تعليقات العلامة عبد الفتاح أبي غدة
على رسالة المسترشدين (للمحاسبي)
(الجزء الحادية عشر)
========================


واعلم أنك لن تجد طعم الإيمان حتى تُؤمن بالقدر خيره وشره[1].


========================

[1]كيف يتحقق طعم الإيمان:
أي من الله تعالى ، وحتى تعلم وتتيقن أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، روى أبو داود في ((سننه)) 4: 225 واللفظ لأحمد، عن التابعي الجليل الوليد بن عبادة ، قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال أجلسوني قال يا بني إنك لن تطعم طعم الإيمان ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قال قلت يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره قال تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم ثم قال اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة يا بني ان مت ولست على ذلك دخلت النار)).
وعن ابن عباس y قال:كنت خلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ومن دعاء النبي r : ((اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما
كتب لي ، ورضني من المعيشة بما قسمت لي)) رواه البزار كما ((مجمع الزوائد)) 10:181 للهيثمي وقال: ((وفي سنده سعيد بن سنان وهو ضعيف)).

من لم يؤمن بالقدر لم يهنأ بعيشه:
وقال الإمام الجليل إبراهيم الحربي تلميذ الإمام أحمد بن حنبل وشبيهه من بعده: أجمع عقلاء أمة أنه من لم يجر مع القدر –أي يرض به- لم يهنأ بعيشه. من ترجمته في ((تاريخ بغداد)) 6: 30.
لا تحتج بالقدر عند ارتكابك المعصية:
هذا ، وحذار أن تحتج بالقدر فيما ترتكبه من تقصير أو ذنوب وآثام، فإن القدر ليس بحجة لك في ذلك، إنَّ القدر لا يجبرك على امتثال أمر، بفعل الطاعة، ولا على مخالفة نهي، بفعل المعصية، وإنما أنت بإرادتك أتبعت هواك، وملت إلى الشهوات الشهوات والمحرمات ، ثم قمت تنزه نفسك بالاحتجاج بالقدر، وتُضيف وقوعها إلى قدر الله تعالى، لتبرأ من معرتها ودناستها، فهذا إن صدر عنك كان خطأ في الفهم وانحرافاً في العقيدة، نعوذ بالله من ذلك.
إبطال احتجاج المذنب بالقدر:
((قال عبد الله بت عمر حين قال له بعض الناس: يا أبا عبد الرحمن ، إن قوما يزنون، ويشربون الخمر، ويسرقون، ويقتلون النفس، ويقولون: كان ذلك في علم الله، فلم نجد بُداً منه، فغضب عبد الله بن عمر، ثم قال:
سبحان الله العظيم، قد كان في علم الله تعالى أنهم يفعلون ذلك، ولم يحملهم علم الله على فعلها، مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم، والأرض التي أقلتكم، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض، كذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب، كذلك لا يحملكم علم الله عليها.
ثم قال ابن عمر: لعبد يعمل المعصية ثم يُقر بذنبه على نفسه أحب إليَّ من عبد يصوم النهار ويقوم الليل، ويقول: إنَّ الله تعالى يفعل الخطيئة فيه)). انتهى من كتاب ((المُنية في شرح كتاب الملل والنحل))لأحمد بن يحيى بن المرتضى اليماني ص 25- 26. وقد جاء فيه بعض كلام سيدنا ابن عمر هذا حديثا مرفوعاً، والصواب أن يكون موقوفاً كما أوردته إذا صحت نسبته إليه، والله أعلم.

خمس وقائع تشهد أن القدر لا يُغلب:
وهذه خمس وقائع –من وقائع كثيرة أمثالها حفظها التاريخ الإسلامي- تشهد فيهما: أن الله إذا قدّر لإنسان سلامة ونجاة ، فلن يستطيع الناس أن يصيبوه بسوء . وإذا قدّر عليه هلاكاً وعَطَباً فلن تقيه الأواقي ، ولن تحفظه الحصون الموانع.
1- الحجاج يخضع للقدر بسلامة من أراد موته:
نقل الحافظ ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) 6: 286، في ترجمة التابعي الجليل ( عبد الرحمن بن أبي نُعْم البجلي الكوفي) العابد الصالح المنوفى قيل سنة مئة من الهجرة، السابق خبره في العبادة في ص 94، ما يلي:
((قال محمد بن فضيل عن أبيه: كان عبد الرحمن يحرم من السنة إلى السنة وكان يقول لبيك لو كان رياء لاضمحل.
وكان من عباد أهل الكوفة، ممن يصبر على الجوع الدائم، ودخل على الحجاج أيم الجماجم [ ]فوعظه، فأخذه الحجاج ليقتله وأدخله بيتا مظلما وسد الباب خمسة عشر يوما ثم أمر بالباب ففتح ليخرج فيدفن فدخلوا عليه فإذا هو قائم يصلي فقال له الحجاج: سر حيث شئت)).
2- بنان الحمَّال يشمه الأسد ولا يؤذيه:
وجاء في ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم 10: 324، و ((تاريخ ببغداد)) للخطيب 7: 101، و ((المنتظم)) لأب الجوزي 6: 217، في ترجمة المحدث العبد الصالح (بنان الحمال البغدادي) ما يلي:
((بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد ، أبو الحسن الزاهد، ويعرف بالحمال، سمع الحسن بن عرفة- المتوفى سنة 257- وغيره، وكان ثقة زاهداً متعبداً، بغدادي الأصل وسكن مصر، وكانت له منزلة عند الخاصة والعامة، وكان لا يقبل من السلطان شيئاً، وكانوا يضربون المثل بعبادته وزهده.
قال أبوعلي الروذباري يقول كان سبب دخولي مصر حكاية بنان وذلك أنه أمر ابن طولون بالمعروف فأمر أن يلقى بين يدي السبع فجعل السبع يشمه ولا يضره فلما أخرج من بين يدي السبع قيل له ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع قال كنت أتفكر في اختلاف الناس في سؤر السباع ولعابها –أي هل هو طاهر أم نجس؟ )).انتهى
قال عبد الفتاح: فسبحان الله ، ما أثبت هذا القلب؟! وما أشد استئناسه بالله تعالى وإعراضه عما سواه، وقد أعاش الله بناناً الحمال بعد وفاة ابن طولون دهراً طويلاً: 43 سنة، ومات بمصرسنة 313 رحمه الله تعالى. وكان يقول: البريء جريء، والخائن خائف، ومن أساء استوحش.

الرافعي يستخرج العظات من واقعة بُنان الحمَّال:
[ولأديب العربية مصطفى صادق ارافعي، في كتابه ((وحي القلم)) 3: 50- 58، مقالة ماتعة كتبها حول هذه الواقعة، بعنوان (الأسد) وفيها عبر وعظات بالغة، أقطف منها هنا كلامه على أهمية وجود الشخصية الصالحة الفعَّلة المؤثرة، في المجتمع، قال رحمه الله تعالى ((والبلد الذي ليس فيه شيخ من أهل الدين الصحيح، والنفس الكاملة، والأخلاق الإلهية، هو في الجهل كالبلد الذي ليس فيه كتاب من الكتب البتة، وإن كان كل أهله علماء، وإن كان في كل محلة منه مدرسة، وفي كل دار من دوره خزانة كتب، فلا تغني هذه الكتب عن الرجال، فإنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل.
ولكن الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح، وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم، إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع، وحياتها عاملة مرئية داعية إلى نفسها.
ولو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها، ووضعوا في ذلك مئة كتاب، ثم رأوا رجلاً فاضلاً بأصدق معاني الفضيلة، وخالطوه وصحبوه، لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة وأجدى على الناس منها، وأدل على الفضيلة من مئة كتاب ومن ألف كتاب.
ولهذا يرسل الله النبي مع كل كتاب منزل، ليعطي الكلمة قوة وجودها، ويخرج الحالة النفسية من المعنى المعقول، وينشيء الفضائل الإنسانية على طريقة النسلمن إنسانها الكبير.
وعلامة الرجل الكامل من هؤلاء أن يعمل وجوده فمن حوله أكثر مما يعمل هو بنفسه، كأن بين الأرواح وبينه نسباً شابكاً، فله معنى أُبوة الأب في أبنائه: لا يراه من يراه مخلوق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع.
ومن عجيب حكمة الله أنَّ الأمراض الشديدة تعمل بالعدوى فيمن قاربها أو لامسها، وأنَّ القوى الشديدة تعمل كذلك بالعدوى فيمن اتصل بها أو صاحبها، ولهذا يخلق الله الصالحين، ويجعل التقوى فيهم إصابة كإصابة المرض: تصرف عن شهوات الدنيا كما يصرف المرض عنها، وتكسر النفس كما يكسرها ذلك، وتُفقد الشيء ما هو به شيء، فتتحول قيمته فلا يكون بما فيه من الوهم بل بما فيه من الحق.
وإذا عدم الناس هذا الرجل الذي يهديهم بقوته العجيبة ، فقلما يصلحون للقوة، فكبار الصالحين، وكبار الزعماء، وكبار الشجعان، وكبار العلماء، وأمثالهم: كل هؤلاء من باب واحد، وكلهم في الحكمة ككبار المرضى))-في قوة التأثير وطبع غيرهم ممن خالطهم أو لامسهم بصفاتهم الفعالة النافذة- انتهى.]
المنصور أبو عامر يريد قتل إنسان فيكتب غلطاً، ثلاث مرات بإطلاقه:
وروى الحافظ الحُميدي صاحب ابن حزم الظاهري وتلميذه في كتابه ((جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس)) ص 118 ((أن الوزير أبا عمر أحمد بن سعيد بن حزم –والد ابن حزم- كان جالساً بين يدي مخدمه المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر ، في بعض مجالسه العامة، فرفعت له رقعة استعطاف لأم رجل مسجون، كان المنصور اعتقله حَنَقاً عليه لجرم استعظمه منه.
فلما قرأها اشتد غضبه وقال: ذكَرتني –والله- به، وأخذ القلم وأراد أن يكتب : يصلب فكتب: يُطلق ، ورمى الورقة إلى وزيره المذكور، وأخذ الوزير القلم وتناول الورقة، وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرطة ، فقال له المنصور: ما هذا الذي تكتب ؟ قال: بإطلاق فلان، إلى صاحب الشرطة، فحرد وقال : من أمرك بهذا ؟ فناوله التوقيع.
فلما رآه قال: وهمت ، والله ليصلبنَّ ، ثم خط على التوقيع، وأراد أن يكتب : يصلب ، فكتب: يُطلق ، فأخذ الوزير الورقة ، وأراد أن يكتب إلى الوالي بالإطلاق ، فنظر إليه المنصور وغضب أشد من الأول ، وقال: من أمرك بهذا ؟ فناوله التوقيع ، فرأى خطه عليه.
وأراد أن يكتب : يصلب، فكتب: يطلق ، وأخذ الوزير التوقيع وشرع في الكتابة إلى الوالي، فرآه المنصور فأنكر أكثر من المرتين الأؤليين.
فأراه خطه بالإطلاق، فلما رآه عجب من ذلك وقال : نعم يُطلق على رغمي. فمن أراد الله إطلاقه لا أقدر أنا على منعه)) .انتهى. وذكره القاضي ابن خلكان في ((وفيات الأعيان)) في ترجمة (ابن حزم : علي بن سعد)1: 341، واللفظ له.
الحجاج يطلق عامر بن حطان بعد قيام السياف لقتله:
4- وحكى أبو الحسن الرقام محمد بن عمران العبدي البصري صاحب الإمام اللغوي ابن دريد، في كتابه العجاب النفيس (( العفو والاعتذار)) ص 559، قال:
((روى الأخباريون أنَّ الحجاج لما ظفر بعامر بن حطان –وهو أخو عمران بن حطا الخارجي وعلى مذهبه- الصفري، أمر بضرب عنقه، وقام السياف على رأسه، فقال:
الحجاج للسياف من شدة حنقه على عامر: اضرب ابن الفاعلة !
فرفع عامر رأسه وقال للحجاج: بئس ما أدبك أهلك يا حجاج! أبعد الموت غاية أستقبلك لها؟! ما الذي أمنك من أن أُراجعك بمثل ما ابتدئتني به من السب؟! فاستحيا الحجاج ونكس رأسه.
ثم رفع رأسه فقال لعامر: أفيك موضع للصنيعة؟ قال : نعم، فدعا له بفرس بسرجه ونفقة، وقال: امض لشأنك، فلما صار إلى قومه قالوا: عُد لقتال الفاسق –يعنون الحجاج- والله أطلقك لا هو، فقال: هيهات! غلَّ يداً مطلقها، وارتهن رقبة معتقها، وأنشأ يقول.....)). فذكر أبياتاً تزيد على العشر، قال فيها إنه لا يحب جحد الصنيعة.
فانظر –رعاك الله- إلى هذا المأمور بقتله حكماً وتنفيذاً، كيف أنجاه الله تعالى، بكلمة من قاتله غلط عليه فيها، فكانت سبب نجاته من القتل وبقائه في الحياة إلى أجله المقدر المحتوم عند الله تعالى، وقد قيل في الأمثال : نعم الحارس الأجل.
رجل أراد القائد له السلامة فكان الهلاك:
5- وحدثني بعض كبار الضباط العسكريينالصادقين، الذين كانوا في الجيش العثماني في الحرب العامّة الأولى: أنهم استعدوا مرةً لمعركة يتوقعونها مع الأعداء، وأخذ كل ضابط وجندي منهم موقعه ، وحفره وحصنه على ما قدّر واستطاع، فمر القائد بهم ليشاهد تحصناتهم ومواقعهم ، فأعجبه موقع واحد منهم بتحصنه وتمكنه، فقال للذي فيه : تحوّل عنه ، وأقام فيه واحداً من أحبائه وأعزائه.
فتحول صاحبه عنه مكرهاً ساخطاً، ولما دارت رحى المعركة ، وصب العدو نيران مدافعه، جاءت قذيفة كبيرة فنزلت في الموضع الذي تحول منه صاحبه ، وذهبت بعزيز القائد من أول ساعة، وسَلم ذاك وعاش إلى آماد بعيدة. فسبحان الذي لا يُغلَب قضاؤه وحفظه.
ولا يفهمن فاهم من هذا الخبر، أن الحذر لا يدفع القدر، فالحذر مطلوب شرعاً تحقق به دفع القدر أم لم يتحقق. وما أجمل قول التابعي الجليل مطرف بن عبد الله الشخير المتوفى سنة 95 t: ليس لأحد ان يصعد فيلقى نفسه ويقول قدر لي ربي ولكن يحذر ويجتهد فان أصابه شيء علم انه لن يصيبه الا ما كتب له. نقله الحافظ الذهبي في ترجمته في ((تذكرة الحفاظ)) 1: 64.
وجاء في ((تاريخ الإسلام)) للحافظ الذهبي أيضاً 4: 55، في ترجمة التابعي الجليل الفقيه الزاهد (مسلم بن يسار البصري) المتوفى سنة 100 رحمه الله تعالى: ((اعمل عمل رجل تعلم أنه لن ينجيك إلا عملك وتوكل توكل رجل تعلم أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك)).