الضوابط والقواعد الشرعية الواجب اتباعها في الفتن
* الأول من تلك الضوابط والقواعد:
فأول تلك الضوابط والقواعد : أنه إذا ظهرت الفتن , أو تغيرت الأحوال ؛ فعليك بالرفق والتأنِّي والحلم , ولا تعجل.
هذه قاعدة مهمة : علك الرفق , وعليك التأنِّي , وعليك بالحلم.
ثلاثة أمور:
* أما الأمر الأول – وهو الرفق - ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه في الصحيح : « ما كان الرفق في شئ؛ إلا زانه, ولا نزع من شئ إلا شانه».
قال أهل العلم : قوله : « ما كان في شئ إلا زانه» : هذه الكلمة:« شئ» : نكرة أتت في سياق النفي , والأصول تقضي بأنها تعم جميع الأشياء ؛ يعني : أن الرفق محمود في الأمر كله .
وهذا قد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :« إن الله يحب الرفق في الأمر كله »؛ قاله عليه الصلاة والسلام لعائشة الصديقة بنت الصديق , وبوّب عليه البخاري في الصحيح ؛ قال ؛« باب الرفق في الأمر كله ».
في كل أمر عليك بالرفق , وعليك بالتؤدة , ولا تكن غضوباً ولا تكن غير مترِّفق ؛ فإن الرفق لن تندم بعده أبداً , ولم يكن الرفق في شئ إلا زانه ؛ في الأفكار ... وفي المواقف.... فيما يجد ... وفيما تريد أن تحكم عليه ... وفيما تريد أن تتخذه ...
عليك بالرفق , ولا تعجل , ولا تكن مع المتعجَّلين إذا تعجَّلوا , ولا مع المتسرعين إذا تسرعوا , وإنما عليك بالرفق ؛ امتثالا لقول نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم : «إن الرفق ما كان في شئ إلا زانه ».
فخذ بالزين , وخذ بالأمر المزين , وخذ بالأمر الحسن , وإياك ثم إياك من الأمر المشين , وهو أن ينزع من قولك أو فعلك الترفق في الأمر كله .
* أما الأمر الثاني ؛ فعليك بالتأني ؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة ».
والتأنّي خصلة محمودة , ولهذا قال جلّ وعلا : (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا..) .
قال أهل العلم : هذا فيه ذمُّ للإنسان , حيث كان عجولاً ؛ لأن هذه الخصلة ؛ من كانت فيه ؛ كان مذموماً بها , ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم غير متعجل.
* وأما الأمر الثالث ؛ فهو الحلم , والحلم في الفتن وعند تقلب الأحوال محمود أيما حمد , ومثنىً عليه أيما ثناء ؛ لأنه بالحلم يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها , ويمكن بالحلم أن نبصر الأمور على ماهي عليه .
ثبت في « صحيح مسلم » من حديث الليث بن سعد عن موسى بن عُلًيّ عن أبيه : أن المستورد القرشي – وكان عنده عمرو بن العاص رضي الله عنه - ؛ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « تقوم الساعة والروم أكثر الناس » . قال عمرو بن العاص له – للمستورد القرشي - : أبصر ما تقول ! قال: وما لي أن لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إن كان كذلك ؛ فلأن في الروم خصالاً أربعاً: الأولى : أنهم أحلم الناس عند الفتنة . الثانية : أنهم أسرع الناس إفاقةً بعد مصيبة ... وعد الخصال الأربع وزاد عليها خامسة .
قال أهل العلم : هذا الكلام من عمرو بن العاص لا يريد به أن يثني به على الروم والنصارى الكفرة ؛ لا ! ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة لأنهم عند حدوث الفتن هم أحلم الناس ؛ ففيهم من الحلم ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها ؛ لأجل أن لا تذهب أنفسهم , ويذهب أصحابهم .
هذا ما حصل ما قاله السنوسي والأبي في شرحهما على «صحيح مسلم » .
وهذا التنبيه لطيف ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس ؛ لماذا ؟!
قال عمرو بن العاص : « لأن فيهم خصالاً أربعاً : الأولى ( وهي التي تهمنا من تلك الخصال ) : أنهم أحلم الناس عند فتنة » ؛ يعني : إذا ظهرت تغير الحال , وظهرت الفتن ؛ فإنهم يحلمون , ولا يعجلون , ولا يغضبون ؛ ليقوا أصحابهم النصارى القتل ويقوهم الفتن ؛ لأنهم يعلمون أن الفتنة إذا ظهرت ؛ فإنها ستأتي عليهم ؛ فلأ جل تلك الخصلة فيهم بقوا أكثر الناس إلى قيام الساعة.
ولهذا ؛ فإننا نعجب أن لا نأخذ بهذه الخصلة التي حمد بها عمرو بن العاص الروم , وكانت فيهم تلك الخصلة الحميدة ونحن أولى بكل خير عند من هم سوانا .
الحلم المحمود في الأمر كله .....؛ فإنه يبصر عقل العقل في الفتنة بحلم وأناته ورفقه , فيدل على تعقله وعلى بصره .
هذا الضابط هو الأول , وهذه القاعدة الأولى التي رعاها أهل السنة والجماعة عند ظهور الفتن , وعند تقلب الأحوال .
وهذه الضوابط والقواعد بعضها ضابط وبعضها قاعدة, دمجتها لأجل اشتراك البعض مع البعض الآخر في المعنى.
* الثاني من تلك الضوابط والقواعد:
أنه إذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال , فلا تحكم على شئ من تلك الفتن أو من تغير الحال إلا بعد تصوُّره ؛ رعاية للقاعدة: « الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره».
وهذه القاعدة رعاها العقلاء جميعاً قبل الإسلام وبعد الإسلام , ودليلها الشرعي عندنا في كتاب الله جل وعلا : قال الله جل وعلا : (ولا تقف ما ليس لك به علم .) ؛ يعني : أن الأمر الذي لا تعلمه ولا تتصوره ولا تكون على بينه منه؛ فإياك أن تتكلم فيه , وأبلغ منه أن تكون فيه قائداً , أو أن تكون فيه متبعاً , أو تكون فيه حكماً .
« الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره »
وهذه القاعدة أنتم تستعملونها في أموركم العادية , وفي أحوالكم المختلفة , العقل لا بدَّ له من رعاية تلك القاعدة , ولا يصلح تصرفٌ ما ؛ إلا بأن يرعى تلك القاعدة ؛ لأنه إن لم يرع تلك القاعدة ؛ فإنه سيخطئ ولاشك , والشرع قرَّرها أيما تقرير , وبين تلك القاعدة أيما بيان .
أضرب أمثلة لكي تتضح تلك القاعدة :
- فمثلاً : لو سألت واحداً منكم , وقلت له: ما حكم الإسلام في بيع المرابحة ؟
قد يأتي قائل ويقول : الربح مطلوب , الربح لا شئ فيه في الشرع ؛ فلا بأس في بيع المرابحة .
فيكون حكمه على هذه المسألة غلط صرف ؛ لأنه لم يتصور المراد بقول القائل : ما حكم الإسلام في بيع المرابحة ؟ وظن أن معنى المرابحة : هو الربح في البيع , ولأجل تصوره الذي غلط فيه أخطأ في الحكم الشرعي.
والحكم في الشرع لا بدَّ أن يُبنى على تصور صحيح , والمرابحة نوع من أنواع البيع الذي لا يجوز , تستعمله بعض البنوك الإسلامية تحايلاً على الربا , وصورته أنه مبنيُّ على توكيل للغير, وبعد التوكيل يكون هناك إلزام بالوفاء بالوعد ؛ فالوعد الذي وعده الموكل لوكيله هو ملزم بالوفاء فيه , وهذا لا يجوز في الشرع , فكان بيع المرابحة غير جائز.
- مثالاً أخر يبين لك قاعدة « الحكم على الشيء فرع عن تصوره » : لو سألت واحداً منكم : ما حكمناً على جماعة « شهود يهوه » ؟ ماذا سيقول أحدكم ؟
إن كان مطلعاً ؛ فسيقول : هذه جماعة كيت وكيت , وحكم الإسلام فيها كذا وكذا .
وقد يكون قائل يقول : لا أعلم ما هذه الجماعة جماعة شهود يهوه ؟ ولم أسمع بها قبل ؛ فهنا لا تستطيع أن تحكم عليها , ولا تبين حكما شرعياً فيها ؛ لأنك لم تتصور هذه الجماعة ؛ ماهي ؟ وما مبادئها ؟ وهل هي إسلامية أو نصرانية أو يهودية ؟ فلن تحكم عليها إلا بعد تصورها .
إذا تبين لك ذلك ؛ فإن الحاكم أو المفتي أو المتكلم في المسائل الشرعية لا يجوز له أن يتكلم – رعاية لحق نفسه , ورعاية لخلاص نفسه من الإثم , ثم رعاية لحق المسلمين جميعاً , وتبرياً من القول على الله بلا علم - ؛ إلا إذا حصل له أمران :
* الأمر الأول : أن يتصور القضية المطروحة تماماً ؛ بحيث لا تلتبس عليه في قضية أخرى , ولا تشترك في تصوره وفهمه بمسألة أخرى , لأنه أحياناً تشترك بعض المسائل , وتقترب صورة مسألة من صورة مسألة أخرى , فينتقل ذهنك إلى مسألة مشابهة ؛ فعند ذلك تقع في ذلك الخطأ.
* الأمر الثاني : أن تعلم حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بعينها , لا في المسألة التي تشبهها.
وإذا ثبت ذلك ؛ فها هنا سؤال مهمُّ : يقول أحدكم : كيف يحدث لي هذا التصور ؟! كيف أتصور هذه المسألة ؟! وممَّن أتصورها ؟! فإن المسائل مشتبه ومتشابهة , وبعضها يشكل وبعضها قد لا أجد مَن يبيِّنه لي ويصوِّره لي التصور الصحيح .
فنقول : التصور الذي ينبني عليه الحكم الشرعي هو ما كان :
أولاً : من المستفتي : فإن المستفتي هو الواقع في المسألة ؛ فإذا سأل وإذا شرح مسألة ؛ حصل التصور ؛ فالمفتي يبيُّن له ذلك الحكم وفق استفتائه.
ثانياً : يكون التصور بنقل العدول الثقاة المسلمين , الذين لا يشوب نقلهم شائبة تجعلهم يخطئون في النقل ومن ثم نخطئ في الحكم على الشيء , لا بد من نقل عدلٍ ثقة في المسألة .
فعند ظهور الفتن , واختلاف الأحوال ؛ لا يجوز أن نعتمد على كلام كافر مثلاً ؛ ذكر تصوره أو ذكر تحليله في إذاعة ما , أو ذكر تصوره وتحليله في مجلة ما , أو في تقريرٍ ما ,
هذا لا يجوز شرعاً أن يبني عليه حكماً شرعيّاً , وإنما الحكم الشرعي يبني على نقل المسلم العدل الثقة .
فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل ممَّن يأتي بها ؛ إلا إذا كان الإسناد بنقل عدول ضابطين عن مثلهم إلى منتهاه , إذا كان في الإسناد فاسق ؛ فإنه قد انخرمت مروءته , وإذا كان في الإسناد مَن ليس بضابط , من يأتي بشيء ويخلطه مع شئ أخر ؛ فإنه لا يقبل , ولا ينبني على ذلك الحديث حكم شرعي .
ولهذا ؛ فإنه لا بدَّ من رعاية هذه المسألة .
تلخَّص من هذا : أن هذه القاعدة : « الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره » : أساسها التصور , ولا يمكن أن يكون صحيحاً في الشرع إلا إذ كان من مسلم عدلٍ ثقة , أو كان من المستفتي نفسه , ولو كان فاسقاً.
* الثالث من تلك الضوابط والقواعد :
أن يلزم المسلم الإ نصاف والعدل في أمر كله .
يقول الله جلَّ وعلا : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى )(الأنعام: من الآية152)..) .
ويقول جلَّ وعلا : )ِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8)
وقد بُيِّنَتْ هذه المسألة بياناً شافياً كافياً ؛ من أنه لابدَّ من العدل في الأقوال , ولا بدَّ من العدل في الأحكام , وأن من لم يعدل في قوله , أو يعدل في حكمه ؛ فإنه لم يتبع الشرع اتباعاً يرجو معه النجاة .
ما معنى العدل ؟ وما معنى الإنصاف في هذه القاعدة ؟
معناه : أنك تأتي بالأمور الحسنة أو بالأمور السيئة , تأتي بهذا الجانب الذي تحبه , وذلك الجانب الذي لا تحبه , ثم توازن وتعرض لهما عرضاً واحداً , وبعد ذلك تحكم ؛ لأنه – جزماً – يحصل من عرض الجانبين معاً ما يعصم المرء من أن ينسب للشرع أو ينسب إلى الله جلَّ وعلى أو إلى سنة من سننه الكونية ما ليس موافقاً لما أمر الله جلَّ وعلا به .
فلا بدَّ من عرض الحسن والقبيح ؛ عرضهما على الذهن , حتى تصل إلى نتيجة شرعية , وحتى يكون تصورك ويكون قولك أو فهمك أو رأيك في الفتنة منجياً إن شاء الله تعالى.
وهذه مسالة مهمة , وقاعدة لا بدَّ من رعايتها ؛ لأنه مَن لم يرع هذه القاعدة ؛ دخل الهوى إلى قلبه من مصراعيه , ولم يأمن أن يفتح باب الهوى على غيره , ومن ثم يكون داخلاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم : « ومَن سنَّ سنَّة سيئة ؛ فعليه وزرها و وزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة » , وتكون المصيبة أعظم إذا كان الفعل ممَّن ينتسب إلى العلم والهدى ؛ لأنه يقتدي بفعله الجاهل , ويقتدي بفعله نصف المتعلم .
فإذا ؛ لابدَّ من أن نرعى هذه القاعدة في أمرنا كله , ومَن سلم من الهوى ؛ فإن الله جل وعلا سينجيه في الآخرة والأولى .
الروابط المفضلة