليهم، وللتبرك والتأدب بهم)) انتهى.
قيل ليونس بن عبيد : أتعرف أحداً يعمل بعمل الحسن البصري؟ فقال: والله لا أعرف أحداً يقول بقوله فكيف يعمل بعمله؟! ثم وصفه فقال: كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أُمر بضرب عنقه! وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له.
قال أشعث بن عبد الله أحد أصحابه: كنا إذا دخلنا على الحسن، خرجنا ولا نعُدُّ الدنيا شيئاً. وقال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه. من ((الحلية)) لأبي نعيم 2: 158 و ((البداية والنهاية)) لابن كثير 9: 267.
وقال مطر الوراق: كان جابر بن زيد رجل أهل البصرة فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان في الآخرة فهو يخبر عما رأى وعاين. من ((تهذيب التهذيب)) 2: 264.
4- وقال جعفر بن سليمان: كنت إذا وجدت في قلبي قسوة، غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع البصري كأنه ثكلى. من ((تاريخ الإسلام)) للذهبي 5: 159. وهو تلميذ الإمام الحسن البصري، وأحد العلماء العباد والصلحاء الزهاد المجاهدين في سبيل الله، توفي سنة 132 رحمه الله تعالى.
5- وكان الإمام الحافظ هشام بن حسان القردوسي البصري، المتوفى سنة 148 رحمه الله تعالى، من البكائين العابدين، أحضرت إلى بابه الجمل والزاد والسفرة ليحج فشق على أمه وأخذها شبه الرعدة، فبَطَّل من أجلها فلما توفيت كان لا يدع الحج، وكان يديم الصوم سوى يوم الجمعة من أجل أمه، فلما ماتت سرد الصوم. وقال حماد بن سلمة كانت رؤية هشام بن حسان تبكي. انتهى من ((تذكرة الحفاظ)) 1: 163.
6- وجاء في ترجمة المحدث الثقة عبد الله بن شوذب الخراساني البلخي، المتوفى سنة 156 رحمه الله تعالى: سكن البصرة، ثم بيت المقدس، قال تلميذه كثير بن الوليد: كنت إذا نظرت إلى عبد الله بن شوذب ذكرت الملائكة. من ((تهذيب التهذيب)) 5: 255.
7- وجاء في ترجمة عبد العزيز بن أبي رواد المكي، المتوفى سنة 159 رحمه الله تعالى: قال عبد الله بن المبارك فيه: كان يتكلم ودموعه تسيل على خده . وقال تلميذه شعيب بن حرب: كنت إذا نظرت إلى عبد العزيز بن أبي رواد، رأيت كأنه يطلع إلى القيامة. أي ينظر إلى أهل القيامة وهم فيها. من ((تهذيب التهذيب)) 6: 338 و 339.
8- وجاء في ترجمة الإمام مالك بن أنس عالم المدينة وإمام المذهب المالكي، المتوفى سنة 176 رحمه اله تعالى: قال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي e عنده تغير لونه وانحنى، حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم لما أنكرتم عليَّ ما ترون، كنت آتي محمد بن المنكدر وكان سيد القراء –أي سيد العلماء- لا نكاد نسأله عن حديث إلا بكى حتى نرحمه.
ولقد كنت آتى جعفر بن محمد –هو الإمام جعفر الصادق- وكان كثير المزاح والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اخضر واصفر، وقال مالك كلما أجد في قلبي قسوة آتي محمد بن المنكدر، - وكان يجتمع عنده الصالحون ليقتبسوا من هديه وصلاحه- فأنظر إليه نظرة فأتعظ أياماً بنفسي. من ((ترتيب المدارك)) للقاضي عياض 2: 51 – 52.
9- وجاء في ترجمة الإمام العابد الزاهد المحدث الفضيل بن عياض، الخراساني ثم المكي، المتوفى سنة 187 رحمه الله تعالى: قال إبراهيم بن الأشعث خادم الفضيل: ما رأيت أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل كان إذا ذكر الله عنده أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه فبكى حتى يرحمه من بحضرته. خالد بن رباح قال: قال لي ابن المبارك: إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن ومقت نفسي! ثم بكى. من ((تهذيب التهذيب)) 8: 296.
10- وجاء في ترجمة الحافظ الإمام المحدث الخاشع عبد الله بن مسلمة القعنبي المدني ثم البصري، المتوفى سنة 221 رحمه الله تعالى، الذي قال فيه الإمام مالك –لما قيل له: قدم القعنبي إلى المدينة –قوموا بنا إلى خير أهل الأرض، جاء في ترجمته أنه كان إذا مرَّ بمجلس يقولون: لا إله إلا الله. من ((تذكرة الحفاظ)) 1: 383.
ومثل هؤلاء السادة في رجال السلف غير قليل، وما أجمل ما قيل، فيمن كان من هذا القبيل:

إذا سكن الغدير على صفاء***وجنب أن يحركه النسيم
بدت فيه السماء بلا امتراء *** كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك (وجوه) أرباب التجلي*** يُرى في صفوها الله العظيم

وأما قول النبي e : ((زادكم في علمكم منطقه)). فقد قال الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري t: لمجلس كنت أجالسه عبد الله بن مسعود t أوثق في نفسي من عمل سنة.
وجاء في كتاب ((العلل ومعرفة الرجال)) للإمام أحمد بن حنبل 1: 345، و 2: 306. وفي((وفيات الأعيان)) للقاضي ابن خلكان 1: 271 في ترجمة التابعي الجليل (عبيد الله بن عتبة بن مسعود) أحد فقهاء المدينة السبعة، الرجل الصالح الجامع للعلم البحر، الشاعر الرقيق المبدع، المتوفى سنة 99 رحمه الله تعالى، ما نصه:
((قال عمر بن عبد العزيز: لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إلي من الدنيا؛ " وقال: والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك فقال: أين يذهب بكم والله إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف، إن في المحادثة تلقيحاً للعقل، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهمّ، وتنقيحاً للأدب)) انتهى. وقد صدق t. وما أصدق ما قيل:

وما بقيت من اللذات إلا *** محادثة الرجال ذوي العقول

[4]الحديث حسن بشواهده.