تعليقات العلامة عبد الفتاح أبي غدة
على رسالة المسترشدين (للمحاسبي)
(الجزء السابع)

========================

واعلم أنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد[1] ، فإذا قُطع الرأس ذهب الجسد. وإذا سمعت كلمة تُغضبك في عِرضك فاعف واصفح عن فإن ذلك من عزم الأمور. قال عمر بن الخطاب y: من خاف الله لم يَشفِ غَيظهُ ، ومن اتقاه لم يصنع ما يريد[2]، ولولا يوم
القيامة لكان غير ما ترون.
وراع همك، واشتغل بإصلاح نفسك عن عيب غيرك[3] ، فإنه كان يقال:
كفى بالمرء عيباً أن يستبين له من الناس ما يخفى عليه من نفسه[4] أو يمقت الناس فيما يأتي مثله ، أو يؤذي جليسه ، أو يقول في الناس ما لا يعنيه.
واستعمل لله عقلك بترك التدبير[5] . واستعن بالله على صرف المقادير.
قال عليّ y : يا ابن آدم ! لا تفرح بالغنى ، ولا تقنط بالفقر ، ولا تحزن بالبلاء [6]، ولا تفرح بالرخاء ، فإن الذهب يُجرب بالنار[7] ،
وإنَّ العبد الصالح يُجرب بالبلاء[8] ، وإنك لا تنال ما تريد إلا بترك ما تشتهي ، ولن تبلغ ما تُؤمِّلُ إلا بالصبر على ما تكره ، وابذل جهدك لرعاية ما افتُرضَ عليك.

================
[1]يروى من حديث أنس عن النبي r وهو حديث ضعيف. ويروى من كلام سيدنا علي موقوفاً عليه. كما في ((الجامع الصغير)) للسيوطي. وفيه من تتمة قول سيدنا علي: ((فإذا قُطع الرأس مات الجسد)).

[2]ومن الكلام المأثور: التقيُّ ملجم لا يتكلم بكل ما يريد. من كتاب ((الجامع)) للإمام ابن أبي زيد القيرواني ص 169

[3]القاضي إياس والمغتاب لأخيه المسلم:
قال سفيان بن حسين الواسطي:ذكرت رجلا بسوء عند اياس بن معاوية المُزني قاضي البصرة، -وهو تابعي يُضرب المثل بذكائه- فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم ؟ قلت: لا ، قال: السند والهند والترك ؟ قلت: لا ، قال: أفسلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال سفيان: فلم أعد بعدها-يعني إلى عيب أحد من الناس أو غيبة-)) نقله الحافظ ابن كثير في ((البداية والنهاية)) في ترجمة (إياس) 9: 336.
الإمام ابن وهب يعالج ترك الغيبة بإخراج المال:
وجاء في ((ترتيب المدارك)) للقاضي عِياض رحمه الله تعالى. في ترجمة (الإمام ابن وهب): عبد الله بن وهب القرشي المصري. الإمام المحدث الفقيه العابد الزاهد. صاحب الإمام مالك والليث والثوري وغيرهم. المتوفي بمصر سنة 197 رحمه الله تعالى. جاء فيه 3: 240 ((قال ابن وهب: جعلت على نفسي كلما اغتبت إنساناً صيام يوم. فهان عليَّ . فجعلت عليها كلما اغتبت إنساناً صدقة درهم . فثقل عليَّ وتركت الغيبة.
[4]يستبين له أي يظهر.
[5]أي لا تعتمد على تدبير عقلك كل الإعتماد . فللعقل حدود ينتهي بصر العقل عندها. وإنما عليك التسليم لله تعالى في تدبيره مع الأخذ بالأساب التي أمرك بها. ثم تفويض الأمر إليه سبحانه وتعالى في عاقة ما يقدره لك من عطاء أو حرمان، فإنه أرحم بك من نفسك . واعلم بما ينفعك ويضرك. وقد قال في كتابه الكريم: }وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{.


[6]قال سيدنا عمر y: ما أبالي على أي حال أصبحت، أعلى ما أحب أم على ما أكره؟ ذلك لأني لا أدري الخير فيما أُحبُّ أو فيما أكره. رواه الإمام أحمد في كتاب ((العلل))1: 149.

[7]الابتلاء بالمسار وبالمضار والأول أشد:
أي يُختبر بالنار ليظهر غشه أو نقاوه. قال العلامة الفيروز آبادي صاحب ((القاموس)) في كتابه ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) 2: 274 ((اختبار الله تعالى لعباده تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المنحة والمحنة جميعاً بلاء. فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلائين، ولهذا قال عمر y: بلينا بالضراء فصبرنا، وبُلينا بالسراء فلم نصبر. وقال علي t: من وُسع عليه في دنياه فلم يعلم أنه قد مُكرَ به فهو مخدوع عن عقله. قال تعالى: ] وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[.

ثمانية أحوال تجري على الناس كلهم:
واعلم أنه لا تدوم حال واحدة على المرء في هذه الحياة، فهو متحول من حال إلى حال، ولابد أن تمر به الأحوال الثمانية التي عناها القائل رحمه الله تعالى بقوله:

ثمانية تجري على الناس كلهم***ولابد للإنسان يلقى الثمانية


سرور وحزن، واجتماع وفرقة***وعسرٌ ويسرٌ، ثم سقم وعافية

وقد قال أهل البصيرة: دوام الحال، من المُحال.

[8]عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله ليجرب أحدكم بالبلاء و هو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيئات و منهم من يخرج كالذهب دون ذلك فذلك الذي يشك بعض الشك و منهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن. رواه الحاكم في ((المستدرك)) 4: 314 وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)). وأقره الذهبي على صحيحه فقال: صحيح.
هدايا المخلوق للجنة وللنار:
قال الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى في ((الفوائد)) ص 32: ((من خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره ومن خلقه للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات)).انتهى.
النعم أضياف والبلايا أضياف:
((قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل، في كتاب ((الفنون)): ((النعم أضياف، وقِراها الشكر، والبلايا أضياف، وقراها الصبر، فاجتهد أن ترحل الأضياف شاكرة حسن القِرى، شاهدة بما تسمع وترى)).
الشدائد نعم، وفضل آثارها:
وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين ان ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم الى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون احدا سواه وتتعلق قلوبهم به لا يغيره.
فيحصل لهم من التوكل عليه والانابة اليه وحلاوة الايمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك: ما هو اعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف او الجدب أو الضر. ما يحصل لاهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من ان يعبر عن كنهه مقال او يستحضر تفصيله بال ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه.

المصيبة كير العبد لاختباره ونفعها له:
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس سره : يَا بُنَيَّ الْمُصِيبَةُ مَاجَاءَتْ لِتُهْلِكَ ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك ، يَا بُنَيَّ الْقَدَرُ سَبُعٌ ، وَالسَّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، فَالْمُصِيبَةُ كِيرُ الْعَبْدِ ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ ذَهَبًا أَوْ خَبَثًا كَمَا قِيلَ :

سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا *** فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ

اللُّجَيْنُ الْفِضَّةُ جَاءَ مُصَغَّرًا مِثْلَ الثُّرَيَّا وَكُمَيْتٌ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْلَا الْمَصَائِبُ لَبَطَرَ الْعَبْدُ وَبَغَى وَطَغَى فَيَحْمِيهِ بِهَا مِنْ ذَلِكَ وَيُطَهِّرُهُ مِمَّا فِيهِ ، فَسُبْحَانَ مِنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ :

قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ *** وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ

رضا العقل بالمقادير أوفى العبادات:
قال أبو الوفاء بن عقيل: وَاعْلَمْ أَنَّ رِضَا الْعَقْلِ بِأَفْعَالِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ فِي الْعِبَادَاتِ أَشَدِّهَا وَأَصْعَبِهَا، وقد نبهنا الله سبحانه على العجز عن ملاحظة العواقب ، فقال تعالى: ]وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[.انتهى ملتقطاً من ((الآداب الشرعية))لابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى 2: 193 و200 و204.