تعليقات العلامة (عبد الفتاح أبي غدة) يرحمه الله
على رسالة المسترشدين (للمحاسبي)
(الجزء السادس)


========================


وخف الله في دينك ، وارجهُ في جميع أمورك[1]، واصبر على ما
أصابك[2] ، قال علي y: لا تخف إلا ذنبك ، .................................................. .................... ولا ترجُ إلا ربَّك[3]، ولا يستحي الذي لا يعلم أنْ يَسأل حتّى يعلم ، ولا يستحي من يُسأل عمّا لا يعلم أنْ يقول: لا أعلم[4].

================
[1] قرب الله من الداعين إياه بسرِّهم:
فإنه سبحانه هو الذي تخاطبه همساً وقت تريد، وتطلب من مناجاة كل ما تشاء، وتُسِرُّ إليه بما لا يطلع عليه غيره، ويجيبك بحكمته ولطفه بما يشاء، ووقت ما يشاء، وهو الحكيم العليم السميع البصير القدير على كل شيء، الذي تعرَّض لك بقوله- تفضيلاً وتكرماً دون توقيت أو واسطة أو تعيين زمان أو مكان-: ]ادعوني أستجب لكم) فبابه مفتوح دون حجاب أو بواب، وهو الذي يرجى في جميع الأمور، ولو رجوته في قلبك أجابك أيضاً، لا إله إلا هو، فلا ترجُ سواه.
أشد ما يكون الكرب أقرب ما يكون الفرج:

[2]ولا تظنن أنَّ الكرب لا ينتهي ظله، فلكل شيء أجل، واعلم أنَّ الفرج يأتي من قلب الشدة والضيق، وشواهده كثيرة، ومنها قوله تعالى: ]وبشر الصابرين[ ليفيد أنَّ الصابر يستقبل بشارة من فرج أو أجر أو نصر أو يسر....
قصة كرب الأمة السوداء وانفراجه:
ومن الشواهد على ذلك ما رواه البخاري في ((صحيحه)): عن ((عائشة t أنَّ وليدة –أي أمة رقيقة- أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم قالت فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور قالت فوضعته أو وقع منها فمرت به حُديَّاةٌ وهو ملقى فحسبته لحما فخطفته.
قالت فالتمسوه فلم يجدوه قالت فاتهموني به قالت فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلي.
قالت والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته قالت فوقع بينهم قالت فقلت هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو هو ذا.
فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد –أي خيمة- أو حفش –أي كوخ- فكانت تأتيني فتحدث عندي. قالت فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا *** ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا ؟ قالت فحدثتني بهذا الحديث.)).
رواه البخاري في كتاب الصلاة (باب نوم المرأة في المسجد) 1: 533.


لاأدع باباً مفتوحاً وأقصد باباً مغلقاً:

[3]وما أعظم هذا التوجيه ، وما أفضل العمل به ، جاء في ترجمة الفقيه المحدث الزاهد العابد الصالح أحمد بن أبي غالب بن الطلاية البغدادي، المتوفى سنة 548 رحمه الله تعال، وكان يقصده الناس للدعاء لهم لكثرة صلاحه: ((جاء إليه رجل فقال: سل لي فلانًا في كذا، فقال أحمد: يا أخي، قم معي نصلي ركعتين، ونسأل الله تعالى، فإني لا أترك بابًا مفتوحًا وأقصد بابًا مغلقًا.)) ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب 1: 224، فلا تدعِ الباب المفتوح إذا قصدت الباب المغلق، فصل لله ركعتين وادعه، فإنه قريب مجيب وحكيم عليم.
الأمير المحتاج إلى الله :
وذكر ابن الجوزي في كتاب ((اللقط في حكايات الصالحين)) في الحكاية 507، قال عبد الرحمن بن إبراهيم الفِهري: أتى رجل بعض الأمراء في حاجة، فوجده ساجداً يدعو ربَّه عزَّ وجل، فقال: هذا محتاج إلى غيره فكيف أحتاج أنا إليه؟ فسمعه الأمير، فلما رفع رأسه قال:عليَّ بالرجل، فأُتي به، فقال: أعطوه عشرة آلاف، وقال: إنما أعطاك هذا من كنت أدعوه وأنا ساجد ومن رجعت إليه)).
[4]قال عبد الله بن عمر t: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسُنّة قائمة، ولا أدري. رواعه عنه الدارقطني في ((غرائب مالك)) والخطيب البغدادي في ((أسماء من روى عن مالك)). ورواه أبو داود في أول كتاب ((الفرائض)) 3: 164 بسند ضعيف، نقله المناوي في ((فيض القدير)) بشرح الجامع الصغير)) للسيوطي 4: 387- 388.


قول العالم لا أدري رفعة له:
ثم قال المناوي رحمه الله تعالى في شرحه: ((وأخذ من الحديث أن على العالم إذا سئل عما لا يعلمه أن يقول لا أدري أو لا أحققه أو لا أعلمه أو الله أعلم وقول المسؤول لا أعلم لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة لأن العالم المتمكن لا يضر جهله ببعض المسائل بل يرفعه قوله لا أدري لأنه دليل على عظيم محله وقوة دينه وتقوى ربه وطهارة قلبه وكمال معرفته وحسن نيته وإنما يأنف من ذلك من ضعفت ديانته وقلت معرفته لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين ولا يخاف من سقوطه من نظر رب العالمين وهذه جهالة ورقة دين ومن ثم نقل لا أدري ولا أعلم عن الأئمة الأربعة والخلفاء الأربعة بل عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وجبريل عليهما السلام كما مر في حديث خير البقاع المساجد)). انتهى. ثم أورد المناوي أقوال الصحابة وغيرهم في هذا الموضوع.
وقال الإمام أبو الحسن الماوردي في كتابه النافع العظيم ((أدب الدنيا والدين)) ص 82: ((فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى الْإِحَاطَةِ بِالْعِلْمِ سَبِيلٌ فَلَا عَارٌ أَنْ يَجْهَلَ بَعْضَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي جَهْلِ بَعْضِهِ عَارٌ لَمْ يَقْبُحْ بِهِ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ فِيمَا لَيْسَ يَعْلَمُ)) انتهى.
لا أدري نصف العلم:
وقال الإمام الغزالي في ((الإحياء)) 1: 69، عقب ذكره قول الشعبي: ( لا أدري نصف العلم): ((ومن سكت حيث لا يدرى لله تعالى فليس بأقل أجرا ممن نطق لأن الاعتراف بالجهل أشد على النفس. وقال أبو طالب المكي في ((قوت القلوب)): ولأن حُسن من سكت من أجل الله تورعاً، كحسن من نطق لأجله بالعلم تبرعاً)). انتهى.
إن قلت لا أدري علموك حتى تدري:
وروى ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) 2: 55 عن بعض أهل العلم قال((تعلم لا أدري ، ولا تعلم أدري ، فإنك إن قلت: لا أدري ، علموك حتى تدري ، وإن قلت: أدري سألوك حتى لا تدري !)).وذكره ابن القيم في((أعلام الموقعين)) 4: 218. وروا أبو خيثمة النسائيفي ((كتاب العلم)) له ص 120 ((عن عبد الله بن مسعود t، قال: إن من العلم أن يقول الذي لا يعلم : ألله أعلم)). انتهى. وسأل إبراهيم النخعي عامراً الشعبي –الإمام الذي كان عالم زمانه في التابعين- عن مسألة ، فقال: لا أدري، فقال النخعي: هذا والله العالم، سئل عما لا يدري ، فقال: لا أدري)).