بقلم الدكتور شاهدمسعودكاتب وصحفي مشهور يكتب في جريدة "جنك" وهي أكبر جريدة يومية فيباكستان، وصاحب برناج معروف في قناة "جيو" الباكستانية الخاصة.
ترجمة الدكتورمحمد على غوري أستاذ مشارك في كلية اللغة العربية والحضارة الإسلامية في الجامعةالإسلامية العالمية في إسلام أباد.(بتصرف بسيط)

لم تكن جريمتهن إلّا أنّهنكن يردن تطهير المجتمع من الفساد. خرجن واختطفن امرأة تدير ماخوراً للدعارة تحترعاية كبار رجال الدولة ورغم علم الشرطة، وأحضرنها معهن إلى جامعة حفصة، وبعد أنأفهمنها خطأها، وجعلنها تتوب وتلبس العباءة أطلقن سبيلها، دون أن يمسسنها بسوء.

ثم وصلن إلى مركز للتدليك، واختطفن نساء صينيات كن يمارسن الفاحشة في هذاالمركز، وهددنهن ونصحنهن ثم... تركنهن لحالهن. كان العالم يشاهدهن يمشين والعصي فيأيديهن، ولكنّهن لم يكسرن بها رأس أحد. في بلد يستولي فيه المسئولون الكبار بغير حقعلى ممتلكات الدولة نهاراً جهاراً قامت طالبات جامعة حفصة بالاستيلاء على جزء منمكتبة للأطفال المجاورة للجامعة احتجاجاً على هدم الحكومة لثمانية مساجد ومطالبينإيّاها أن تعيد بناءها.

في عاصمة البلد وفي وسط المترفين وأصحاب الفكر النيرالذين يقضي أكثرهم الليالي الحمراء في بيوت فخمة عاشت هؤلاء المسكينات البسيطاتاللاتي لم يكنّ يظهرن أمام النّاس إلّا باللباس الشرعي، كانت هذه الأرواح الطاهرةالبريئة، تتلو القرآن آناء الليل وأطراف النهار.

حين التقيت بهن لأول مرة فيالجامعة أحسست بحرمانهن ومللهن، ورأيت في أعينهن الهمّ والشكوى من المجتمع، وكانتالعصي التي في أيديهن الخالية من أية زينة، الخالية من الأساور والأصباغ تدل علىعزمهن. كل ذلك ظهر جلياً من خلال أعين أولئك الشريفات الطاهرات اللاتي ينحدرن منأسر فقيرة. وحين تجرأت على الاختلاف معهن حول أسلوب العمل وطريقة العلاج تسابقن فيالرد علىّ. يا أخ شاهد... ما أدراك...؟ يا دكتور... أنت لا تعرف... . منهن منتستشهد بآية، ومنهن من تستدل بحديث. انطلقت الأصوات من كل مكان. هل تعرف ماذا يجريفي أمريكا؟ هذه مؤامرة يهودية. أعداؤنا يتآمرون علينا. هذه حروب صليبية... إلخ إلخ. لم أتمكن من إسكاتهن إلّا بصعوبة كبيرة، وبعد أن اعترفت بخطئي.

أخبرتني أمحسان مديرة الجامعة أنّ هؤلاء الطالبات هنا منذ مدة طويلة ولم يتعودن على الحديث معالرجال، ولكنّهن أصررن على اللقاء بك والحديث معك. رأيت السلامة في الصمت والاستماعإليهن. كان عالماً آخر غير العالم الذي أعرفه. ربّما رأين من فتحات غرفهن المظلمةالصغيرة بناتاً في أعمارهن يلبسن أحدث الموديلات، وربّما وهن يمشين في الشوارع رأينالفتيات يلبسن "التي شيرت والجينز" وما شابه، وربّما وهن ذاهبات إلى السوق القريبةسمعن أغاني العشق والغرام. ربّما راودتهن الأحلام الوردية وخاصة في هذا العمر،وربّما هفت قلوب بعضهن إلى شريك لحياتهن والدخول في قفص الزوجية، وخياطة ملابسجديدة في المناسبات كمناسبة العيد، وربّما تاقت أنفسهن إلى أن تخضبن أيديهن بالحناءكما تفعل من في عمرهن من البنات. ولكنّي لم أحس بشيء من تلك الآمال والرغبات فقداختفت كلها وراء العباءات. لم أسمع سوى تلك الأصوات، التي ما زال صداها يرن في أذنيحتى اليوم. من بين أولئك بنت صغيرة في حدود الثامنة من عمرها، كانت تلبس حجاباً لايظهر منها سوى وجهها. كانت تقف على بعد لا تنقطع عن الضحك، ربّما بسبب النقاش الذيكان يدور بيني وبين الطالبات.

سألتها:ما اسمكيا ابنتي؟أجابت:أسماء يا "أنكل".

ضربتها أختها الواقفة خلفها على رأسها ضرباً خفيفاً،وقالت: قولي يا أخي. لم أعرف لم ضحك الملاك الصغير على ذلكأيضاً، ثمقالت:نعم يا أخي.

-
ماذا تفعلينهنا؟

-
أدرس.

-
ماذا تدرسين يا ابنتي؟أجابت أختها:تحفظ القرآن يا أخي.

-
هل تدرسين شيئاًآخر؟أجابت أختها التي تبدو في الخامسة عشرة من عمرهاوكانت متنقبة:تقول أنّها سوف تصبح طبيبة.

-
هل أنتماشقيقتان؟ضمت الأخت الكبيرة أختها الصغيرة إليها،وقالت:نعم يا أخي، ولنا ثلاثة أخوة في القرية، نحن من "بتهجرام"، ولنا فيها أراضي زراعية.

كنت قد حضرت إلى جامعة حفصة والمسجدالأحمر لعمل لقاء تلفزيوني مع القائمين عليه. وبعد الانتهاء من الحوار مع الشيخ عبدالرشيد غازي ومع الطالبات ودعتهن وتوجهت مع الشيخ إلى غرفته، ولكن الصغيرة أسماءتبعتنيوقالت وهي تتنهد:يا أخي، أكتب لي نصيحة "أوتوجراف". اسمي أسماء واسم أختي عائشة. كعادتي كتبت أدعو لها بطول العمر، وما أنخطوت خطوة أخرى حتى طلبت مني رقم هاتفي الجوال، ووعدت بأن لا تزعجني. لا أدري لمأعطيتها رقمي رغم أنّي لا أفعل ذلك عادة؟ وحين أعطيتها رقمي لمعت عينيها من الفرح. وأثناء ذلك سحبني الشيخ عبد الرشيد من يديقائلاً: يادكتور، دعك منها إنّها ستزعجك كثيراً، تعال فقد برد الطعام، والشيخ عبد العزيز فيانتظارك. رأيت الطفلة وهي تجري مبتعدة.

وبين الدهاليز الضيقة وصلت إلى غرفةالشيخ، وهناكقال لي: يا دكتور، أرجو المعذرة علىالإزعاج، فوالدتي تريد أن تدعو لك. تناولنا الطعام على المائدة المفروشة على الأرض،وخلال ذلك التحق بنا الشيخ عبد العزيز. دار الحديث بيننا في قضايا وأمور كثيرة،وحين أردت الانصراف أعطاني الشيخ عبد العزيز مجموعة من مؤلفاته، وأخذ مني عهداًبتكرار الزيارة، ثم قاما يودعاني حتى بوابة الجامعة. في الحقيقة لم أقتنع كلياً بماقاله الشيخان. خلال وجودي في الجامعة رأيت بضعة أشخاص مسلحين يمشون هنا وهناك. صافحت بعضهم، ولكنّي تجنبت الحديث معهم. وما أن خطت قدماي بوابة الجامعة حتى وجدتالعفريتة أسماء أمامي: يا أخي، لن أتصل بك، لأنّ رصيد أختي سينتهي، ولكنّي سأرسل لكأحياناً بعض الرسائل، وأرجو أن ترد علي. أرجوك يا أخي.

رأيت في عينيهابراءة الطفولة. فقلت لها:حسناً يا ابنتي، مع السلامة،رعاك الله. وقبل أن أخرج التفت فرأيت أختها تنظر من شرفة الجامعة. كانت هذه كلدنياهما.

من كانتا؟ وأينذهبتا؟أصدقائي الذين يعرفوني يعلمون جيداً أنّي أعيش في عالمالأخبار، لا أكاد أبتعد عن الجرائد والمجلات والكتبوالأوراق، وفي خضم ذلك كنت بينالحين والآخر أتلقى رسائل، إمّا آية كريمة أو حديثاً شريفاً أو دعاء من الأدعيةبتوقيع أسماء!

الحق أنّي في البداية لم أعرف من هي أسماء، كنت قد نسيتها فيغمرة العمل المتواصل، إلّا حين وصلتني منها رسالة تسألني فيها: متى تزورنا في جامعةحفصة؟ عندئذ تذكرتها، إنّها أسماء تلك العفريتة الصغيرة المتحجبة التي أخبرتنيأنّها سوف ترسل لي رسائل على الهاتف الجوال "مسج". قلتلها:قريباً. قالت:شكراً يا أخي.

وقبلأيّام بدأ الهجوم العسكري على المسجد الأحمر وجامعة حفصة، فبحثت عن رقم أسماء وعنالآيات والأحاديث والأدعية التي كانت ترسلها فلم أجد، لأنّي كنت قد مسحت جميعرسائلها مع الرسائل الأخرى. قلت لنفسي أطمئنها ربّما خرجت مع أختها مع من خرج. ربّما ذهبتا مع أهلهما إلى القرية سالمتين، وربّما لم تجد أسماء في غمرة الأحداثفرصة لترسل لي رسالة تخبرني بما حدث.

إذا ما سمعت عن قرب عملية الاقتحامالعسكري للمسجد أو تناهى إلى أذني دوي القنابل أو أصوات الرصاص، أو سمعت عن خروجدفعة أخرى من الطالبات من الجامعة أو - كما كانت تعلن الحكومة - عن وجود طالباتوأطفال كثيرين يحتجزهم أصحاب المسجد، كنت ألتفت إلى هاتفي لعله يرن أو تصلني منأسماء رسالة.

من كانتا؟ وأينذهبتا؟في ليلة الثامن من يوليو تلقيت رسالة مختصرة جاء فيها: أخي، انتهى الرصيد عندي، أرجو الاتصال. اتصلت فإذا هي طفلتي الصغيرة أسماء، وكانتتبكيوتقول:يا أخي، أنا خائفة. الرصاص في كل مكان،سأموت. طلبت منها أن تعطي الجوال لأختها بسرعة. وحين أمسكت أختها بالهاتفقلت لها:أخرجا من الجامعة بسرعة، فالوضع سيء جداً، وسأحاولإخراجكما من هناك. ارتفع دوي القنابل، فأحسست بأسماء تلتصق بأختها، حيث كنت أسمعصراخها وعويلها. قالت عائشة بكل ثقة:يا أخي، لنيقتلونا، ولم يقتلوننا؟ أليسوا إخواننا؟ أليسوا مسلمين ينطقون بالشهادتين مثلنا؟ ثمما جريمتنا؟ أنت تعلم يا أخي نحن لم نفعل شيئاً سوى أنّنا أخذنا الأخت شميموفهّمناها ثم أطلقنا سراحها، وهذا ما فعلناه مع أخواتنا الصينيات. هم يخوفوننا فقط،وهذه ليست إلّا سياسة.قلت لها:اسمعيني جيداً. الوضعسيء جداً. أنا أخبرك. أخرجا من هناك فوراً، أرجوكما. ثم وجدت نفسي آمرهما بالخروج،ولكنهاقالت تطمئنني:يا أخي، لا داعي للقلق. يقول لناالشيخ عبد الرشيد أنّهم يريدوننا أن نركع أمامهم. لا تقلق، فإخواننا في الخارجيحرسوننا. لن يحدث شيء، وسترى. والآن حضر الجيش وسوف يطرد الشرطة الأوباش من هنا. ألا تعلم أنّ جيشنا مسلم متمسك بإسلامه، ولماذا يقتلوننا؟ هل نحن مجرمون؟ هل نحنكفار أو هندوس؟كانت على ثقة مّمّا تقول إلى درجة أنّها لم تكن مستعدة لئنتسمع شيئاً.

-
أخي الدكتور، هل تحاول إخافتنا؟ أنت تعلم أنّ هذه الأمور تسيرهكذا دائماً، وأسماء خائفة أكثر من اللازم. نعم ثمة أمر آخر، أرجو أن لا تذكرأسماءنا أمام أحد، فالاستخبارات سوف تقبض على والدنا ووالدتنا وإخوتنا في القرية. كل شيء سيكون على ما يرام يا أخي، وكن على يقين بأنّ هؤلاء لنيقتلوننا.

أغلقت الهاتف داعياً لها ولأختها بالسلامة.

وفي اليومالتالي جرت المفاوضات بين العلماء والحكومة لساعات طويلة. في الحقيقة كنت ومنذأسبوع منذ بداية الحصار وبدء العملية العسكرية أتمنى أن ينتهي هذا الكابوس. أحسستوأنا أتابع أخبار المفاوضات وهي تدخل مراحلها الأخيرة بشيء غير طبيعي، فقمتبالاتصال هاتفياً ببعض الشخصيات الكبيرة في العاصمة إسلام أباد، وأبديت لهم مخاوفي،ولكنّهم لم يتفقوا معي، ولم يروا لمخاوفي أية مبررات. وكانت مخاوفي في محلها، حيثبعد ذلك بقليل فشلت محاولات العلماء، وانتهى اللقاء الصحفي الذي عقده الشودري شجاعتحسين رئيس حزب الرابطة الإسلامية فرع "ق" الموالي للحكم العسكري، وبدأت عمليةالاقتحام العسكري للمسجد والجامعة وبكل عنف، حتى أنّ أحد المسئولين الحكوميين الذينحضروا هذا الهجوم وصفه بأنّه يشبه هجوم دولة كبيرة مثل الهند على دولة صغيرة مثلالبوتان!

أعلن الهجوم، وانطلق الرصاص بكثافة في كل مكان في المسجد والجامعة،وانفجرت القنابل، وألقيت الغازات المسيلة للدموع. كان هجوماً برياً وجوياً أيضاًحيث كانت الطائرات المروحية تشارك القوات البرية في الهجوم. كان هجوماًكاسحاً!

أثناء ذلك تسنت لي فرصة الحديث مع الشيخ عبد الرشيد غازي عن طريقالهاتف الجوال، وعلمت منه أنّ والدته تلفظ أنفاسها الأخيرة. وعند الفجر - أي بعدبدء الهجوم الأخير بقليل، حيث بدأ الهجوم في الساعة الرابعة قبيل الفجر - وصلتنيرسالة: أرجو الاتصال. تلك كانت أسماء.

اتصلت بها من فوري. سمعت صراخاًوعويلاً. أصوات بنات يصرخن ويبكين.

-
أسماء ابنتي.

لم أسمع جواباً. يعلم الله ماذا كان يحدث هناك في تلك الساعة.

-
ابنتي أسماء، هل تسمعينني؟أخبريني بما يحدث؟قالت وهي تصيح:أختي ماتت،ماتت عائشة. ثم انقطع الاتصال.

في تلك اللحظات كانوا يطلبوني في الاستوديومرة بعد مرة لأعلق على الأحداث، ولكنّي كنت مشغولاً بمحاولة الاتصال بأسماء مرةأخرى. لم أكن في وضع يسمح لي بالحديث أو التعليق على أي شيء. علام أعلق؟ أعلى شجاعةوبسالة القوات الخاصة التي تنفذ عملية اقتحام المسجد والجامعة؟ أو على تدين إعجازالحق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الذي كان رأس حربة في المفاوضات التي سبقتالعملية العسكرية والتي فشلت؟ أو على صدق طارق عظيم وزير الدولة لشؤونالإعلام؟طغى دوي المدافع على كل شيء، ولكنّي لم أكن أسمع سوى صوت عائشة: لنيقتلونا. لم يقتلوننا؟سيكون الدخان قد ملأ غرف الجامعة المظلمة الصغيرة. الرصاص لا ينقطع عن الانطلاق. طالبات كثيرات مازلن في الجامعة. محاولات فاشلةللاتصال بأسماء. النّار تحرق كل شيء في المسجد والجامعة. كنت أريد أن أرسل لأسماءالدعاء الأخير في مقابل الأدعية الكثيرة التي كانت ترسلها لي، ولكنّيفشلت.

بزغ الفجر، وانطلق الأذان من على منابر المساجد، وأنا أتوضأ؛ تذكرتهاوهي تحدثني وبراءة الأطفال في عينيها. كانت تلبس عباءة سوداء. لا شك هي الآن أجملفي كفنها الأبيض، مثل الحوريات!
هنيئاً لمن يرعون مراكز الدعارة في البلد. أصبحتإسلام أباد الآن آمنة مّمّن يعكر صفوهم... وربّما حزينة أيضاً.

سيظل هذاالسؤال يطاردني ما بقيت:

من كانتا؟ وأينذهبتا؟